رحال كريش
انبرش قلبي بين أضلعي كأنه فاكهة على وشك السقوط. طعنة خنجرٍ واحدٍ كفّت أن يطول الهواء في صدري، فاقتلعوه منّي كما تُقلع تفّاحةٌ لم يكتمل احمرارها. لم يزل ينبض لكن في يدٍ غير يدي، في جيبٍ من جسدٍ آخر، في شارعٍ لا يوقن أحدٌ من وجوده. حملته الأرض كأنه شيء غريب، وانزلق بين الأرصفة.
حاولت أن أتبعه، ناشدتُ محبوباتي لعل إحداهن تهمس لي بطريق يقود إليه، ولكن اللسان رأى أن يقفل، والأسنان رأت أن تتقفل، وصار الفم صندوقًا يخون نغمه كلما حاولت الكلام. بقيت أنا — ذلك الصدر المبتور الذي بات في حاجة إلى شيءٍ يعيد له وقاره. ورأيُ الناس مرآةٌ كسولة؛ يتخطّونني دون أن يرمش لهم جفن. امرأة مسنة داست بقسوة على بقعة دمي وهي تقول بصوت متهالك: «الحمد لله على كل حال»، وراقبتني بعينٍ تقطع المكان كوميض يشق السماء.
قلبٌ يرحل؟ التفتت إلى الضوضاء في رأسي، وإلى الذكرى التي قفزت من طرفها كأرنب مذعور: لماذا أخاف من فقدان شيءٍ غير قابل للفقد؟ لكن الخوف لم يمت؛ بل تحوّل إلى فضول مشبوه. رأسي الملتحف بصمت لم يهدأ: هل يحتمل القلب أن يعيش خارج الجسد؟ ومتى يصبح الشوق ثورة؟
لم يمضِ وقتٌ حتى بدأت أن أرقب قلبي المتحرك على الرصيف. كان أقرع من دقات القلب العادي، يركض بسرعةٍ، يلمع كفانوسٍ في ليلةِ حالكة. ارتفع عن الشارع خطوةً واحدة، وبدت له أجنحة رقيقة من لحمٍ نابض- ليس جناحين فعليين، لكن أجنحة من حنينٍ وغضب.
لقيت نفسي أصرخ بعنفٍ داخلي: «اتبع الجنوب!» لكن القلب كان يريد الشمال؛ الشمال حيث تحكمُ المكتبات، وتُنشر الخطب، وينام التقاعدُ في واجهات الوزارات. تنفّس القلب عميقاً، ثم قفز، طاف فوق الأزقّة، ونقر على نوافذ البيوت. لقد أصبح قلبا متجوّلا، دليلاً، بعد أن تخلت عنه العروق.
تسلّل إلى سوقٍ صغيرٍ أمام مسجدٍ بهي الطلاء، هناك حيث تباع الآمال بسعرٍ أقل من رطل بقول. اجتمع الناس حوله، بعضهم للتسلية، وبعضهم لالتقاط لقطةٍ صحفية، وقلة قليلة للحكم. همس القلب بصوتٍ لا يشبهني لكنه كان صوتي؛ أتى خفيفاً ثم ارتفع ليقع كالصدى في صدورهم:
“يا سكّان هذا الحيّ، يا من تخلطون بين الكرامة والرزق المؤجل، أسمعوا: لقد وقعت في صدركم خطةٌ منذ زمنٍ طويل — خطةٌ تسقي طهركم بالمواعيد المؤجلة وتطعمكم عناوين لا تُشبِع. لماذا تبيعون لذاتكم الأجل كي تقتنوا خبزاً يومياً؟ هل حُلّ المال مكان الحب؟ هل صار اليقين مرهوناً بتوقيعٍ في مكتبٍ بعيد؟”
التفتوا إليه، بعض الوجوه تلوّنت بالخجل، وبعضها أضحك كالأطفال الذين يسمعون خبراً لا يهمهم، وهناك من رمى الحجر لمجرد أنه في ذلك اليوم كان يريد أن يلمس شيئًا ما. لكن القلب لم يخشَ الحجر؛ كان يملك شجاعةً لا شيء في جسدي يوازيها الآن.
“اسألوا من سرق نومكم، اسألوا من بعثر الحكايات حول فرصةٍ ستأتي: يلتهم حيواتكم ويترككم لأطفالكم بلا أصدقاء ولا ألعاب. إن كان الحب منكم قد صار سلعة، فاطلبوه كحق، ليس كمنحة.
تدفقت الكلمات منه كسيل من الزواحف، وبدا أن لوعاتٍ قديمة قد تحرّكت. صاحب دكانٍ صغير رفع يده وقال: «هذا كلام مثير». وقال آخر: «إنه قلب مفكوك؛ ربما ألّهته السياسةُ أو الجنون». قَدِمَت طائفة من الشيوخ يتبادلون الهمسات: «قد يكون مسحوراً»، «ربما غرس فيه أحدهم الكلام من قناةٍ أجنبية». لكن حضوره جعل الهواء في السوق يطغى بطعمٍ آخر؛ طعمُ سؤالٍ لم يذقُه الناس منذ زمن.
لم أعد أتصرّف كالجاهل. كانت رغبة القلب واضحة: أن يطلب محاسبةً صامتة. قادته ساقاه إلى ساحة المدينة الكبيرة، حيث تُقام الاحتفالات الرسمية، حيث تصطف المظاهر في صفٍّ واحدٍ مرتب. وقف في وسط الساحة، وقف كمن يقف على مذبحٍ قديم، وجعل الناس حوله يقفون. ارتفع صوته، وهذه المرّة كان أكثر تماسكا:
“أيها الحاضرون أيها الغائبون، أيها المسؤولون عن ضحكاتٍ مصطنعة، لماذا تنسجون آمالكم على ضبابٍ يزول مع كل فجر جديد؟ هل أرضنا سرابٌ يغيّر ملامحه كلما أقبلنا نحوه؟ إن كان قلبي قد طُعِن، فهل من يغرس الطعنات في صدور الناس سيبكي على قلبي؟ اخسروا ربحكم المؤقت، وامنحوا ناس فرصة.
تعالت الصيحات، وبعض الحجارة للمرّة الثانية. لكن وسط الصخب تقدّم عسكريون يحملون أقنعة، ومهرّعون بيضُ الوجوه. حاولت أن أندفع كي أقبض على قلبي، لكن اليدين فارغتان والحبال قد جفّت من شدّها. غُلّ القلب في شبكةٍ دقيقة، ووُضع خلف جدران شفافة.
دخلت القاعة الرسمية حيث تُعلَن الأحكام. تراصّ منصفون أمامه، وارتسمت على محياهم علامات الحيرة. قال أحدهم، وهو يراقب القلب يهتز بلا هوادة: “لا شيء في المنطق يفسر هذا، وحدها الحكمة القديمة قادرة على إرشادنا”.
ثم نادى منصف آخر: “استدعوا القاضي الفقيد”، فأُدخل القاعة تمثالٌ صغير مُقنّع بوجه قاضيٍ قد مات منذ عقود. الجميع صدّق، لأن المراسم تعطي ثِقلاً حتى للمظاهر. وقف التمثال، وألقى ببرودة متكلّفة حكماً لم تكُن إلا ترديداً لكلماتٍ محفوظةٍ لا وزن لها: “قدرتكم على ضبط الميزان وحدها تُستبدل بالطمأنينة، أرجعوا هذا القلب إلى صاحبه، وانصرفوا لتكسوا غضبكم برداء الأقوال الجاهزة”.
ضحكتُ من داخل فراغي؛ كانت استعادةُ القلب إلى الجسد حلًا رخيصًا. أيعقل أن يكفي لصنع السلام أن تُرجع عضواً إلى مكانه؟ لكن الناس قبلوا الحل، لأن قبول الحلول السهلة يوفر عليهم عناء السؤال.
وُضِع قلبي في صدري بعنايةٍ رتيبة. شعرت بالدفءِ يعود. وأنا أبتلع الحياة من جديد، همس لي بصوتٍ رقيق لكنه واضح: “لا تنتظر أن أرحل ثانيةً لأخبر الناس. احتفظ بي هنا، لكن لا تُغلق نوافذ القول. دَع الحلقات تُقام، دَع الأسئلة تتكرّر…
ابتسمتُ وأنا أضع يدي على صدري. خرج الناس من القاعة وهم يتبادلّون الهمسات كما لو أنهم يعودون من صلاةٍ لا تُزعج أحداً. بقيتُ أراقب المدينة من نافذتي، ومختزنٌ في صدري يقترح الكلمات على سمعي. في الليلة التي تلت ذلك قررت أن أنزل إلى السوق، ليس لأحمل قلبي في يدي كما فعل، بل لأعطيه صوتاً لطيفاً يوميّاً: اجرؤ على السؤال، وادعو للناس أن يجرؤوا معه.
…………….
*كاتب من المغرب