مدائح للمُدن البعيدة

مرزوق الحلبي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مرزوق الحلبي

سيكون عليك في المدينة البعيدة أن تتهجّى الحياةَ من جديد
فتُخطئ ثمّ تستوي،
وأن يذهب نصفُ يومِك في إتقانِ مخارجِ الأحرف
والركضِ وراءَ لهجةٍ بدت لك قريبة
ستتعلّم السير في الشوارع المرصوفة وتُمعن النظرَ في أسمائها الغريبة
سيكون عليك أن تحفظ الأماكن عن ظهر قلب
ومواعيد القطار
والحافلات
والوجوه التي تصادفك كلّ صباح
كي يكون ليومِك معنى غيرُ الذي له
ستتعلّم أن تنزع حذاءك عندَ المدخل
وتميّز بين النفايات بعناية كما لو أنها لُغات عليك أن تدركها قبل أن تختفي
سيكون عليك أن تتهجّى الحياةَ لنفسك وأنت تعدّ الفطورَ
وتحسب مهمّاتك ذاك النهار
أشياء كثيرة ستذكّرك أنك لستَ سائحًا
وإن زلت على عادتكَ في التقاط الصور

سيكون عليك أن تنتبه للفارق بين برْد الصباحات وشمس الظهيرة
برد الشمال بغير رحمة
وحده الوقتُ رؤوفٌ
يعلّمك البدايات حرفًا حرفا
يعلّمك ما لم تعلم
يعلّمك الصعودَ على سلالمه
فتقطف نجمة لك
ونجمة لابنتك، هي أيضًا في مدينتها البعيدة يُعلّمها الوقتُ
يدرّبك على فهم المسافات بين البشر
بين أناس ضاع عمرُها في المنافي
وبين أناس حفظت أعمارَها هناكَ سالمةً
سيعلّمك الوقت غايةَ سربِ النوارس إذا اختار الشمال
وزرقةِ السماء إذا اشتدّت
وقطرة الماء
وخرائط المترو
هو الوقتُ معلّمك في المدينة البعيدة
فخُذ ما يُعطيك
وقُل شيئا ممّا تيسّر في مديحِ الوقتِ والمدنِ البعيدة

ستنظر من المدينة البعيدة إلى حياتك
خيبةً خيبة
قصيدةً قصيدة
زلّة إثرَ زلّة
ستبدو غير راضٍ وغير نادم
لا حماس لأيّ شيء لديك
ولا ضيق من أيّ شيء فقدته
ستبدو النجاحات كالخسائر، باهتة،
والشيءُ كضدّه
شيئًا من التاريخ قد يُكتب على وجهين
أو أكثر
فماذا لو وضعتَ كتابًا في المادةِ المُعتمة والعالم كلّه في المحاق؟
ماذا لو جاءك الوحيُ والجثث في الشوارعِ عُرضة للبرد؟
ماذا لو حالفك الحظُّ وأسَرٌ كاملة مُسجّاة في قبر جماعيّ ولا أحد يقرأ الفاتحة؟
ماذا لو زاد أصدقاؤك واحدًا وقلّوا ثلاثة؟
ماذا لو زادت ثرواتك فوقَ المعدّل؟
ماذا لو صعدت ثمّ هبطت، وفُزتَ بالمأمول وفاض حظّك عليك،
ماذا لو اقتنيتَ بيتًا آخر في غُرّة المرسى وبعض الثيابِ الثمينة
ووسّعت بابَ دارِك للمناسبات وأصحابِ الشأن
وأنا وأنت في الطريق إلى الآخرة؟
ستبدو لك الحياةُ كلّها في شوطِها الأخير
ستمشي على الجسر
وللجسر اتجاهان
لا فكاك من السير ـ تقول لنفسكَ
ولا من حديث الخريف مع الشجر
والشجرِ مع الرصيفِ
والرصيف مع المطرِ الخفيف
والسائرين مع أنفسهم
فقل ما تيسر في مديحِ الوقت والمدن البعيدة

في المدينة البعيدة ما حاجتك إلى الذاكرة؟
ما حاجتك إلى غيرِك ممن مشوا في الطريق مثلك،
ثم عادوا كما لو أنهم لم يذهبوا يومًا
كُن أفضل من نفسك غدًا
وقُل ها أنا أفضل اليومَ مما كنته أمس
معافىً
من سطوةِ الأديانِ
من ضيقِ الكثيف على اللطيف
من الطوابير
من صلاةِ الجماعةِ
من نقطةِ في الدائرة
فكُن ما تشاء الآن
المدينة البعيدةُ بعيدة
واسعة كحضن قابلة
فاذهب!
وتهجّى الحياةَ من أوّلها
طرقًا مفتوحة للريح والدُخان وظلال الغيم
روايات كُتبت على الجدرانِ
صداقات
خيانات
أحاديث الغريب للغريب،
لنفسه
ستغرقُ ثمّ تطفو
ستسقطُ ثم تصحو
فاصبرْ على وجعِ البدايات
وثقْ بحدسكَ
بدعاء أمّك، أخواتك الثلاث
وخطوِ ابنتك الوحيدةِ إذا دقّت بابَ قلبك
واكتب ما تيسّر في مديح الوقت والمدن البعيدة

…………..

(أيلول 2025 ـ برلين)

مقالات من نفس القسم