بولص آدم في نصه الشعري” لاتستغرب “: الكتابة باعتبارها فضاء للتأمل الوجودي

POLES ADAM2
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مروان ياسين الدليمي

النص الشعري”لاتستغرب” لبولص آدم المنشور في موقع ” الكتابة” يبدو بمثابة صرخة صامتة في وجه كل ما يُمكن أن يفرّغ الكتابة من جوهرها، أو يحوّلها إلى مجرد وصف أو تقرير عن الأشياء. فيه نوع من التوتر الدائم بين الرغبة في الكتابة وفعل الامتناع، بين الإحساس بالمسؤولية تجاه الكلمة والفكرة وبين الخوف من السقوط في التفاهة أو التكرار. فالشاعر هنا لا يقدم البحر أو المطر أو القطارات كمواضيع جاهزة للتأمل، بل يضع القارئ أمام واجب الصمت، أمام سؤال أخلاقي وجمالي:

متى تصبح الكتابة فائضة أو مضرّة؟ ومتى تكون مهمة ومسؤولة؟.

نقاء اللغة

من اللحظة الأولى، يدعونا النص إلى إعادة التفكير في طبيعة الكتابة نفسها. “دع البحر نظيفًا من اللدائن، من اللعنات”،

هذه الجملة ليست مجرد دعوة لحفظ الطبيعة، بل تحريض على المحافظة على نقاء اللغة.

البحر هنا ليس موضوعًا موضوعيًا، بل رمز لما هو مقدس في الكتابة: النقاء، الصفاء، القدرة على التواصل مع ما هو جوهري في الحياة قبل أن يتحول إلى مشهد أو مادة.

التداعيات الأخلاقية والوجودية تتجلى في التكرار الدائم لـ”دع”، كأنه صيغة طقسية، تضع القارئ أمام مسؤولية أخلاقية: أن لا يلوث، أن لا يسلب المعنى من الأشياء بوصفها مجرد أدوات لسرد جاهز أو استهلاك بصري.

الامتناع عن الكتابة عن المطر والقطارات والأسلحة، وعن الشمس والحصى والدروب، هو امتناع عن الوقوع في الاستهلاك الشعوري أو الانبهار السطحي.

لكن الامتناع ليس سلبيًا بالكامل، بل هو نحو تركيز على الجوهر الإنساني الصغير، الفردي، المحدود، حيث نجد مقطع :

“هل ما زلت تكتب؟ لكن عن أي شيء؟ لا تكتب”.

هذا التكرار يخلق إيقاعًا تأمليًا داخليًا، يشبه نسق تدفق الوعي، حيث الكاتب والمخاطَب يتداخلان في فضاء واحد، فضاء لا يسع إلا للوعي الذاتي وإعادة النظر في أفعالنا اليومية، وحتى في الكتابة نفسها كفعل.

البعد التجريبي للغة

من ناحية فلسفية، يمكن قراءة النص كإشكالية وجودية حول المعنى والكتابة:

هل الكتابة فعل خلاق، أم مجرد ملء الفراغ؟

وهل كل ما يُكتب ضرورةً سيكون له أثر؟

النص يذهب إلى أقصى حدود النقد الذاتي، حيث المتحدث يسائل ذاته عن كل فعل كتابي:

 “هل أكتب عن أُم أربع وأربعين؟

نعم، اكتب هذا.. قياس حذائي فقط، فكر فقط.. لا تكتب”.

هنا يظهر البعد التجريبي للغة، حيث كل كلمة، كل فكرة، يمكن أن تكون مفتاحًا أو فخًا.

الكتابة تصبح عملية اختيار متوازنة بين قول كل شيء وعدم قول أي شيء، بين الفعل والصمت، بين التأمل والتوثيق.

الوعي بالزمن والتاريخ الشخصي والجماعي

كما يمكن النظر إلى النص بوصفه تجربة في الوعي بالزمن والتاريخ الشخصي والجماعي. مقاطع مثل:

 “هل نسيت.. تلك الحرب؟”

أو “لن ترى ذراعين، ولا أنا” .

تعكس الصراع الداخلي بين الماضي والحاضر، بين الذاكرة الفردية والجماعية، بين الصدمة والحاجة إلى النسيان أو التجاهل.

النص بهذا المعنى يضع المتلقي أمام مسؤولية أخلاقية: أن يرى ما هو مهم، دون أن يُغرقه في تفاصيل سطحية أو أحداث مشبعة بالعاطفة المباشرة.

فالشاعر يميز بين ما يجب الاحتفاظ به وما يمكن إهماله، بين الضروري والزائف، بين ما هو رمزي وما هو عابر.

لغة النص أيضًا تكثيف للخيال والتوتر البصري، فهي تشبه في بعض مشاهدها أعمال ألبرتو جياكوميتي، كما أشار النص نفسه في الخاتمة. اليد، كما صورها جياكوميتي، ليست مجرد عضو جسدي، بل رمز للوجود والتجربة الإنسانية المكشوفة، والمعاناة الصامتة، والقدرة على الفعل والتأثير.

النص يحمل هذا الرمز إلى مستوى الكلمات: كل “دع”، كل توقف، كل سؤال، يصبح أشبه باليد التي تمتد في الفضاء، تحرك العالم من دون أن تمسك به بالكامل، تدل على حدود الإنسان أمام الكون.

هناك تشابه بين التجربة البصرية والتجربة اللغوية، حيث كل منهما يسعى إلى كشف الحقيقة دون أن يقيدها بالتفصيل أو بالخطية.

النص أيضًا يبرز أزمة العلاقة بين الفرد والعالم. هناك حساسية كبيرة تجاه ما هو خارجي، تجاه ما هو مكتوب أو محفوظ أو متوقع.

في حين أن البحر والمطر والقطارات، وحتى الشمس والحصى، جميعها عناصر طبيعية ومعروفة، إلا أن النص يفرض الامتناع عنها، وهو بذلك يوجه النظر إلى ما هو داخلي، نفسي، شخصي، محدود ومكثف.

تفكيك المألوف

يبدو أن الشاعر يحاول أن يعيد للكتابة حرمتها، يجعلها فعلًا يتجاوز مجرد النقل أو التوثيق، ويعيدها إلى دورها كفضاء للتأمل الوجودي، حيث كل كلمة مختارة تصبح تجربة فلسفية.

إحدى السمات البارزة للنص هي التنقل بين السؤال والتوجيه والنهي:

 “هل أكتب؟”، “لا.. لا.. بماذا أكتب؟”، “لا تكتب”.

هذا النسق يخلق إيقاعًا داخليًا متقطعًا، شبيهًا بخطوط الوعي أو الموسيقى الحرة، حيث كل توقف أو تكرار أو استفهام ليس عديم المعنى، بل يشكل مساحة للتفكير، يتيح للمتلقي أن يعيش تجربة الكتابة قبل أن يكتب، أن يتحسس حدود اللغة، أن يشعر بالحرية والمسؤولية في الوقت ذاته.

هذه الاستراتيجية تحاكي ما في الفن التشكيلي الحديث: تفكيك المألوف، خلق مساحة للمشاركة الفعلية للمتلقي، بدلًا من فرض تفسير محدد. الكتابة هنا أيضًا تحمل بعدًا إنسانيًا محايثًا للوجود البشري، فهي تضع الإنسان في مواجهة الأسئلة الكبرى: الهوية، الذاكرة، المعنى، والخيبة.

الإنسان في النص ليس بطلًا خارقًا، ولا ضحية للمشاهد الطبيعية أو الاجتماعية، بل كائن متأمل، متحسس للفراغ، للمحدودية، للعجز وللحرية في الوقت ذاته. كل هذه العناصر تجعل النص تجربة فلسفية أكثر منها مجرد نص شعري تقليدي.

صمت مكتظ بالمعنى

أما بالنسبة للبعد الجمالي، فإن النص يخلق مساحات صمت ومكتظة بالمعنى، حيث كل توقف عن الكتابة، كل حرف محذوف، يصبح شكلًا بصريًا على صفحة النص. هذا يشبه الرسم التجريدي الذي يعتمد على الفراغ كما على المادة، على الضوابط كما على العفوية.

المقاطع القصيرة، التكرار، الاستفهامات، النقاط الطويلة (…) كلها عناصر تشكل بناءً بصريًا ولغويًا في آن واحد، يُجسد التوتر بين الصمت والكلمة، بين الحركة والسكون.

النص ليس مجرد دعوة للامتناع أو الصمت، بل دعوة للوعي بالكتابة نفسها، وإدراك حدود اللغة أمام العالم، واحترام ما هو مقدس، سواء في الطبيعة أو في التجربة الإنسانية.

هو نص يضع المتلقي أمام مسؤولية القراءة والتأمل، أمام سؤال فلسفي: كيف يمكن للإنسان أن يعبر عن نفسه دون أن يلوث أو يقلل من قيمة العالم المحيط ؟

كيف تكون الكتابة فعلًا يتجاوز مجرد الوصف إلى كشف ما هو جوهري؟

البحث عن جوهر الأشياء

النص، باستخدامه الصيغ المتكررة، الاستفهامات، وأسلوب الأمر والنهي، يخلق تجربة شبيهة بالتأمل الفني أو التجربة التشكيلية، حيث لا شيء يُقدم بالكامل، وكل شيء يدعونا للغوص في أعماق المعنى، للبحث عن جوهر الأشياء والوجود. إنه دعوة لصمت واعٍ، لصورة يدوية مستمرة البناء، للحظة فكرية متجددة، تجعل من الكتابة مساحة للتجربة، ومن القارئ شريكًا في هذا التجريب الوجودي والجمالي.

 

اقرأ أيضاً:

لا تستغرب.. نص لـ بولص آدم

لا تستغرب

مقالات من نفس القسم