البطل التراجيدي المصري

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمود عماد

يظل جمال عبد ناصر حاضرا بقوة رغم الغياب، ربما حتى أكثر من حضور الأحياء، لأنه مثل كل الأبطال التراجيديين يتحدى بشكل ما عامل الزمن والحضور الجسدي؛ ليتحول إلى أسطورة، يأتي سحرها من الانقسام حولها، وهذا ما يعطي جمال تلك الأسطورية.

العاشقون الذين لم يستطيعوا الخروج من ثوب الزعيم وزمانه هم هؤلاء الذين لم ينجحوا في الاستغناء عن صورة الأب، عن الرمز والقدوة والقائد؛ فقرروا تثبيت الإطار في بيوتهم عله يخفي الشرخ الغائر في أرواحهم.

أما الكارهون فهم غير القادرين على رؤية التاريخ وأبطاله في سياقاتهم الأصلية. يصنعون لأنفسهم شماعة جاهزة لتعليق إخفاقاتهم المتلاحقة عليها، وهي شماعة الديكتاتور الفاشل، وهذه الحجج تريح أنفسهم التي لا تفهم الدراما والتراجيديا.

يبقى عبد الناصر جزءا لا يتجزأ من نسيج التاريخ المصري، وأحد صانعي الدولة المصرية الحديثة المعاصرة، وهو من القلائل الذين شهد التاريخ لهم بأنهم امتلكوا مشروعا حقيقيا متكاملا، والتاريخ دائما هو الحكم الأكبر.

هذا المشروع هو حلم رجل نبع من حلم أمة، ولكن الأحلام دائما ما تنتهي ليصحو الحالم على واقع مر. نعم الواقع أمر من كل الكوابيس؛ لأن الكابوس يظل وهماً في الرأس يراه العقل في النوم، ويستطيع ببعض الحيل تشكيله على هواه، ولكن الواقع يشكل بيد عليا بعيدة عن الحالم.

هي إرادة أخرى أكثر نفاذا من إرادة زمرة حالمين لا يملكون إلا أحلامهم، ولهذا تصطدم اليوتوبيا الخيالية بديستوبيا الواقع، وتتحطم الطموحات على صخرة الحياة وتحدياتها القاسية.

ولكن أهم ما ستذكر به الشخصية الناصرية بعد قرون هو الصدق الذي طغى عليها، وأضحى يشع من بين قسمات وجه وصوت وتصرفات جمال. وأهم ما يميز الرموز والأساطير هو صدقهم؛ ولهذا أحب المصريون ناصر حتى اللحظة الأخيرة، ورغم كل شيء. فحتى لو هزم البطل، يثبته صدقه في أفئدة الأنصار، بل وحتى في عقول الأعداء.

تبقى جنازته الشعبية عالقة في الأذهان كأحد الأعمدة الرئيسية لتكتمل الأسطورة؛ بذلك السيل الجارف من البشر الذين خرجوا في ثورة لا جنازة، ثورة تنتصر لاسم الزعيم؛ لتكون بمثابة التأكيد على أن حلم الراحل لم يكن إلا حلمهم، وكان أيضا وعدا من تلك الجموع أن الحلم يجب أن يستمر بعد الرحيل.

ولكن الطابع العربي القائم على تقديس القيادة حد التماهي بين الطموحات ورموزها؛ أضحى سدا منيعا أمام استكمال الطريق، مستبدلا إياه بطرق أقصر وأقل وعورة، من دون أهداف عظيمة لدى الوصول.

بعد عقود، ظلت جنازة الزعيم علامة لا يمكن محوها تدل على خلود صاحبها؛ كونها ربما الأكبر في تاريخ الموتى؛ وظلت على مدار السنوات شاهدا وبرهانا على كون جمال عبد الناصر هو البطل التراجيدي المصري للقرن العشرين بامتياز، وربما لمصر الحديثة والمعاصر، فيما حول الموت الزعيم السياسي إلى شيء أكبر من ذلك، لقد بعث الموت أسطورته وثبتها في الوجدان إلى الأبد.

 

مقالات من نفس القسم