بولص آدم
كنتُ للتو قد وصلت محطة قطار بودابست. في يدي تذكرة عودة بالقطار التالي. لماذا؟ لا أعرف… حتى هذه اللحظة لا أملك جواباً، سوى أنني لم أرد أن أتيه في مدينة ربما لا تناديني. خمسون دقيقة فقط، ثم أعود إلى لينتز. خمسون دقيقة لا تكفي لشيء سوى أن أراقب نفسي واقفاً بين قطارين.
عند الباب توقفت. نزلت الدرجات الثلاث، ثم عدت ثانية، كمن يجرّب النزول إلى ماء بارد ثم يهرب منه. لم يكن الشارع مزدحماً كما توقعت؛ سيارات أجرة مصطفة، سائقون يتثاءبون، لا أحد يلاحقني. ومع ذلك بقيت عند العتبة، وكأن خطوتي الناقصة تكفي لأقول لنفسي إنني وصلت.
بينما أتردد عند الباب، تداعى في ذهني مشهد قريب:
في عربة القطار التي أقلّتني إلى هنا، جلست بمحاذاة النافذة، أتابع النهر الرشيق الذي يرافق السكة كرفيق صامت، تتناثر فوقه ومضات ضوء، كأن النهار يرمي بقاياه الأخيرة على صفحة الماء.
الرجل قبالتي كان قلقاً. التفت نحوي وقال بإنجليزية متعثرة: “آي آم هنغري.”
ابتسمتُ وظننتها جملة تعريف: هنغاري. قلت له: نعم، يبدو عليك ذلك، أهلاً بك. لكنه كررها بلهجة أوضح: “آي آم هنغري.”
عندها فهمت. لم يكن يتحدث عن وطنه، بل عن جوعه.
سألني عن عربة المطعم. أجبته بالصدق: لا أعرف.. نهض سريعاً، ومضى في الممر الطويل. ظل مقعده فارغاً، وبقي صوته يطن في أذني: أنا جائع.
حين انطفأت الصورة من ذهني، وجدتني في المحطة ما زلت عند العتبة. وفجأة حدث ما لم أتوقعه.
امرأة بعمري تقريباً هبطت على قدمي، قبلتهما كمن يطرق باباً أخيراً. كانت تتسوّل، لكن ملامحها لم تكن ملامح متسولة. بوجه ناحل وعينين عطشى، انحنت بارتباك جعلني أرتجف. لحظة واحدة، وشعرت كأن العالم كله انحنى عند قدمي.
رفعتها برفق. سألتها بلا كلمات، وفهمت بلا لغة: جوع. جوع، حاد، يجرح الكرامة. في داخلي ترددت لحظة — أنا الذي لم أرغب أن أخطو خارج المحطة، ماذا أفعل الآن؟ لكن جسدي سبقني. وجدت نفسي أسير بها نحو مطعم قريب.
جلست أمامي. أكلت وجبتين متتاليتين، بسرعة من يتدارك ما فاته. وأنا أراقبها، شعرتُ بالراحة، شعرت أنني أنا من يلتقط أنفاسي. لم تعد مجرد امرأة غريبة، بل ومضة إنسانية صغيرة كشفت لي ضعفي الخفي، جوعي المختلف، خوفي من الفراغ.
لم تكن هنغارية. قالت إنها تريد ركوب قطار إلى قرية بعيدة. لم أفكر طويلاً. أخذتها إلى شباك التذاكر، قطعت لها تذكرة. وعندما أُعلن عن قطارها، صعدت العربة بلا التفاتة. بقيتُ واقفاً أراقب ظهرها يبتعد.
حين تحرك القطار، شعرت بشيء ينزاح عني، وشيء آخر يستقر. كأنني لم آتِ إلى بودابست صدفة، بل لألتقيها، لأفتح لها طريقاً، ولأكتشف في لحظة عابرة أنني كنت العابر الذي يخشى العبور.
بعدها فقط، فهمت لماذا حملت تذكرة عودة من لحظة وصولي. لم تكن بودابست وجهتي. كانت مجرد ومضة إنسانية قصيرة. ومن ثم… قطار آخر، يردني إلى حياتي.