تأملات في شعرية لوحات الفنان العراقي يحيى الشيخ

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. شهيرة لاشين

يحيى الشيخ، الشاعر والفنان التشكيلي العراقي، ابن جيل الستينيات الذي أحرق أيامه وأعاد إنتاج نفسه مما تبقَّى من رماد. لم يتبعه في المنافي، طوال خمسةٍ وأربعين عامًا، سوى ظلّه؛ ذلك الظل الذي يذكّره دائمًا بأنه ترك وراءه شيئًا ما لم يكتمل، شيئًا ناقصًا يحرّك قلقه ويجعل مخياله في خوفٍ دائم من النهايات، من تلك النهايات التي تسبقها أحداث رمادية، وتفاصيل رمادية، وفشل رمادي أيضًا.

تستوقفني لوحات الشيخ كما يستوقفني شعره، وكثيرًا ما قرأت النصوص المرافقة للوحات وتأملتُ شاعريته في الرسم كما في القصيدة. للشيخ تجربة رصينة وواعية، يعرف تمامًا ما يفعل، ويخطّط بدقّة ولسنوات قادمة لما ينوي إنجازه. في لوحاته الأخيرة بالأبيض والأسود يغزو جيش الرماديّ المساحات، رماديٌّ مملّ وأنيق في آنٍ واحد. قرأت أنه يعمل على هذا المشروع منذ عام، وقد أنجز ثلثه، وينتظر عامين آخرين لإتمامه؛ مشروعٌ يرسم فيه مصيره ويقدّم محصّلة لغته التشكيلية والأدبية.

أنا امرأةٌ مغرمةٌ باللونين الأبيض والأسود، وربما هذا أحد أسباب انجذابي لأعماله الأخيرة. فيها سحرٌ ومتعة وتمكّن في تجريد الواقع والذات واقتناص أدقّ التفاصيل. لستُ رسّامةً لكني شاعرة أشمُّ الشعر حتى حين يتنكَّر ويغيَّر هيأته في لوحاتٍ. رسومات يحيى الشيخ شعرٌ خالصٌ؛ عليك أن تكون حذرًا وأنتَ تطيلُ النظر إليها لأنها بكل تأكيد ستسحبكَ داخلها.

لقد أدرك ليوناردو دافنشي أن اهتمام الفنان بالألوان يفتح أمامه أبوابًا واسعة وأفقًا لا نهائيًا من الاحتمالات. فحين يضع لونًا على اللوحة، عليه أن يراعي توافقه مع الألوان المجاورة له. الأبيض حين يجاور لونًا يمنحه قوة، أمّا الأسود فيُضعف من قيمته، والرمادي يجعل حضوره أكثر وضوحًا وتوازنًا. وإذا كنا نتحدث هنا عن لوحاتٍ يتجاور فيها الأبيض والأسود والرمادي، فإن الأبيض يمنح الأسود قوّةً، والأسود يقلّل من قيمة الأبيض، ويأتي دور الرمادي ليقف على الحياد، يصف ظلَّهما معًا، ويجعل المشهد أكثر ثباتًا ووضوحًا، وكاشفًا للجمال القاسي في التجربة الإنسانية.

“الرسم شعرٌ صامت، والشعر رسمٌ متكلَّم”، هكذا قال بلوتارخ، المؤرخ الإغريقي. وربما لن أجد مثالًا حيًّا يبرهن صدق هذه المقولة أكثر من يحيى الشيخ. فهذا شاعرٌ خُلق ليكون شاعرًا لا شيئًا آخر، وحين يرسم فإنه يكتب قصيدة، قد يستغرق في رسمها أيامًا، وهي ذات القصيدة التي قد يكتبها بكلماتٍ تفيض بعلامات الاستفهام، تلك التي قد يستغرق المتلقي في الإجابة عنها أكثر من عمر العراق نفسه، بكل ما فيه من أساطير وآلهة. حتى حين يهمس الشيخ بقصيدته لنفسه، لا يترك العالم في حاله؛ إذ تصفر أجمل القصائد مع الريح، وتمنح هذا العالم ألوانًا جديدةً للفرح.

مشكلة يحيى الشيخ كما وصفها هو في كتابه سيرة الرماد – ذلك الرماد، المادة الخام التي اشتُقّ منها اسم اللون الرمادي، المادة غير القابلة للاحتراق التي شبَّه بها الشيخ ذاته- تكشف سرًّا دفينًا في علاقة الفنان بهذا اللون. أي سرٍّ يحمله الرمادي؟ وأي حظٍّ ناله في دولاب الألوان حتى يختاره الشيخ ليصف به نفسه؟

art

تعود جذور هذه العلاقة إلى بداياته المبكرة، منذ معرضه الأول عام 1965، حين عرض لوحة بالأبيض والأسود عنوانها “جذعان أبيضان يتوسطان مربعًا رماديًا”. منذ تلك اللحظة تجلَّت مشكلته الجوهرية في نزعته الطاردة للسرد، ورغبته الحادة في إفراغ اللوحة من الزوائد، والاكتفاء بما يلزم منها، بما يكفي فقط للدلالة على الحياة.

فنجد مثلًا الموت في لوحاته مقتصدًا وغير زائد، وفي الوقت نفسه جميلًا ومتسامحًا ومطلقًا كما وصفه هو بكلمات فوق لوحته، هكذا رأيته أيضًا وديعًا وصديقًا حين أمسكتني اللوحة من يدي؛ لمست روحي، أحسست بشعورٍ غريبٍ وربّما شعر به غيري كذلك، لقد عشتُ هذا الموت مرارًا بنفس الطراوة والراحة النفسيّة التي تصدرها لي اللوحة.. أليس هذا شعرًا، هذا الذي يجعلنا نتصالح مع الفكرة الأشد خوفًا بالنسبة لنا أو بالنسبة لي على الأقل؟!

art

في بعض لوحاته يفقد الثقة بما يراه ويؤمن بما لا يراه، وفي الوقت نفسه لا يشفق على أحد وخصوصًا “حين تهطل على الأرصفة الحجرية موسيقى الجاز، عبر النوافذ”. كل ما في الأمر أنه سيحرر نفسه ويسكب الخمر على ثيابه ويترنح كدرويشٍ ويحدثنا عن الظلام: “أحدثك عن الظلام: كان لطيفًا لولا السلالم الحجرية، والمنعطفات، والعذابات القديمة”. (من رسائل زهرون)

art

الشيخ يرسم فلسفته تجاه الموت ويكتبها أيضًا في مواضيع عديدة ورسومات مختلفة: “للحياة سبب واحد فقط/ (الكل يعرفه)/ وهذا ما يجعلها عزيزة جدًّا/ أما للموت فأسباب عدة: فالناس تموت من الجوع/ من الطاعون والأوبئة/ يموتون في الحروب/ يموتون بالسكتة القلبية/ يموتون غيلة/ أما أنا فأموت حبًّا”. فلسفته تدعو للحياة لا الموت في عالم فيه القليل من الفرح، والكثير الكثير من الأسى. (من مجموعة: قليل من الفرح، كثير من الأسى)

art

رغم غربته الطويلة في المنافي، بعيدًا عن وطنه العراق، فإن طين الطفولة وحضن القرية لم ينفصلا عنه. بقيت الطبيعة الأولى، وبدايات تشكّل حسَّه الفني والشعري، ترافقه في كل محطة. لم ينكرها، وإنما تناغم معها واستمدّ منها مادته في الرسم والشعر معًا. يتجلّى ذلك في لوحاتٍ عديدة تعتمد على التظليل الخشن والتقاطع الطبقي للأشكال، ويتكرّر فيها فضاءٌ أبيض مفتوح يمنح المخيّلة حرية التأويل دون أن يقيّدها بشيء، بينما يظهر في هذا الفضاء أناسٌ عائمون، يعيشون حيواتٍ متعددة في اللحظة نفسها؛ واضحون أحيانًا، وضبابيون أحيانًا أخرى، يواجهون المتلقي بنظراتٍ مباشرة، أو يشيحون بوجوههم كمن يرغب في الفرار من اللوحة نفسها، كأن لا قدرة لهم على مواجهة أحد.

إنهم الأشخاص الرماديّون، الحريصون على ألَّا يورطهم أحد، وألَّا يورطوا أنفسهم في شيء. يحمون مشاعرهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، ويختبئون خلف ظلالهم كي يظلوا على تماسٍّ خفيف مع الحياة دون أن ينغمسوا فيها تمامًا.

لهؤلاء الرماديون تحديدًا يرسم الشيخ تلك اللوحات، ويكتب الشعر:

“الكل يعبد أجدادك الآن/ يحجون إلى مقاماتهم/ يقفون بخشوع أمام أحجارهم ويسجدون/ أجل إنهم يخشون أجدادك اليوم؛/ لكنهم يستبيحون حياتك، ويهدرون دمك/ ألا يكفيك هذا اليقين؛/ إنك ستظهر لهم بعد آلاف السنين/ وسيركع أحفادهم أمام عتباتك”. (من رسائل زهرون)

على هؤلاء ألا يشغلهم شيء؛ فالدائرة ستدور، وسيأتي الأحفاد في زمانٍ ما، يتلون الصلوات على أرواحهم، ويردّون لهم حقهم المسلوب في المجد. هكذا ببساطة الرمادي، ببشاشته وهشاشته، وبنبرته التي تبشّر دائمًا بأمور إيجابية قادمة.

art

حين يقوم الفنان برسم الهواجس والمخاوف ويجسد حيرة الأسئلة أو حتى عندما يريد أن يعود إلى أماكن فقد طريقه إليها، فعليه أن يعود إلى أعماقه ليختار ما يناسب ذلك من ألوان، وأظن أن داخل كل فنان يقف الأبيض والأسود في مقدمة الألوان التي تأتي لمثل هكذا مواقف، يدعوها الفنان عند الحاجة فتأتي بكل بصيرتها ومعرفتها بالإجابات.. يحيى الشيخ بكل تمكن استخدم الأبيض والأسود برماديتهما لنقل رؤى الأشخاص داخله وخارجه، وكل مخاوفهم خارج الزمان والمكان، بل خارج المتخيل لأرضٍ بكرٍ تناسب تلك الهواجس وتحنو عليها.

في لوحاته يجسد الضعف في أبهى صوره، ويرافق ذلك كلمات من بلور وندى تعمل على الابتسام في وجه الخوف والربت على كتفه: “أنا فقيرٌ وضعيف ومنفي/ كسير الجناح/ لكنهم جميعًا يتمنون لو ورثوا ما ورثته عنك:/ حبك السّرمدي”. الخوف أحد أبنائنا الذي أنجبته أرحامنا ذات مرات عديدة كنا نهرب فيها من شيء ما، أحد ما، تاريخ ما؛ وأنكرناه.. يحيى الشيخ لا يغيّب أبدًا أحد أبنائه عنه.

أحيانًا كثيرة يشعر الإنسان منا أنه يعيش حلم شخص آخر بكل تفاصيله وأخطائه، ويتمنى لو أن هذا الشخص يستيقظ ليرحمه من عبء تفاصيله وحياته التي لم تكن له؛ ليعيش حياته هو، لكن هذا الانسان لا يستيقظ ويظل نائمًا في موته السرمدي؛ لم أجد أفضل من لوحة يحيى الشيخ التي تعبر كما يقول عن قصر ساعات النعيم وطول ساعات العدم وحياة بينهما ممتدة لا تنتهي.

وفي مشهد تأويلي أخر يعبر عن حطام رغباتٍ تم قتلها، وبوم يفسّر الخراب القادم، ومن شدة إيمانه به يفرط في التفسير ويزعجك صوته المغبّر العِكر؛ قد يباغتك في لوحة جواره شخص يستريح على صخور منخورة في البحر القديم المقيم فيه بلا منّه؛ ستسمع بكل وضح ذاك الشخص يقول: “قالوا عني حكيمًا.. هل رأيت حكيمًا ينفصل عن ظله؟!”، ويتركك هكذا تقلب السؤال ويمضي في بحره منفصلًا عن ظله، ظله ذاك النبي الذي تبعه يومًا ثم شك برسالته.

art

في اللوحة السابقة يبدو أن الفنان يعالج فكرة التواصل الملتبس بين البشر؛ فالأشكال تشير إلى مجموعة من الشخصيات التي تتحدث أو تصغي، لكنّ الحوار يبدو عالقًا بين الإشارة والصوت، كأن الجميع يتحدث ولا أحد يسمع. الوجه الأول، بإصبعه المرفوع، يُجسّد سلطة الكلام أو محاولة فرض الرأي، بينما تنسحب بقية الوجوه في تكرارٍ صامت أو استجابةٍ مترددة.

وهناك لوحات تدعوك للتأمل، ربما تتأمل قدرك الذي هو قدر الآخرين أيضًا، وأخرى تدعوك للحب، للحبيبة التي فيه تشبه المعجزات والآلهة، ويفوح منها رائحة الليلك أو يفوح من الحكاية نفسها التي تتمنى لو أنك جزء منها.

يقول يحيى الشيخ في كلمات مرافقة لإحدى تلك اللوحات: “كانت عند رأسي تحرس نومي/ تتأمل انبلاجي الجديد من بين ركام آدميتي الفانية وهذياني/ انحنت وغشت وجهي بخصلات شعرها/ وهطلت غيمة من ياسمين/ آه.. ما أقصر ساعات النعيم!/ ما أطول ساعات العدم!”

من يكتب الشعر ويرسمه بنفس المهارة؛ لا أظن أنه إنسان يملك حياة واحدة، وإنما إنسان امتد به الزمن عبر قرون عديدة ينتقل بين الأيام بخفة دون أن يشيخ، وأنا معه تمامًا حين يقول: “تراودني فكرة أني كنت أكثر من واحد عاشوا الزمن ذاته، أو واحد عاش زمنين”.

وأشفق عليه حين يقول: “أهرع إلى المرأة فلا أرى أحدًا. من عاش إذن تلك السنين؟”.

 

  • يحيى الشيخ: شاعرٌ وفنانٌ تشكيليٌّ عراقيّ، وُلد عام 1945 في قرية اللطلاطة بمحافظة ميسان. تخرّج في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد عام 1966، ثم حصل على الماجستير في فن الغرافيك من يوغسلافيا، والدكتوراه في علوم الفن من موسكو. عاش في المنافي متنقّلًا بين عواصم عدّة، من دمشق وطرابلس إلى عمّان وأوسلو حتى استقر في النرويج. أصدر عددًا من الأعمال الأدبية، من أبرزها (سيرة الرماد، بهجة الأفاعي، أنزل النهر مرّتين، ساعة الحائط، الغايات، والشوق)، وتجلّى في مجمل تجربته اتّحاد الشعر بالرسم.

مقالات من نفس القسم