أشياء تسقط ولا تنتهي

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نور الهدى سعودي

لم يكن كوبُ الشاي مهمًّا حتى سقط.

قبل ارتطامه ببلاط المطبخ، لم يكن أكثر من إناءٍ صامت يؤدي وظيفته بانضباط الأشياء التي نألفها: يحتفظ بالحرارة مؤقتا، ينقلها إلى الشفاه، ثم يعود إلى الرف بعد غسيل آلي. حين سقط، أحدث صخبا، وصار حدثًا يطالبني بالتأمل. الشظايا التقطت ضوء الصباح وبعثرته على البلاط كأنها تفكّك اللحظة نفسها إلى معانيها الدفينة.

وقفتُ أمام فوضاي الصغيرة، الوقت يتمدّد حولي كخيطٍ مطاطيّ. لم أُسرع لأنظّف ما انكسر. بقيتُ أُراقب كيف يبحث الشاي عن شقوق البلاط ليختفي فيها، كأنه يعرف طرقًا سريّة للهرب من حتميّة الامتصاص، وعن حياة أخرى خارج القالب الخزفي.

لا أتذكر من أين جاء الكوب. ربما اشتريته، أوأهدته لي يد نسيتُها. ما أعرفه أنه كان في خدمتي ما يزيد عن ثلاث سنوات،  بزخارف زرقاء تسقط على بياض ناصع في بساطة مريحة، استعملتُه كل يوم، وضعتُ شفتيّ على حافته آلاف المرات حتى صار امتدادًا لطقس الصباح ، الآن وهو راقد في الشظايا،أفهم أن علاقتي به لم تكن استخدامًا، بل صداقة صامتة من النوع الذي لا نعترف بها إلا بعد الفقد.

أحضرتُ كيسًا وجمعت القطع بحذر من يلملم حكاية. كل شظية تحكي الحادثة بلهجة مختلفة: هذه القطعة التي تحمل معظم الزخرفة كانت الوجه الذي أواجهه كل فجر، ويد الفخار المقوّسة عانقت أصابعي ثلاث سنوات بكرم لم أشكره، والشظية الصغيرة من القاعدة التي لم أرها قط حملت ثقل الكوب كله في صمت الأشياء التي تؤدي عملها بلا شهود. للأشياء وجوه مخفية مثلنا تمامًا، وما نراه منها ليس إلا السطح الذي نحتاجه لنستمر في الوهم بأننا نعرفها.

جلستُ على كرسي المطبخ. الشظايا في الكيس تُصدر رنينًا معدنيًا كلما تحركت الريح صوت يشبه أجراس المعابد في ذاكرتي، أو صدى احتفال صغير بالكسر نفسه. جعلني أفكر: ما السقوط حقًا؟

ما نسميه “سقوطًا” نعتبره خطأ، كأن المقاومة هي الأصل. لكن الجاذبية تسحب كل شيء نحو الأرض  فهل نسقط، أم ننجذب؟ أليس السقوط مجرد اسم آخر للعودة؟ عودة إلى ما كان يجذبنا دائمًا، عودة إلى الأصل الذي نقاومه بالوقوف، بالتمسك، بوضع الأشياء على الرفوف ظنًا أننا نحميها من الجاذبية.

تذكرتُ أول مرة سقطتُ فيها من دراجتي. كنتُ في السابعة أو الثامنة، رفقة أخي، والرصيف كان أقسى مما توقعت. ما علق في ذهني ليس الألم بل تلك اللحظة الوسطى بين ترك المقود وملامسة الأرض. لحظة الطيران القسري التي تُشبه الحلم:  لحظة مرت كحلم لذيذ قصير، عشت فيه قدر العصافير لثواني، قبل أن يجذبني جسمي البشري للحقيقة، حين يصبح الجسد خاضعًا لقوانين أكبر منه، حرًّا ومقيّدًا في آنٍ واحد.

السقوط، أدركت وأنا أُحدّق في البقعة الرطبة التي تركها الشاي على البلاط، ليس فشلاً. كما توهمت من أصوات أصدقائي الضاحكة، على وقع حادثة الدراجة، إنه اعتراف بأنّ كلّ شيء في هذا العالم مُؤقّت، وأنّ الثبات وهمٌ نتشبّث به لنشعر بالأمان.

الكوب سقط لأنّ يدي ارتعشت عندما قرأت عيناي رسالةً من صديقة الطفولة تخبرني أنها ستغادر المدينة إلى الأبد. السقوط لم يكن خطأ، كان ردّ فعل جسد على هزّة الروح، صوت الارتطام كسر مشهد خيال رحيل الصديقة لواقع شظايا الكوب المتناثرة، كي أتدرب ربما على تمرين الغياب.

نهضتُ وأحضرتُ ممسحة لأزيل الآثار. الماء والصابون يمحوان البقعة ببطء، لكن في الضوء المائل من النافذة، ما زلتُ أرى خطوطًا رفيعة ندوبًا صغيرة يتركها السائل على سطح نظنه صلبًا. رائحة النعناع المبلل بماء التنظيف تختلط برائحة الصابون، تخلق عطرًا غريبًا يشبه خليط الخسارة والتطهير. كأن الكوب، حتى بعد تحطمه، يواصل سرد حكايته على الأرض.

فتحتُ خزانة الأكواب. أمامي سبعة أكواب أخرى، كلها سليمة، كلها تنتظر دورها في الحياة والكسر. اخترتُ واحدًا يشبه الذي انكسر لكن أزرقه أغمق، ومقبضه أقصر قليلاً. ملأتُه بالشاي الذي ما زال ساخنًا في الإبريق، البخار يحمل رائحة اللويزة الخفيفة التي أضفتُها هذا الصباح. رائحة تذكرني بمطبخ الجارات، بالأصوات القديمة، بالأيدي التي كانت تمسك الأكواب قبلي.

جلستُ به إلى الطاولة.الطعم نفسه، لكن الإحساس مختلف. هذا الكوب له وزن آخر، حافة مختلفة تلامس الشفاه بزاوية جديدة، حرارة تنتقل إلى الكفين بإيقاع غريب. طوال هذه السنوات لم أكن أشرب الشاي بل أشرب الكوب. ألوانه وملمسه وتعوّد يدي على حجمه ووزنه. كان جزءًا من العادة مثل النظارة التي ننساها على أنوفنا حتى نفقدها، حينها فقط ندرك أننا كنا نرى العالم من خلالها لا من خلال أعيننا.

خرجتُ إلى الحديقة الصغيرة خلف البيت، في يدي كيس الشظايا. عند الشجرة في الزاوية، حفرتُ حفرة. التراب بارد ورطب، رائحته تُذكّرني بطفولة حدائق الجدات، حين كانت الأرض صديقة قبل أن نتعلم الخوف من الوسخ. رائحة التراب المبلل ، رائحة الجذور، ورائحة الأشياء التي تتحلل لتصير حياة أخرى. دفنتُ الشظايا هناك، لأني أردتُ أن أعطي للكسر معنى أكبر من الرمي في سلة المهملات. أردتُ أن أقول للكوب: عدتَ إلى التراب الذي صنعك.

الغروب يبدأ، والضوء ينسكب على الأغصان بطريقة تجعل كل ورقة تبدو مضاءة من الداخل. جلستُ، ظهري إلى الجذع، والكوب الجديد بين يديّ ما زال يحتفظ ببعض الدفء. فكرتُ في كل الأشياء التي سقطت في حياتي: الدرجات، الوعود، الصداقات، الأحلام. ثم فكرتُ في الأشياء التي تسقط بلا عقاب في الطبيعة: أوراق الخريف، الأمطار، الليل على النهار.

الدرجات المدرسية تلك المرايا الضيقة التي تعكس نوعًا واحدًا من الذكاء، وتُعمي عن ألف نوع آخر لا تقيسه الجداول. كان سقوطي فيها درسًا في أن العقول تتفتح بطرق لا تُحصى، وأن بعضنا يزهر متأخرًا، أو في حقول لا تعترف بها المدارس.

الوعود المكسورة كشفت أن الإرادة نفسها محدودة، مفلترة عبر جسد يتعب وظروف لا نتحكم بها. بعض الالتزامات أكبر من قدرتنا على الوفاء، والاعتراف بذلك ليس خيانة بل صدق متأخر. حين سقطت وعودي، فهمتُ أن النية الطيبة لا تكفي، وأن الوفاء يحتاج قوة لا نملكها دائمًا.

الصداقات علّمتني أن الروابط بين البشر لا تُقاس بطولها، بل بقدرتها على أن تفتح فينا أفقًا جديدًا. بعض الصلات عابرة، جسر نعبره نحو درس ثم ينهار ولا بأس. وبعضها يمتد ليصير وطنًا صغيرًا نتعلم فيه احتمال الآخر واحتمال أنفسنا، كيف نصبح أقل حدة، أكثر مرونة، كيف نحب دون أن نطالب الحب بأن يبقى على شكل واحد. حين سقطت صداقات، بكيتُها وهذا ليس فشلًا في الصداقة بل اكتمال لدورها، في أن تصير ذاكرة.

الأحلام المكسورة لم تُطفئ الرغبة بل أعادت صياغتها. الحلم في جوهره مثل الماء: يتخذ أشكالًا جديدة كلما ضاق عليه الإناء. حين سقط حلمي الأول، ظننتُ أن الحياة انتهت. لكني اكتشفتُ لاحقًا أن الفشل في تحقيق حلم معين ليس فشلاً في الحلم نفسه، بل دعوة لإعادة صياغته بما يناسب الواقع الذي نملكه لا الخيال الذي نرغبه.

أما سقوط الأشياء في الطبيعة فكان درسًا مختلفًا، سقوط أوراق الخريف والأمطار والنيازك علّمني أنّ الانهيار في الطبيعة ليس خرابًا، بل انتظامًا خفيًّا. الأوراق لا تغادر الأشجار موتًا، بل عودة إلى التربة لتغذّي دورة أخرى من الحياة. يذكرنا  هذا

بأن الموت في الطبيعة ليس نهاية بل تحول، المطر لا يهوي من السماء سقوطًا، بل نزولًا يقيم توازن العطش والرّيّ. النيازك لا تنقضّ لتُرعب، بل لتذكّر الأرض أنّها ليست مركزًا، ذرّة في نَفَس كوني ممتد. حتى الليل حين يهبط على النهار لا يطفئه، إنه ينسج له فضاءً للسكينة والتأمل، كأنّ العتمة شرطٌ سابق لأي إشراق.

دخلتُ البيت والسماء تتوشح بأوائل النجوم. في المطبخ غسلتُ الكوب الجديد. للحظة بدا لي كقطعة متحفية، يلمع بلا تاريخ، بلا ذاكرة. لكني أعرف أن هذا مؤقت. غدًا سيدخل الحياة: سيُملأ بالشاي، يتصبّغ بآثار القهوة، تظهر عليه خدوش صغيرة من الاستعمال، ويأخذ مكانه في روتين يكرّس حضوره. شيئًا فشيئًا سأنسى أنه جاء ليعوّض غيابًا، وأتعلق به كما لو كان الأصل. سأشرب منه مئات المرات، وسأنسى أني أشربه، حتى يسقط هو أيضًا. ستنفلت يدي مرة أخرى، أو يتصدع الزجاج من الداخل بلا سبب ظاهر، ويسقط. الأشياء تدخل حياتنا كما تدخل النجوم سماء الليل: ببطء، بوميض خافت، ثم لا تلبث أن تغيب.

فتحتُ دفتر اليوميات على المكتب في غرفتي. كتبتُ: الأشياء حين تسقط لا تنتهي .”

كأنها تسحبنا معها إلى قاع آخر من الفهم قاع لا يُرى من السطح. تذكرنا بأن الهشاشة ليست عيبًا بل شرط للوجود نفسه. كل شيء قابل للكسر، كل شيء يحمل في داخله بذرة نهايته، ونحن نحب الأشياء رغم ذلك أو ربما بسبب ذلك. لأننا نعرف، في مكان عميق لا نزوره كثيرًا، أن الهشاشة هي ما يجعل الحب ممكنًا. لو كانت الأشياء أبدية، لما احتجنا أن نحبها. الحب يولد من المعرفة المؤجلة بالفقد.

كل انكسار يعري أوهام الثبات التي نعلق عليها يومنا، وكل سقوط يفتح فجوة صغيرة في وعينا فجوة ندخل منها لنتعلم أن دوام الأشياء ليس سوى وهم نحتاجه كي نستيقظ كل صباح دون رعب وجودي. لكن الحقيقة أوسع من الوهم: كل شيء مهيأ للتغير، كل شيء في طريقه إلى شكل آخر، ونحن معه نتغير، نتكسر، يعاد تشكيلنا.

أطفأتُ المصباح. في الظلام، سمعتُ الريح تهز الأشجار في الحديقة، وأوراقًا تسقط بنعومة على العشب لم يكن صوت كارثة، بل صوت الحياة وهي تجدد نفسها بطريقتها الخاصة، قطعة واحدة في كل مرة، كسرة واحدة في كل مرة، سقوطًا واحدًا في كل مرة. همس لي الصوت : نحن لا نسقط نحن نعود. نعود إلى الأرض التي جاءت منها أجسادنا، نعود إلى الصمت الذي سبق الكلام، نعود إلى الماء الذي لا شكل له. حيث السقوط اسم آخر للعودة إلى ما قبل الاسم.

 

مقالات من نفس القسم

عبد الرحمن أقريش
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

الحرمان

تراب الحكايات
موقع الكتابة

الجازية