ترجمات للأزرق

sara allam
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سارة علام 

“سميت تلك الحقبة بالمرحلة الزرقاء، اكتست جلود النساء كلها بكدمات ما بين الأزرق الشديد والبنفسجي والأخضر الفاتح، ولم يعرف السبب وراء ذلك حتى اليوم، بينما اكتفى التاريخ بهذا المصطلح”، كان المرشد السياحي يصطحب فوجًا من النساء الأوروبيات ويشرح لهن ما آل إليه وضع النساء في هذه المدينة، كنت قد انهمكت في تناول الطعام ولفتت نظري تلك العبارة.

تمهلت في مضغ المكرونة، وتأملت أجساد النساء في المطعم من حولي، رأيت الكدمات الزرقاء في مناطق مختلفة من أجسادهن، في بعض الأكتاف وفيما ظهر من سيقان عراها الهواء، وفى الظهر، وفى الوجه وحتى أسفل العيون، كانت النساء تتحرك ببطء وكأنهن يسيرن بتقنية التصوير البطيء، حتى أن إحداهن ضحكت في وجه أخرى تبكي وهي تشير لبقعة زرقاء حديثة في كتفها الذي يظهر من بلوزة “أوف شولدر.”

لم أفهم في البداية، سر الضحكة التي ارتسمت على وجه الفتاة الأولى إلا حين أمعنت النظر في جسدها باستخدام عدسة المحمول المكبرة، رأيتها مخططة بالكثير من درجات الأزرق، بداية من الأزرق المخضر وصولًا إلى البنفسجي، ثم انتبهت وهي تقول لصديقتها “هي أولها صعبة كدا لكن بعدين هتتعودي على درجاته كلها”.

حاولت الفتاة المخططة أن تخفي فرحتها بانضمام صديقتها للنساء الزرقاوات، ولكنها لم تستطع، فغضبت الأخرى، عادت المخططة واحتضنتها ثم نزلت من عينها البنفسجية دمعة حمراء التصقت بكتف صديقتها الأزرق.

في الطاولة المجاورة، جلست ثلاثة من الفتيات الأصغر سنًا، دخنت إحداهن سيجارة فاتحدت زرقة الدخان بتفاحة خدها، وارتسمت تموجات على وجهها، أما الثانية التي ارتدت فستانًا داكنًا، فكان عضوها يشع بالزرقة من أسفل الفستان حتى أن ضوءه الفاقع اشتعل في وجه النادل وهي تملي عليه طلباتها.

النادل هو الرجل الأول الذي رأيته في تلك المدينة، يمسك قائمة الطعام بيد ملتوية بها بعض المناطق الداكنة، ثم قطع حديثه فجأة حين دخلت سيدة فارعة الطول لم تتلوث بالأزرق، الأمر الذي دفعه لاستدعاء زميله وتحذيره منها بصوت خافت قرأته من الشفاه.

لم تنتبه السيدة الفارعة إلى زرقة النساء التي لاحظتها أنا، ولكنها رأت في عيونهن تلك الدهشة التي أصابت النادل وصديقه، ثم وقفت في منتصف صالة الطعام وصعدت أعلى طاولتها وصاحت فيهن: “بتبصولي كدا ليه؟.”

رأيت من مقعدي طعاما يسقط من فم الفتاة المخططة، وحواجب ترتفع فوق عيون صديقتها الباكية، ونارا تشتعل من عضو الفتاة ذات الفستان الداكن، ثم تركن الطعام جميعًا وألقين بالأطباق والسكاكين على الأرض، وبدأوا في خلع ملابسهن كاملة وهن يرددن أصواتًا مرعبة، في الوقت الذي التصق فيه النادل وزميله بالحائط وكأنهما رسم غائر.

في حفلة خلع الملابس، تبين للسيدة التي نجت من الزرقة أن درجات اللون كلها، لا تستجيب للعلاج الطبي أو تدخلات جرّاحي التجميل رغم تعدد المحاولات، الأزرق يلتصق بالروح كوشم، تورثه النساء لبناتهن الأصغر حتى تكتسب الفتيات وشومًا جديدة من البيئة المحيطة.

غادرت السيدة الغريبة المطعم بدهشة كبيرة، سرت وراءها أرقبها، بدأت الغريبة تستوقف المارة في الشوارع تسألهن عن انتشار اللون، فلم تجد إجابة مقنعة، فصعدت إلى بيتها حائرة، وأكملت جلستي على مقهى مجاور مكنني من رؤية نافذتها المنخفضة تماما، رأيتها تحاول أن تنظف أثر سنوات غيابها وتمحي هذا التراب الذي غطى كل شيء.

رأت الغريبة جارتها تنشر بعض الغسيل المنقط بالأحمر في الشرفة المقابلة فقدمت لها نفسها، وافقت الأخيرة ودعتها إلى جلسة شاي لم تفك خلالها طلاسم الأزرق.

بعدها بأسبوع، مشيت في اتجاه المقهى، كان الصراخ قد انطلق متموجًا من النافذة، فزعت وسحبت مقعدي وجلست، سمعت الغربية جارتها تطلق تأوهات متقطعة بصوت مبحوح، فظنت إنها قطة في أيام تبويضها، ولكنها انتبهت للصوت البشرى، هرولت إلى العمارة المقابلة التي كنت أجلس على مقربة منها، طرقت باب البناية، لم يجب أحد، ثم دفعت الباب بقوة، انفتح أمامها، كانت الجارة تتلقى جرعة جديدة من الأزرق بيد زوجها الذي انكفأ عليها، يحاول أن يعدل خرائط جسد زوجته، حاولت الغريبة منعه، وإبعاده عن جسدها المزركش، صمت الزوج لوهلة، ثم اتحد بالحائط وظل هكذا لسنوات، كجزء من طراز المدينة المعماري.

عادت الغريبة للشوارع، فرأت تماثيل كثيرة لرجال انهمكن في رسم الأزرق وتلوينه فوق أجساد النساء العارية، أما الحوائط فازدحمت بالنقاشين الذين توقفوا عن زخرفة الوشوم والتصقوا بأسمنت المدينة.

مقالات من نفس القسم