مباديء الكتابة الدرامية للتلفزيون
المقدمة: عصر السرد المتسلسل المعقد
شهدت الدراما التلفزيونية في العقدين الأخيرين تحولاً جذرياً، خاصة مع صعود ما يُعرف بـ “السرد التلفزيوني المعقد” (Complex TV Narrative)، الذي يمنح الكتّاب القدرة على بناء شخصيات ذات أبعاد وتركيبات تتجاوز حدود أي شكل قصصي آخر. يمثل المسلسل المتسلسل وحدة سردية فريدة، مختلفة عن النثر أو السينما أو المسرح.
يركز بناء الموسم الدرامي التلفزيوني على تنظيم السرد عبر مجموعة من الحلقات المترابطة، والتي قد تتراوح عادةً بين 6 إلى 24 حلقة (حسب البلد أو المنصة). يتميز الموسم بوجود قوس درامي طويل المدى (Season Arc) يوزع على كامل الحلقات، بالإضافة إلى حبكات فرعية متقاطعة تغذي تطور الشخصيات والقصة الرئيسية.
تعد سلاسل مثل Breaking Bad، التي امتدت لـ 62 حلقة على مدى خمسة مواسم، مثالاً بارزاً لهذا التطور، حيث أعلنتها موسوعة جينيس للأرقام القياسية في عام 2013 كأعلى سلسلة عرض على الشاشة تقييماً على الإطلاق. لقد نجح صانع السلسلة في تحقيق رؤيته الطموحة التي ارتكزت على تحول شخصية البطل، وهو مفهوم يُعد أحد الفروقات الجوهرية بين الكتابة للشاشة الصغيرة والكتابة للشاشة الكبيرة.
البناء الدرامي للتلفزيون: الفارق الجوهري مع السينما
يُظهر البناء الدرامي للمسلسلات التلفزيونية اختلافاً هيكلياً ووظيفياً جوهرياً عن بناء الفيلم السينمائي الطويل، وهو اختلاف يمليه عامل الزمن ومتطلبات الصناعة.
1. الهيكل الزمني والتقسيم إلى فصول (Acts)
عادةً ما تعتمد الكتابة السينمائية على البنية الكلاسيكية ذات الثلاثة فصول (Three-Act Structure)، حيث تكون القصة مكتملة ومضغوطة ضمن إطار زمني قصير نسبياً. أما في التلفزيون، وخاصة في شبكات البث التجاري القديمة، فإن الهيكل الدرامي للحلقة يتقيد بضرورة وجود فواصل إعلانية.
إذا كان الموسم هو المبنى، فكل حلقة هي طابق في هذا المبنى. كل حلقة يجب أن تكون قصة مثيرة ومكتملة نسبيًا بحد ذاتها، وفي نفس الوقت، يجب أن تخدم القوس الموسمي الأكبر وتدفع القصة العامة خطوة إلى الأمام.
قبل ظهور منصات البث، كان التلفزيون وسيطًا تقطعه الفواصل الإعلانية. هذا القيد التجاري لم يكن عائقًا فحسب، بل شكل طريقة السرد التلفزيوني وأجبر الكتاب على إتقان فن الإيقاع والتشويق بطريقة فريدة. حتى اليوم، في عصر المشاهدة المتواصلة، لا يزال هذا الهيكل يؤثر على معظم المسلسلات لأنه أثبت فعاليته الدرامية.
تتكون الحلقة التلفزيونية التقليدية (ذات الساعة الواحدة) من الأجزاء التالية:
- المقدمة التشويقية (The Teaser): هي الدقائق القليلة الأولى من الحلقة (قبل شارة البداية). وظيفتها خطف انتباه المشاهد فورًا. يجب أن تقدم لغزًا، أو حدثًا صادمًا، أو موقفًا مثيرًا للفضول. إنها بمثابة “خطاف” يضمن ألا يغير المشاهد القناة.
- الفصول الأربعة أو الخمسة (The Acts): بعد المقدمة، تُقسم بقية الحلقة إلى أربعة أو خمسة فصول، يفصل بين كل منها فاصل إعلاني (نظريًا أو فعليًا). كل فصل هو بمثابة قصة قصيرة لها بداية ووسط ونهاية، حيث يواجه الأبطال عقبة صغيرة ويحققون تقدمًا (أو تراجعًا) في هدفهم.
- نهاية الفصل (Act-Out): هذه هي اللحظة الأهم في الهيكل الإعلاني. نهاية كل فصل يجب أن تكون ذروة مصغرة، لحظة تشويق قوية أو سؤال ملح أو كشف مفاجئ. الهدف هو جعل المشاهد مضطرًا للعودة بعد الفاصل الإعلاني لمعرفة ما سيحدث. هذا الفن، فن إنهاء المشهد في قمة التوتر، هو مهارة أساسية لكاتب التلفزيون.
فهم هذا الهيكل يساعدك على تنظيم قصتك داخل الحلقة، وتوزيع الأحداث بشكل متوازن، وخلق إيقاع متصاعد من التوتر والحل على مدار 45-50 دقيقة.
2. التركيز على الاستمرارية وعدم الاكتمال
الفيلم الروائي مصمم ليتم مشاهدته مرة واحدة وتقديم عدالة شعرية أو نهاية منطقية خلال ساعتين. على النقيض، تم تصميم السلاسل التلفزيونية لتدوم “إلى الأبد تقريباً”، ما دامت التقييمات تشير إلى اهتمام الجمهور. ونتيجة لذلك، تتجنب معظم المسلسلات، باستثناء المسلسلات القصيرة (Mini-Series)، الإغلاق النهائي الكامل للقصص.
في الدراما التلفزيونية المتسلسلة، فإن الفكرة المركزية (الموضوع) هي التي تؤطر الأحداث وتمنح اتساقاً عاطفياً عبر الحلقات المختلفة.
3. تحدي الشخصية في الدراما التلفزيونية
في الأفلام، غالباً ما يتم حل قوس الشخصية أو “تحولها” داخل حدود الفيلم. لكن في الدراما التلفزيونية المتسلسلة، تُبنى الشخصية حول “عيب جوهري” (Hero’s Flaw) أو مشكلة تبقى بلا حل حتى الحلقة الأخيرة من السلسلة. يُمنح البطل فرصاً متكررة لـ “إصلاح نفسه”، لكن هذه الفرص تفشل دائماً، ما يزيد من التوتر ويجعل الجمهور يعود أسبوعاً بعد أسبوع أملاً في التغيير.
في كثير من الأحيان، لا يتغير البطل الدرامي من الحلقة الأولى إلى الأخيرة؛ بل يمر “باكتشاف” (Discovery) عن نفسه أو عن العالم المحيط به، بدلاً من التحول الجوهري (Transformation).
قوس الشخصية في الدراما التلفزيونية: نظرية التحول الطويل الأمد
تتيح الطبيعة الممتدة للسرد التلفزيوني (50 إلى 100 ساعة) للكتّاب فرصة خلق شخصيات ذات أبعاد وتعقيد تتجاوز ما يمكن تحقيقه في أي شكل قصصي آخر. هذه الطبيعة هي ما جعل سلاسل مثل Breaking Bad تحقق نجاحاً هائلاً.
1. صعود الأبطال المناوئين (Antiheroes)
في السنوات الأخيرة، تبنت العديد من المسلسلات المعقدة مفهوم البطل المناوئ (Antihero) كشخصية رئيسية. هذا البطل هو شخصية يتمحور حولها السرد ونتعاطف معها، لكن سلوكها ومعتقداتها تثير الولاء الأخلاقي الغامض أو المتضارب أو السلبي لدى المشاهد (مثل توني سوبرانو أو دكستر مورجان).
تسمح السردية الطويلة بتقديم هذه الشخصيات بتعقيد أخلاقي، حيث يمكن تكوين ذاكرة تسلسلية لدى المشاهد (Serial Memories). هذه الذاكرة تتيح لنا تذكر كيف كانت الشخصية في الماضي (كأن نتذكرها شخصاً “لائقاً ومحترماً”)، مما يجعلنا نتحمل أفعالها الرهيبة في الحاضر، ويحافظ على درجة من الولاء حتى عندما تتصاعد جرائمها.
2. متطلبات الشخصية المعقدة
للحفاظ على اهتمام الجمهور لسنوات، تحتاج الشخصية الرئيسية إلى ما يسميه روبرت ماكي “شخصية ذات أبعاد تتجاوز الثلاثة”. يجب أن تكون الشخصية معقدة بما يكفي لمكافأة استكشاف أعماقها، ومرنة بما يكفي للخضوع للتغيير.
كما يجب أن تكون الشخصية قادرة على إثارة ما يمكن أن اسميه “تحالف الضرورة الدرامية” لدى المشاهد. هذا يعني أن المشاهد لا يرتبط بالشخصية عاطفياً كإنسان، بل كبناء فني. يصبح المشاهد مفتوناً بـ “كيفية تركيب الشخصية”، وكيفية تقديم أدائها، وأين قد تتجه، مما يحول المشاهدة إلى عملية تحليل لغز مستمرة.
مسلسل Breaking Bad: من السيد شيبس إلى سكارفيس (دراسة نموذج)
تُعد قصة والتر وايت في Breaking Bad دراسة حالة استثنائية في تحول الشخصية الدرامية عبر التلفزيون. لقد بنى فينس جيليجان السلسلة بالكامل على فكرة التحول الجذري للشخصية.
1. الفرضية المركزية والهيكل الموسمي
وُصفت الفكرة المركزية للمسلسل في عرضها الأول بعبارة أصبحت شهيرة: “السيد شيبس يتحول إلى سكارفيس” (Mr. Chips goes Scarface). هذه العبارة تلخص قوس السرد: تحويل معلم الكيمياء المعتدل إلى زعيم عصابة إجرامي.
Breaking Bad هو قصة عن “التحول”، وتحديداً عن “التدهور”حيث يتجه البطل من الخير إلى الشر. ويشير جيليجان إلى أن السلسلة استغرقت خمسة مواسم (62 حلقة) لإكمال هذا التحول، مقارناً إياه بـ “قصة الذئب” أو “جيكل وهايد”، حيث تتحول اليرقة إلى “فراشة تطبخ الميثامفيتامين”.
Breaking Bad عبارة عن سرد معقد كثيف. بدلاً من أن يتسع عالم القصة اجتماعياً ليشمل المدينة بأكملها (كما في The Wire)، فإنه ينكمش ويركز بعمق على التركيبة النفسية لوالتر وايت. كل توسع سردي يعود إلى والتر أو شريكه جيسي، ويتمحور حول خيارات والتر وسلوكه.
2. البناء الدرامي لحلقة Breaking Bad
على المستوى اللوجستي، تتبع حلقات Breaking Bad شكلاً تقليدياً إلى حد ما، حيث تتقسم إلى أربعة فصول لوجستية (Logistical Acts) مع مشهد تمهيدي قصير (Teaser). حتى عندما يتم إزالة الإعلانات في نسخ البث عبر الإنترنت، يظل هناك “تلاشٍ إلى السواد” (Fade to black) في نهاية كل فصل، وهو إرث من هيكل الشبكة.
كان المشهد التمهيدي في الحلقة التجريبية (Pilot) لـ Breaking Bad بمثابة “مشهد تمهيدي من نوع الفلاش باك”. لقد قذف المشاهد مباشرة في قلب الصراع (الصحراء، مختبر متنقل، والتر في ملابسه الداخلية وبقناع غاز)، مانحاً الجمهور لمحة مكثفة وجذابة عن طبيعة المسلسل. هذا المشهد يخدم غرضاً درامياً قوياً، خاصة عندما يحتاج الفصل الأول إلى وقت أطول لتقديم العالم والشخصيات.
كما اعتمد المسلسل على نموذج “القصص المتسلسلة” (Highly Serialized)، حيث تتراكم الوقائع السردية التي تشعل محفزات للأحداث المستقبلية في الحلقات التالية.
3. الشخصية: ولادة والتر وايت و”هايزنبرج”
في البداية، قُدم والتر وايت (الذي لعبه برايان كرانستون) كـ “معلم كيمياء ضعيف الإرادة”. كان وايت (50 عاماً) عالم متعدّد التخصصات، يعيش في ألبوكيرك مع زوجته سكايلر وابنه المعاق. لقد تم تأطير ظهوره الأول في سياق يجعله شخصية متعاطفة، حيث تم تشبيهه بـ “الأب التائه” (Hal) الذي لعبه كرانستون في مسلسل Malcolm in the Middle
لتعزيز التعاطف، تم إثبات أن وايت كان ضحية في مستويات متعددة:
- أُصيب بسرطان الرئة في مرحلة متأخرة.
- تم تصويره كشخص “مخصي” مهنياً واجتماعياً، حيث لا يقدره طلابه ولا زوجته (التي تمزح معه بمودة).
- الكشف عن خلفيته (Backstory) في وقت لاحق، حيث باع أسهمه مبكراً في شركة تكنولوجية شارك في تأسيسها، ليخسر مليارات الدولارات التي جناها شركاؤه القدامى.
الهدف المحفز (Goal): بعد تشخيص السرطان، يرى وايت تقريراً إخبارياً عن ضبط كميات كبيرة من النقود في عملية تهريب مخدرات. يقرر وايت استخدام خبرته الكيميائية لتصنيع الميثامفيتامين لتأمين مستقبل عائلته المالي قبل وفاته. هذا الهدف، وهو توفير المال للعائلة، كان بمثابة “المحرك المستمر للسلسلة”.
التحول الخارجي (Heisenberg): يظهر أول دليل على أن وايت ليس هال (شخصية Malcolm in the Middle) عندما يظهر وايت بـ “شارب”. مع تقدم المسلسل، يظهر التغيير الخارجي ليعكس نفسيته المتغيرة: حلاقة الرأس، وإطلاق لحية صغيرة، واعتماد قبعة “البورك باي” السوداء التي ترمز لشخصية “هايزنبرج”. هايزنبرج ليس شخصية جديدة، بل هو “الأنا الحقيقية” لوالتر وايت الذي كان يقمعه طوال حياته.
4. رحلة التدهور الأخلاقي والعمق النفسي الداخلي
إن تعقيد شخصية والتر وايت ينبع إلى حد كبير من التناقضات بين “كيف نرى نحن أفعاله” و”كيف يرى هو نفسه”.
- السعي خلف التبرير: طوال السلسلة، نشاهد والتر يقنع نفسه بأن خياراته اللاأخلاقية هي “الشيء الصحيح الذي يجب فعله”، أو أنها ضرورية من أجل “الخير الأعظم لعائلته”. كان وايت “ماكيافيلياً بارعاً” في تبرير قراراته.
- تصاعد الشر: كانت أفعاله تتصاعد تدريجياً، بدءاً من القتل غير المقصود دفاعاً عن النفس (إميليو وكرايزي-8) في الموسم الأول، وصولاً إلى أفعال متعمدة أكثر قسوة. اللحظة المحورية كانت في نهاية الموسم الثاني، عندما اختار وايت أن يدع جين (صديقة جيسي) تختنق ببطء في قيئها بعد جرعة هيروين زائدة، ليضمن استعادة جيسي لنفسه.
- الغطرسة والكبرياء: دوافع وايت تتجاوز المال؛ فهو مدفوع بـ “أنا” (Ego) وكبرياء مجروح، ورغبته في أن يُرى ويُقدر على مهاراته الكيميائية. أدى كبرياؤه إلى رفض عرض شركائه القدامى (إليوت وجريتشن) لدفع فواتيره الطبية في وقت مبكر. وفي الموسم الرابع، يواجه زوجته سكايلر بغضب مدعياً: “أنا لست في خطر يا سكايلر. أنا الخطر! أنا من يطرق الباب!” (I am the danger! I am the one who knocks!)
- الصراع الداخلي: عندما يتحول والتر إلى هايزنبرج الشرير، يصبح شخصيته اللطيفة السابقة (Walter White) هي قناعه. لكن عندما يحاول التخلص من هايزنبرج، “يثور غضباً”. هذا الصراع الداخلي الدائم هو ما جعل السلسلة تركز على “الإنجاز” و”الاحترام من الآخرين” على سلم ماسلو للاحتياجات، ما جعلها شخصية محفزة للجمهور رغم فسادها الأخلاقي.
5. التعقيد السردي والأسلوب البصري
Breaking Bad ليس مجرد قصة عن الأحداث؛ إنه تحليل نفسي، يتبنى “أسلوباً بأقصى درجة من الوضوح”، استخدم المسلسل لغة بصرية جريئة تعكس الحالة النفسية للبطل:
- المعالجة البصرية: اعتمد المسلسل لقطات وزوايا كاميرا مبالغ فيها، مثل وضع الكاميرا داخل وعاء كيميائي أو على نهاية مجرفة. كما استخدم المونتاج السريع والقفزات الزمنية غير الخطية.
- التوتر والإثارة: اعتمد المسلسل على “المفارقة الدرامية الرئيسية” لخلق التشويق. المشاهد يعرف ما يجهله والتر جونيور أو هانك أو سكايلر، وهذا التفاوت في المعلومات يولد التوتر ويجعل المشاهد “يقرأ العقول”.
- العرض الإجرائي: إلى جانب كونه دراما شخصية، كان Breaking Bad أيضاً “دراما إجرائية” فريدة. لقد أظهر تفاصيل عملية لـ “كيفية صنع المخدرات” وكيفية تجنب المجرمين للكشف، مما منح المشاهد نوعاً فريداً من الترفيه الإجرائي.
6. الشخصيات المحورية: جيسي وسكايلر
اعتمد Breaking Bad على طاقم عمل كبير (أكثر من 80 دوراً ناطقاً)، لكن الشخصيتان المحوريتان هما جيسي وسكايلر.
- جيسي بينكمان: كانت شخصية جيسي، الطالب السابق لوالتر، في البداية مجرد شخصية ثانوية كان من المفترض أن تموت في الموسم الأول. لكن “الكيمياء” (Chemistry) القوية بين الممثلين (برايان كرانستون وآرون بول) دفعت جيليجان لتغيير الخطة. أصبح جيسي يمثل “البوصلة الأخلاقية” في المسلسل، حيث توازنت أخلاقه الإيجابية المتنامية مع تدهور والتر. في نهاية الموسم الثالث، زاد غضب المشاهدين تجاه والتر عندما جند جيسي لقتل جايل. العلاقة بينهما كانت معقدة ومتناقضة، كعلاقة الشراكة والأبوة والابن في آن واحد.
- سكايلر وايت: تُعد سكايلر مثالاً لكيفية إعادة صياغة قصة المسلسل من منظور آخر (Serial Melodrama). من منظور والتر، كانت عقبة أمام تحقيق ذاته . لكن من منظورها، فإن قصتها هي قصة “زوجة مُعنّفة” دمرتها طموحات زوجها الإجرامية. عندما تكتشف سكايلر جرائمه، تبدأ في التبرير لنفسها لغسل الأموال وشراء مغسلة كواجهة، لتجد نفسها تسير في نفس طريق التبرير الأخلاقي الذي سلكه والتر. في المواسم الأخيرة، تُظهر سكايلر الرعب والندم، وتقترح على والتر قتل جيسي، ما يوضح مدى عمق الانحدار الأخلاقي الذي وصل إليه الجميع بسبب والتر.
- الخاتمة وفن النهاية المعلقة (Cliffhanger)
كانت النهاية المتوقعة والضرورية لـ Breaking Bad هي أن أفعال وايت يجب أن تكون لها عواقب. لكن قبل الوصول لهذه النهاية، أتقن المسلسل استخدام السلاح الأقوى في ترسانة الكاتب: النهاية المعلقة أو الـ “كليف هانجر”.
الكليف هانجر هو أداة سردية يتم فيها إنهاء الحلقة أو الموسم في لحظة ذروة من التشويق، تاركًا مصير الشخصيات أو نتيجة حدث مهم معلقًا في الهواء. الهدف هو خلق رغبة لا تقاوم لدى المشاهد لمعرفة ما سيحدث بعد ذلك. وله أنواع متعددة:
- كليف هانجر الخطر الجسدي: وهو النوع الكلاسيكي. شخصية رئيسية تكون في خطر مميت. (مثال: نهاية الموسم الثالث من Breaking Bad، حيث يوجه “جيسي” مسدسه نحو “غيل” ثم نسمع صوت إطلاق النار وينتهي المشهد).
- كليف هانجر الكشف الصادم: يتم الكشف عن معلومة جديدة تقلب كل ما كنا نعرفه عن القصة. (مثال: نهاية الموسم الرابع، عندما يكتشف “هانك” بالصدفة أن “والتر” هو “هايزنبرج”).
- كليف هانجر القرار المصيري: تنتهي الحلقة بشخصية على وشك اتخاذ قرار مصيري سيغير كل شيء.
في الحلقة الأخيرة من السلسلة، يصل والتر إلى “محاسبة أخلاقية”. يعترف لسكايلر-ولنا- أن دوافعه لم تكن نبيلة كما ادعى، بل كانت نابعة من دوافع شخصية بحتة: “فعلت ذلك من أجلي. لقد أحببت ذلك. كنت جيداً فيه. وكنت على قيد الحياة”.
بهذا الاعتراف، يتخلى والتر وايت عن تبريراته، ويدخل في النهاية كـ “بطل شيطاني” يجد الإنجاز والتحقق، لكن بثمن باهظ: فقدان كل شيء.
الخلاصة
إن بناء الموسم الدرامي التلفزيوني يمثل توازناً فنياً معقداً بين القصص الفردية للحلقات والقوس السردي الكبير الذي يمتد لسنوات، وهو ما يتطلب إدارة محكمة للتوتر وتطور الشخصيات.
قدم مسلسل Breaking Bad نموذجاً فريداً لهذا الفن، حيث كانت رحلة والتر وايت من “السيد شيبس” إلى “سكارفيس” تجربة فريدة في تدهور الشخصية، مدعومة ببنية سردية تركز على العمق النفسي والمفارقة الدرامية. هذا التركيز على التحول الأخلاقي المتسلسل هو ما يجعله نموذجاً لتفوق الدراما التلفزيونية المعقدة على محدودية السرد السينمائي. لقد استطاع المسلسل، بفضل هذه البنية، أن يُبقي الجمهور مرتبطاً بشخصية شريرة إلى حد كبير، ليس حباً في إنسانيتها، بل افتتاناً بـ “كيفية تركيب هذه الشخصية” ومشاهدة الآثار المترتبة على كل قرار تتخذه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر والمراجع:
- McKee, R. (2021). Character: The art of role and cast design for page, stage,. Grand Central Publishing.
- Mittell, J. (2015). Complex TV: The poetics of contemporary television.
- Oberg, (2023). Writing a successful TV series: How to pitch and develop projects for television and online streaming. Screenplay Unlimited.
- Breaking Bad. (2008–2013). AMC.