بعد نصف قرن على رحيلها المأساوي.. درية شفيق، بنت النيل وصوت المرأة المصرية

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

آية السمالوسي

تحل اليوم 20 سبتمبر الذكرى الخمسون لرحيل درية شفيق، المرأة التي جمعت بين الجمال والثقافة والجرأة. ففي النصف الأول من القرن العشرين، حين كان أقصى ما يُتاح للجميلات هو بريق السينما، تجرأت درية على أن تشق طريقًا آخر. فقد حصلت في شبابها على لقب ملكة جمال مصر في زمن كان هذا اللقب حكرًا على الأجنبيات، ثم سرعان ما تجاوزت قيد الصورة النمطية لتصبح واحدة من أبرز رائدات حركة تحرير المرأة.

ويُنسب إليها الفضل في انتزاع حق المصريات في الانتخاب والترشح ضمن دستور عام 1956، بعد سنوات من النضال الفكري والسياسي. درست في فرنسا وحصلت على الدكتوراه في الثلاثينيات، في وقت كان تعليم المرأة العالي استثناءً نادرًا في مصر والعالم العربي، بل وحتى في بعض بلدان أوروبا.

كانت درية شفيق امرأة مختلفة بكل المقاييس: كاتبة وباحثة، مؤسسة لدوريات أدبية، ومناضلة ضد الاحتلال البريطاني. لكن جرأتها كلّفتها عزلة قاسية؛ إذ فُرضت عليها الإقامة الجبرية ثمانية عشر عامًا، قبل أن تنتهي حياتها بشكل مأساوي بالانتحار، لتلحق بركب كثير من العظماء الذين حاولوا تغيير مجتمعاتهم للأفضل فدفعوا الثمن غاليًا.

النشأة والتعليم

وُلدت درية شفيق في 14 ديسمبر 1908 بمدينة طنطا في دلتا النيل. كان والدها أحمد شفيق موظفًا حكوميًا كثير التنقل بين مدن الدلتا، بينما كانت والدتها رتيبة ناصف ربة منزل. التحقت بمدرسة ابتدائية فرنسية في الإسكندرية، لكن التعليم الثانوي كان مقتصرًا على الذكور، فدرست بنفسها وأكملت امتحانات المناهج الفرنسية الرسمية، وحصلت على أعلى الدرجات في مصر.

ساعدتها الرائدة هدى شعراوي في الحصول على منحة حكومية، فالتحقت بجامعة السوربون في باريس لدراسة الفلسفة، وهناك نالت الدكتوراه عام 1940 برسالة عنوانها المرأة في الإسلام. وعند عودتها إلى مصر عام 1935، اشتركت في مسابقة ملكة جمال مصر وحصلت على المركز الثاني، ما أثار انتقادات اجتماعية واسعة. دخلت المسابقة من دون إخبار عائلتها وحصلت على المركز الثاني، وتعرضت لانتقادات بسبب خوضها تلك المسابقة التي كانت مقتصرة على القبطيات وذوات الأصول الأوروبية.

بداية المسيرة المهنية

بعد عودتها من فرنسا مع زوجها، رفض عميد كلية الآداب بجامعة القاهرة تعيينها لأنها “امرأة”. عرضت عليها الأميرة شويكار رئاسة مجلة المرأة الجديدة، لكنها لم تستمر طويلًا في إدارتها.

في نوفمبر 1945 أصدرت الرائدة النسوية درية شفيق مجلتها الأشهر بنت النيل، النسائية المصوّرة والملونة، التي حملت بصمتها الفكرية والسياسية حتى توقفها القسري عام 1957. لكنها لم تكن ممولة كما هو الحال في مجلة المرأة الجديدة بلا رعاية من أصحاب النفوذ؛ فقد اعتمدت درية على قرض بنكي ضامنةً اسم زوجها، وسددته سريعًا مع نجاح العدد الأول. نقلت مقر المجلة إلى شارع قصر النيل، ووسعت فريق العمل، مستعينة بإبراهيم عبده كمشرف وخليل صابات كمترجم وصائغ لأفكارها بالفصحى، ثم تحررت لاحقًا من وصايتهم لتكتب مقالات أكثر جرأة بعد 1948، حين أظهرت افتتاحياتها صراحةً نبرة سياسية حادة تدعو لحقوق المرأة في ظل أجواء الهزيمة والنكسة الملكية. رفضت بيع مجلتها لدار الهلال رغم إغراء العرض، مؤكدة أن المال لم يكن دافعها، بل حرية الصوت النسائي المستقل.

وقد شهدت هيئة التحرير صراعات فكرية بين المحافظين والتقدميين، لكن درية فرضت رؤيتها التحررية، حتى أصبحت بنت النيل صدىً لصوتها الموجه للمرأة المصرية، في مقابل المرأة الجديدة التي خاطبت بها الخارج. وأصدرت للأطفال مجلة الكتكوت، لكن بنت النيل مثلت مشروعها الأوسع، إذ لم تكتفِ بالجانب الاجتماعي التقليدي، بل قدمت افتتاحيات سياسية جادة حول دور النساء في نشر السلام وتجنيب العالم ويلات الحروب، وأفردت أبوابًا للأخبار السياسية والجامعية، والفن، والتاريخ، والموضة، والإتيكيت، والطفل، مع حضور الكاريكاتير والإعلانات.

كان هدفها أن تُصبح المرأة المصرية شريكًا فاعلًا في الحياة العامة لا مجرد تابعة، فجاءت المجلة انعكاسًا لمشروعها النضالي في الثقافة والتعليم والعمل. وإلى جانب صفحاتها، أسست درية مدرسة لمحو الأمية في بولاق أبي العلا، ومكتبًا لتشغيل الطلاب، وكافيتريا لخدمة العاملات، وأقامت أنشطة ثقافية عامة، وهي خطوات عملية سبقت بها الدولة والتنظيمات السياسية، حتى أن بعض هذه التجارب قلدها الإخوان المسلمون لاحقًا. وبفضل المجلة واتحادها بنت النيل، ارتبط اسم درية بين البسطاء والطبقات الشعبية كرمز لامرأة مختلفة تكسر القوالب وتواجه التهميش.

النشاط السياسي والنضال الوطني

اقتحام البرلمان (1951)

في فبراير 1951، قادت درية شفيق مظاهرة نسائية قوامها 1500 سيدة اقتحمن مقر البرلمان المصري، وطالبن بحق المرأة في التصويت وتولي المناصب. استمر الاعتصام أربع ساعات كاملة، ما أجبر رئيس المجلس على التعهد بمناقشة المطالب. اعتُبرت هذه اللحظة نقطة تحول في تاريخ الحركة النسوية.

اتحاد بنت النيل كحزب سياسي

بعد ثورة يوليو 1952، طلبت شفيق من الحكومة تحويل اتحاد بنت النيل إلى حزب سياسي، فصار أول حزب نسائي في مصر. لكن سرعان ما تصاعد الخلاف مع قادة الثورة، إذ شعرت أن النساء لم يُمثَّلن تمثيلًا كافيًا في الحياة السياسية.

الإضراب عن الطعام (1954)

حينما شُكلت لجنة إعداد الدستور الجديد عام 1954، ولم تضم أي امرأة، أضربت درية عن الطعام مع عدد من الناشطات لمدة عشرة أيام. انتهى الإضراب بعد وعد الرئيس محمد نجيب بضمان الحقوق السياسية للمرأة في الدستور الجديد، وهو ما تحقق فعلًا عام 1956، حيث حصلت النساء لأول مرة على حق الانتخاب والترشح.

درية شفيق في مواجهة طه حسين

في مارس عام 1954، دخلت المناضلة المصرية درية شفيق التاريخ من أوسع أبوابه عندما قادت اعتصامًا في نقابة الصحفيين، رفقة تسع نساء من رفيقاتها، وأعلنّ جميعًا إضرابًا عن الطعام احتجاجًا على تغييب المرأة من الحياة السياسية. رفعت درية مطالب واضحة: منح المرأة حق الترشح للبرلمان، وضمان تمثيلها في لجنة إعداد الدستور لما بعد حركة الضباط الأحرار.

كان المشهد صادمًا للسلطة وللإعلام، فشنّت الصحف الرسمية حملات تشويه شرسة ضد المضربات، فوُجهت إليهن اتهامات تمس السمعة والأخلاق، وقيل إنهن يتناولن الطعام سرًا، بل وصل الأمر إلى السخرية من درية شفيق بالقول إنها تأكل “المارون جلاسيه”.

في خضم هذه الحملة، فاجأ طه حسين، “عميد الأدب العربي”، الرأي العام بمقال نشر في جريدة الجمهورية بعنوان العابثات. سخر فيه من اعتصام درية شفيق ورفيقاتها، واعتبر إضرابهن عن الطعام “مأساة مضحكة” و”ملهاة محزنة”. قال إن صومهن لا يبيحه دين ولا يقبله الذوق، بل يعبث بحقوق الزوج والأبناء، ويضر بالصحة والجمال. اعتبر أن ما فعلنه نوع من اللهو في وقت كان الشعب “جديًا مشغولًا بحاضره ومستقبله”.

جاءت ردود الأفعال قوية داخل جريدة الجمهورية نفسها. كتب رئيس تحريرها حسين فهمي مقالًا بعنوان لا يا أستاذي الدكتور، وكتب نائبه عميد إمام مقالًا بعنوان العابثون لا العابثات، اتهما فيه العميد بمخاصمة الحرية، والوقوف ضد المرأة وحقوقها السياسية.

زاد ذلك من غضب طه حسين، فعاد في اليوم التالي بمقال جديد بعنوان عبث العابثات، هاجم فيه الكاتبين واعتبر أنه لم يتعرض لحقوق المرأة، بل انتقد فقط “صومهن العابث”. لكنه وجد نفسه مضطرًا لتذكير الناس بدوره التاريخي في الدفاع عن تعليم المرأة، وكيف ساند درية شفيق شخصيًا حين كانت طالبة في باريس، وسعى إلى بقائها هناك لإتمام دراستها.

مع ذلك، لم يتراجع طه حسين عن موقفه، بل نشر مقالة ثالثة في 23 مارس 1954 بعنوان بعد الإفطار، استعرض فيها مسيرته في دعم المرأة، محاولًا تبرئة نفسه من تهمة معاداة حقوقها. لكنه ظل مصرًا على أن إضراب درية ورفيقاتها “عبث سخيف” لا يليق بالمرأة المصرية ولا يخدم المصلحة الوطنية.

أما درية شفيق، فقد مضت في طريقها. وبفضل صمودها ورفيقاتها، وجدن دعمًا مباشرًا من الرئيس محمد نجيب الذي أعلن موافقته على تمثيل النساء في لجنة الدستور، وهو ما تُرجم في دستور 1956 الذي اعترف بحقوق المرأة السياسية وأتاح لها الترشح والانتخاب.

كانت تلك المواجهة واحدة من أكثر لحظات السجال إثارة في التاريخ الفكري والسياسي المصري: من جهة نساء مضربات عن الطعام يطالبن بالحقوق الأساسية، ومن جهة أخرى عميد الأدب العربي الذي وجد نفسه – تحت ضغط اللحظة السياسية – يصطف ضدهن. ورغم محاولاته المتأخرة للتبرير، فإن التاريخ سجّل أن درية شفيق انتصرت بالفعل.

درية شفيق بين الاعتصام والاستنكار

في عام 1957، دخلت شفيق في مواجهة علنية مع الرئيس جمال عبد الناصر، فوصفته بـ”الديكتاتور”، واعتصمت داخل السفارة الهندية مطالبة برحيله.

تعرضت لهجوم عنيف في الصحافة الرسمية، ووُصفت بالخيانة. كما طُردت من اتحاد بنت النيل، وابتعدت عنها كثير من الناشطات.

وكان من ضمنهن المناضلة والفنانة التشكيلية إنجي أفلاطون، حيث ذكرت في مذكراتها تفاصيل موقفها، وموقف عدد من رائدات الحركة النسائية، من الخطوة التي أقدمت عليها الدكتورة درية شفيق خلال العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956.

بيان درية شفيق واعتصامها

أوضحت إنجي أن درية شفيق أصدرت بيانًا وزّعته على وكالات الأنباء العالمية، أعلنت فيه مطالبها الأساسية، وهي:

الانسحاب الفوري للقوات الإسرائيلية من الأراضي المصرية.

إيجاد حل عادل ونهائي لقضية اللاجئين الفلسطينيين.

ثم اتجهت درية إلى سفارة الهند، وأعلنت إضرابًا رمزيًا، مؤكدة أنها أقدمت على هذه الخطوة “تضحيةً بحياتها من أجل تحرير بلادها”. وقد انتهى الأمر بفرض الإقامة الجبرية عليها، لكن وكالات الأنباء استغلت الموقف لتصويره على أنه تعبير عن رفض النساء المصريات للثورة، وهو ما اعتبرته إنجي تشويهًا للحركة الوطنية.

ردّ إنجي أفلاطون وصديقاتها

تقول إنجي في مذكراتها إنها شعرت بالصدمة من تصرف درية شفيق، لا سيما أنها تحدثت باسم المرأة المصرية دون تفويض من أحد، وفي وقت كانت فيه البلاد تواجه الاحتلال. لذلك سارعت، مع كل من سيزا نبراوي وجاكلين خوري، إلى صياغة بيان مضاد حمل عنوان:”النساء في مصر يستنكرن موقف درية شفيق”.

وقد جمعن لهذا البيان توقيعات عدد كبير من القيادات النسائية والشخصيات المستقلة، ووزّعنه في مصر وخارجها على نطاق واسع، مؤكدات أن ما قامت به درية لم يكن يمثل نساء مصر.

من الاستنكار إلى العمل السياسي

لم يقتصر الأمر على الاستنكار، بل رأت إنجي وصديقاتها أن المرحلة الجديدة بعد ثورة يوليو 1952 تفرض على النساء دخول المعترك السياسي، خاصة بعد أن أقر دستور 1956 حق المرأة في الانتخاب والترشح، وإن كان هذا الحق قد جاء إجباريًا للرجل واختياريًا للمرأة.

نهايتها المأساوية

عاش زوجها مضايقات أمنية وسُجن فترة، ثم انتهى زواجهما بالطلاق عام 1967. قضت درية نحو 18 عامًا في عزلة شبه كاملة، عانت خلالها من الاكتئاب.

في 20 سبتمبر 1975، ألقت درية شفيق بنفسها من شرفة شقتها في الزمالك، لتنهي حياتها وهي في السابعة والستين. وصف الصحفي مصطفى أمين مشهد رحيلها قائلًا:

“عدت إلى منزلي بعد الغداء في أحد الفنادق. في الطريق المؤدي إلى مدخل العمارة، رأيت حشدًا من الناس تحيط ملاية بيضاء. سألت ماذا حدث. وقالوا: لقد ألقت السيدة نفسها من شرفة الطابق السادس. نظرت تحت الملاية البيضاء فوجدت جثة جارتي درية شفيق، هذه المرأة التي دوّى صوتها في جنبات العالم وملأت تصريحاتها الدنيا، هذه المرأة التي ألقت عليها الأضواء العالمية أينما ذهبت، هذه المرأة التي كانت نجمة المجتمع المصري والعربي والأوروبي والأمريكي.”

نسي الناس اقتحامها البرلمان مطالبة بحق المرأة في التصويت. نسوا إضرابها عن الطعام في عام 1954 من أجل حقوق المرأة. ونسوا أنها فقدت حريتها ومجلتها وأموالها وزوجها لأنها طالبت بحقوق المرأة. لقد دفعت ثمنًا فظيعًا لمقاومتها بينما استسلم الآخرون.

 

 

مقالات من نفس القسم