أسامة علام
استأجرت مؤخرا شقة صغيرة بنيويورك. لم تكن تعجبنى كثيرا. لكن بها معظم ما أحتاجه كرجل وحيد شبه زاهد. حجرة واحدة تتسع لسرير، صالة ستكفى لمقعد هزاز وشاشة تليفزيون وحمام صغير بلا نوافذ. قريبة من العيادة وتدخلها الشمس عندما تريد. استأجرتها من رجل روسى غريب الأطوار. كان همه الوحيد أن يتخلص سريعا من مفتاحها الذهبى القصير والملفت للنظر قليلا. وسبب غرابة المفتاح هو أنه قديم جدا ومنحوت عليه اسم المدينة “نيويورك”، بحروف محى بعضها الزمن وكثرة الاستعمال.
من أيام اكتشفت مصادفة أن المفتاح يفتح كل شيئ تقريبا. باب العيادة، باب محل المقهى المجاور للعيادة، باب شقة الجيران المقابل لشقتى وحتى الخزانة الكبيرة غالية الثمن فى العيادة.
كان الاكتشاف مذهل بشكل لا يوصف. جربت المفتاح فى قاعات مغلقة فى متحف المتروبوتان وفى حجرة مغلقة بكنيسة قديمة ذهبت لأحضر فيها حفل للوتريات وموسيقى الحجرة، ففتحها بدون أى مشكلة.
وسريعا اكتشفت أننى أستطيع دخول كل الأماكن فى المدينة الكبيرة التى يسمونها التفاحة.
فى بداية اكتشافى المذهل أصابنى خوف رهيب. لكنى مع الوقت انتصرت شهوة الفضول على خوف اكتشافى ومعاقبتى.
على الناصية المقابلة لبيتى سيدة خمسينية تخرج كل يوم بملابس قديمة ونظرة حائرة تقف وحيدة بالساعات تنظر للمارة والسيارات والمحلات دون أن تغير مكانها. تقف كل يوم من بعد غروب الشمس وحتى منتصف الليل فى نفس المكان دون حركة. شغلنى حالها العجيب فتمنيت أن أكتشف عالمها.
وفى أحد الأيام، بعد انتهاء ساعات العمل فى العيادة، مررت بها فى وقفتها اليومية. دون تردد فتحت باب بيتها ودخلت. كانت عيونى لا تفارق ظهرها المتصلب الناظر الى الشارع. وعندما لم تلتفت دخلت واغلقت الباب.
البيت من الداخل عادى جدا. لا شيئ ملفت فيه سوى البراويز المعلقة على الحائط بتكرار وتنظيم مدهش. وفى كل برواز رسالة محبة من عاشق غائب. قلبت عيونى سريعا على الرسائل التى تغطى جدران المنزل كله فاكتشفت من التواريخ أن الزمن بين أول رسالة وأخر ماتم تعليقه أكثر من عشرين سنة.
محبوبة جدا كانت السيدة الوحيدة. لكن لم تستمر فى أى علاقة أكثر من شهور وأحيانا أسابيع. الفضول اللعين جعلنى أتنقل كالمجنون بين الرسائل المعلقة.
انسحق قلبى من رقة المحبين، ضحكت فرحا ونزلت دموعى من الحزن. لم تكن بين الخطابات كلها خطاب وحيد منها. كانت الخطابات كلها لها. مذيلة دائما برسومات لقلوب وفراشات وورود.
كم من الوقت مر، لا أعلم. لكنى فجأة وجدتها تقف بجانبى متطلعة الى الخطابات. تعيد قرائتها بنفس النظرة الذاهلة التى تتابع بها العالم. انتظرت أن تهتم بوجودى لكنها لم تفعل.
وبهدوء عجيب فتحت الباب وانتظرت خروجى.
أصابتى رغبة ملحة فى احتضان السيدة المشردة واخبارها بأنها ليست وحيدة. تمنيت أن أعتذر لها عن كل هؤلاء الذين رحلوا. لكنى لم أستطع التحدث بكلمة واحدة.
ممسكا بيدى المفتاح الملعون جلست على مقعدى الهزاز وجسدى يرتعش من التجربة الغريبة. أفكر فى كتابة خطاب لجارتى الوحيدة. حلم سيتأخر ربما لأننى لم أكن أعلم أن أيامى القادمة ستكون مجنونة…قليلا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صدرت مؤخرًا عن دار الشروق