رجب سعد السيد
فور وصولي إلى المبنى، أرشدني فردُ حراسةٍ إلى (بوابة الاستقبال). أبرزتُ ورقة الاستدعاء للجالس خلف طاولة صغيرة عند المدخل. طلب هويتي الشخصية. قدمتُها له. تفحَّصها ونظر إلى وجهي، ثم فاجأني بسؤاله:
= إنتا من غيط العنب (1) ؟!.
قلت: نعم.
وبدأ توجسي مبكراً. فهويتي لا تدل على أنني أقيم، أو كانت لي أي صلة، بغيط العنب، فكيف عرف ؟.
عاد فطلب أن أترك لديه حقيبة أوراقي وهاتفي الجوَّال. وفوجئتُ به يغادر مكانه، ويخرجُ، ويطلب مني أن أمشي معه إلى مكتب الرائد الذي جاءني الاستدعاءُ باسمه. أجلسني في المكتب، وقال إن سيادة الرائد قادم حالاً. ثم التفت إليَّ، وعاد يسأل:
= إنتا من عيلة خليفه بتاعت شارع الريف ؟!.
ولم ينتظرني أتخلص من تأثير الدهشة، فغادر الغرفة، مخلِّفاً لديَّ إحساساً بأن (ملفِّي) عندهم قد امتلأ بالمعلومات عن تاريخ نشأتي، فلم يسألني أحدٌ من قبل عن علاقتي بغيط العنب. ورحت أراجع، في توجس، ما يمكن أن يكون في تلك العلاقة من أمور تسببت في استدعائي هذه المرة !
ماذا فعلتُ في غيط العنب مما يثير الشهية الأمنية ؟!.
لقد غادرتُ المنطقة بانتقالي إلى بيت الزوجية، في (القبَّاري) (2)، ثم في (باكوس) (3). وكانت صلتي بمحيط الجيران هناك قد انبتَّت بعد التحاقي بالمدرسة العباسية الثانوية، في محرم بك، ثم دراستي في كلية العلوم. فهل أكون مسئولاً عن أفعال مشبوهة إقترفتُها وأنا لما أزل بعد في المدارس الابتدائية والإعدادية ؟!. أول وآخر فضيحة تسببتُ فيها لأسرتي مطاردتي للفتاة ضئيلة الحجم، مريمية الملامح، إبنة القسيس راعي الكنيسة المجاورة لبيتنا، الذي تسامح ورفض حتى أن أعتذر له أنا وأبي، وقال إنه يعتزُّ بأن ابنته محبوبة.
عاد الرجلُ بعد نحو ربع الساعة، وفي يده كوبٌ من الشاي. قدَّمه لي، وسأل:
= بتدخَّن ؟.
قلت: لا.
شكرته على الشاي. سألتُه:
= عرفت إزاي إني من غيط العنب ؟.
إبتسم قبل أن يرد:
= دي صنعتنا !.
ثم عاد يسأل:
= إنتا موش عارفني ؟.
قلت:
= جايز إننا كنا جيران هناك.
قال:
= عليك نور.
وأخذ يحدِّقُ في وجهي، أو لعله كان يعطيني الفرصة لأحدِّقَ في وجهه. قال:
= الزمن ما أثرشي فيك كتير .. إللي يعرفك من زمان ممكن يفتكرك دلوقت.
وراح يسحبني إلى صفحات مهترئة من ذكريات الطفولة. كان هو (صوفه)، ابن عبد الحميد المزيِّن، وأمه (وديده)، بنت أم محمود، جارتنا. كان يسكن مع أسرته في (الشارع الكبير)، البعيد عن شارع الريف، لكنه نشأ في بيت جدته. وكان مغرماً بمطاردة القطط، وتعذيبها، وذبحها بشفرة حلاقة سرقها من دكان أبيه، وكان يجيد إخفاءها، وإظهارها في الوقت المناسب ليهدد بها غريماً، أو إن قبض على قطة وقرر ذبحها.
قال:
= كنت مشهور بدباح القطط ..
قلت:
= صحيح .. تذكرت .. لكن أنا ما شفتاكش ولا مرة بتدبح قطط ..
قال مؤكداً:
= دبحت كتير ..
قالها ببساطة نقلتْ إليَّ الفعل (ذبح) كأنه (تنفَّسَ). عاد ودوداً:
= أمك كانت صاحبة أمي .. وسِتِّي أم محمود كانت حبيبة سِتَّك أم سعد .. الله يرحم الجميع..
وظهر عن الباب ظلُّ رجل، لمحه، فغادرني دون أن يقول شيئاً. وغاب لنحو ساعةٍ، قضيتُها بقدر من التوتر أقل مما عانيته في زيارات سابقة لهذا المبنى، فقد صرتُ خبيراً بأساليب التأثير على الزائرين، قبيل الاستجواب. وكنتُ، هذه المرة، أستمدُّ بعض الاطمئنان من وجود (صوفه)، صديقي القديم الذي ذبح معظم قطط شارع الريف في غيط العنب.
وخطر ببالي، للحظات، أن أسأله، حين يعود، عما إذا كانت أحوال عمله هيَّأت له أن يمارس هوايته القديمة مع (غير القطط). كلاب، مثلاً، أو دواجن. ولكنني عدتُ ووأدتُ الخاطر، فسوف يفهم ما أرمي إليه. ومهما كانت غرابة طفولته، فمن المستبعد أن يكون استخدم شفرة حلاقة أبيه مع آدميين، في دهاليز هذا المبنى، الذي تتصاعد في جنباته، بين الحين والحين، أنَّات مسموعة، يبدو بعضُها كترجيع صدى.
ورحتُ، هذه المرة، أتأملُ ستارة مسدلة على نافذة مغمورة بضوء الشمس، أميل إلى ارتياحٍ لظهور (صوفه) المفاجئ، بالرغم من أن غيابه الطويل قد يكون مصدر ريبة، ويقلقل بادرة الارتياح التي راودتني.
أخيراً، ملأ جسم (صوفه) الباب، وأقبل نحوي مبتسماً، ووضع أمامي، على طاولة صغيرة واطئة كلَّ متعلقاتي التي أخذها هو ذاته مني عند بوابة الاستقبال. قال ضاحكاً:
= راجع حاجاتك وفلوسك .. هنا ناس ياكلوا مال النبي ..
ألقيتُ نظرة سريعة على أشيائي العائدة، وقلت:
= كله تمام .. متشكر ..
= ياللا يا عم .. المقابله انتهت .. عملنا اللازم، وموش عايزين نشوفك هنا تاني!
وأردف:
= نسيت اسألك: عندك أد إيه ولاد؟!
ولما أخبرتُه، فوجئتُ به يحتضنني، ويردد (ما شاء الله .. ما شاء الله ..).
وسحبني من يدي، فغادرنا الغرفة، ونزل معي درجات السلم. وعند البوابة، كان مهتماً جداً أن يخبرني، قبل أن أنطلق إلى فضاء الشارع:
= أنا بقى ما باخلِّفشي!
(1)، و(2)، و(3): مناطق سكنية شعبية في الإسكندرية.