الخطاب النسوي فى الغرف الضيقة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إسراء بدوي 

كيف يصبح الحكى شهوة والكتابة انعتاق والجسد رحلة لبيت الصمت والضجيج معا ؟

تهمس لنا الكاتبة هناء متولي بمتوالية فكرية وليست قصصية في “ثلاث نساء في غرفة ضيقة” من خلال مجموعة من القصص تبدأ الإهداء إلى (سيلفيا بلاث) ربما لأن سيلفيا وهى تكتب تصبح كاللهب والفراشة.

فالكاتبة  تكون حاضرة لتقفز بسرديتها إلى بحيرات الضوء لتصبح اللون الأكثر انفتاحا على نافذة الكتابة.

فى أثناء النوم الطويل تأتى اليقظة هكذا كان الحضور السردي فى القصة الأولى بطلة فى ميدان خاو, وربطت الساردة  بين الميدان من جهة وبين أفق العالم من جهة .

ماذا تريد الكاتبة أن تمنحنا بالميدان؟ ربما التمرد ربما الحرية ربما الوحدة كذلك ويظل الحبيب بلا انتظار وسؤال لايبحث عن إجابة .

ما أن يبحث الموت عنا يجدنا نخترق صمته ببعض الأفعال البشرية, شخصية (ثناء) فى القصة الثانية هى لا تنتظر رسائل أبنها الميت , بل هى تبعث للمجتمع برسائل خفية أن المرض لا يكفى أن ينزع الأب روح الأبن برحمة عبر فك الأجهزة الطبية .

الكاتبة تحيلنا لسؤال الحرية الوجودية الذي يعكسه السرد فى تاريخ الوعى البشري بتيمة صغيرة بين رمزية رسالة من العالم الآخر, وبين فلسفة المرأة التى لا تستطيع التحرر من إرث مجتمعى يقيم حريته على أنقاض حزن المرأة .

ثلاثة نساء فى غرفة ضيقة  قصة من قصص المجموعة القصصية وهى القصة التى سميت المجموعة القصصية بأسمها .

اللعبة السردية تحترق من أجل السياق, متى تحيا شخصيات القصص وتجتاز محطات السرد  لترصد لنا أزمنة التحرر؟.

الكاتبة تقابل العالم وتتجسد فى نقطة حرجة تتلاقي عندها خصوصية السرد.

كاتب القصص صنع مشيج السجن لهؤلاء النسوة ليفتح الحدود المغلقة بين الإحساس بالعجز, وهامشية حضورهم, فالكاتب فى القصة يتسقيل من مآزق التوتر الكتابي فى خلق شخصياته ليقف على حافة النص, مرتعشا من انغماس ما, لنرى الآخر الشخصية التى تكتب كيف تحيا وتصبح شديدة الاشتباك بأفكار الحياة حتى تتمرد على واقعها وتريد تغييره بلا أيدلوجيا حقيقية تتولد وتنبعث فى أشكال جديدة .

فترغم الشخصية المتخيلة بنواقصها أن تلتحتم ببقية الشخصيات وتصبح جوقة لا يمكن اختزالها حتى من قبل خالقها مما اشتد ذلك الصراع الذى قيدته الكاتبة بغرفة ضيقة  على الخطاب النسوي.

تصنع الكاتبة لوحة سردية مكتملة الزوايا عبر تداخل الأنواع الأدبية بالمشاهد المسرحية فى قصة “دموع الكراميل” فيطل علينا المشهد السردى وهو يرتدي عباءة المشهد المسرحى بين الإضاءة والرائحة والزمن الداخلى السريع للمسرح .

الساردة تتحرك داخل عالمها الداخلى  فى موازة مع السياق الخارجي, فالفلاش باك يضع الموسيقى واللحن الجزائرى الفرنسي جوقة المسرح التى تعدد ظهور تلك السيدة فى مشاهد متعددة بأحوال مختلفة .

فقد بدأت الحدث ب”قبل أن تقرأوا تخيلوا” هى تضعنا فى فخ الزمن بمستوى من الوعى يتجاوز فيه وعينا نفسه بعالم تلك المرأة مع ذلك الرجل فى الصورة, وواقع الحدث نفسه, فالكلمات التى قالها لها أثناء الطعام كانت طعنة الزمن التى أحضرت لعنة الكراميل وقد ظهر ذلك من خلال وصف طريقة تحضير الكراميل وكأنها بوعيها المجتزأ وحريتها المنقوصة فى كونها لا تنجب تتدفق خارج تخوم عملية الحكى نفسها بالدموع.

وتمتطى الساردة جواد القصة بحضور قارىء محتمل وبمروى يتشاركان فى صنع الزمن عبر هوية نطاق عالم خاص بهما يتوحدان مع تلك السيدة الصامتة فى الخمسة مشاهد ,وهذا يمنحنا القدرة على رفض حقيقية الكريم كراميل الحلو, وطرح مرارة الدموع لتؤدى دوراً أنطولوجيا فى مقابل استمرارية بقاء الأنا الهامشى  .

وبهذا التداخل تقابلنا قصة أخرى وهى قصة “الخامسة مساء” هل التعاسة تأريخ  للقدر؟، هل الوقت يتجه بنا نحو الهزيمة؟، فى المشاهد الخمسة المسرحية نتحسس الوقت وهو ينزع عنا هويتنا ليتسيد السلطة، السيدة تنتظر زوج لايأتى, الرجل عالق فى ذاكرة مكان غريب بلاهوية, امرأة تجهض حلم, وأم تفقد القدم التى تسير بها لقدر غير معروف كل هؤلاء فى الساعة الخامسة , ربما هى زمنية تكشف طبيعة التضاد بين عالم إنساني, وعالم مضاد للإنسان.

ويبدو أن الرقم خمسة يمثل تيمة وجودية فى السرد فما بين عدد المشاهد المسرحية وقصة “أقراص النوم الخمسة”, فخمسة له دلالات روحية متعددة, فهو رقم التغيير والتحول الكاتبة هنا تضعنا فى سؤال فردى وجمعى , وما بين الواقع الفعلى, ووقع شخصية الكاتب يطل علينا واقع أخر هو شخصية “نهى” التى مثلت أيدلوجيا الخطاب النسوي فى نزوعها للكتابة , لكن التجربة الواقعية تكسبنا معطيات أخري بين كون القضية النسوية نفسها, وغريزة الجنس التى تمنحنا تمثلات الهوية .

لكن خيار الموت كان منهجا يبرز تجربة وعى الكتابة بالنسبة للمرآة  فى جملة من التراكمات الاجتماعية والثقافية التى مثلت أقراص النوم لنا جميعا .

ومن دلالة الرقم خمسة إلى دلالة الرقم تسعة لماذا اختارت الكاتبة هذا الرقم ولماذا كان بنات ريم التسعة بنات,فالأمر ليس عند دانتي فى “الكوميديا الإلهية ” حينما اتخذ م من الرقم تسعة رمز للمحبوبة, ولكن الرقم تسعة له حضور متعدد فى الأساطير والأديان والحضارات القديمة.

ولكن الرقم تسعة هو مؤشر الميلاد وفترة الحمل, لكن عن أى حمل تتوجه بنا الكاتبة عن حمل الآخر, عن حمل المبهم والغامض فالجميع يشارك فى هذا الحمل ليصبح بؤرة تتجمع فيها جدليات الضحية .

وفى هذه القصة تأتى تجربيبة السرد فى الانقلاب الزمني فالبرغم من تمدد النهار, الحقيقة ليست واضحة .

ربما الحلوى الصفراء ترتد لتكشف البدايات التى تحوطها عتمة تلك الفتاة العادية, لقب عادية يليق بالحقيقة التى تنحو بانتقالات السرد- لننظر من الماضي إلى حاضر- لا ندرك كنه .

وفى لحظات نائية موغلة فى غياب يشبه الحضور تنجب ريم ثلاثة بنات هزيلات تطلق عليهم حروف وليست أسماء لإن الموت يختارهن سريعا, فى الميثيولوجيات تتكشف الأضحية (القرابين) عن سر, فهل هؤلاء البنات هن القرابين فى الوعى الجمعى الذى يرى ريم ابنه العاهرة حاملة سيرورات دفاعية يشكلها الوعي الذى يأتينا بالعالم كله فى ولادة .

وتعاود الانجاب مرات عديدة, من الأب؟ وأين شمس الحقيقة ؟

من يمتلك القربان ؟ وكيف يمنحنا الخلاص؟

وبين زمن محتمل يرصد الأزمنة كلها بين مدارات الأبراج يتساوي السر والعلن كتمثيل للموت والميلاد  من كيان إنسانى عادى إلى تحدياً جديداً وخطيراً للهوية يلزم الزمان اللاعقلانى  بإعادة ترتيب أوراقه ,وبعث حياة جديدة تجعله أكثر إنسانية من الأبدية المتعالية للموت والتى ستجعله ولادة لا نهائية لتكون شمس الحقيقة .

وتكتمل دائرة الموت بميرنا فتاة الباى بولار, كيف تستطيع ثقافتنا أن تحمل المقدس بنفس اليد التى تحمل المدنس؟

من الذي يورث عقدة الذنب فى الأمومة وينسج قضايا التخلى عن الكتابة لتلقي بظلال أوجاعها على التجربة؟

هنا كانت أخت ميرنا ترسل الرسائل إلى ميرنا لتمنحنا احتمالات غير مأمونة عن الانزلاق الفكري الجمعى.

هى لم تقتل الطفلة بل قتلت ضمير تجربة تكتنف عواصف ضارية تحملت تبعاتها طفلة رضيعة, مجتمع هش عقيم الفكر يرى أن المرض النفسي غول عظيم يبتلع النساء .

ميرنا قررت الانتحار لتعطى خيال الظل  فى واقع الحياة وبالرغم من هيمنة حضور ميرنا من العالم الآخر يظهر “الالتفات” من السرد عنها إلى السرد منها, وتتحول من حاضرة فى الموت إلى غائبة فى الحياة فتتيج لنا منظور آخر للرؤية .

وفى نفس الدائرة نجد “الناس فى بلاد الأفيون” هل الرجم للزنا أم للمجتمع على خطيئة شذوذ التفكير لأننا فى بلاد الأفيون؟, تنطلق زمنية السؤال مع الوعى الداخلى للمرأة التى ترجم بدون ذنب  فى صياغة رؤية ممكنة  تفرض قوانين سيكولوجية وأيدلولجية تنفصل عن اعتيادية الحدث الواقع ونمطيته ,فهذا الزئير السميوطيقى للصراخ برجم الأم وأبنتها بقوة مجتمع مهترىء داخليا من قضاياه ومسجون  داخل قضبان الضلوع من الواقع شديد القسوة ,فالزئير هنا وعنفوان الفريسة والصياد ألية من أليات الرفض لكون المجتع والوعى الجمعى هو فاعل الخطيئة الحقيقي,وأما بلاد الصقيع فهى المعادل الموضوعى لبلاد الأفيون فصوت تلك السيدة وأبنتها يتجسد فى كلمات تنطلق منها وتشى بها فى نفس الوقت رغبة منها فى التحرر, وبالتالى لايمكن أن تطبق  عليه قواعد التتابع الكرونولوجى  أو قوانين السبب والنتيجة للوعى الفردى.فهى متحررة من صيغ الأفعال ومن تركيبات المنطق الشكلى للوعى الجمعى   .

وما بين الرؤى اللعينة للواقع وأزمة المرض النفسي تطل علينا صفاء فى قصة ” السقوط فى نفق مظلم “فيغدو عالمها ينطوى على تماثلات ظاهرية أو تيمات متكررة من الهلوسة البصرية بخصوص عائلتها الصغيرة التى تنتقل إلى طرف خيط آخر هو التشكل فى ماهية النفس الداخلية وحديثها الخاص ,تلك زمنية السرد  التى نتعامل معها من منطلق ذاتى كمسألة خاصة متعلقة بالعالم الداخلى والأنا المحدودة فى عالم خارجى كبير ملىء بالخيانة والأنفاق المظلمة  .

يظل التنوع والتباين بين شخصيات الكاتبة هناء متولى فى الظهور كما هو الحال فى شخصية “نور” فى قصة “سائل لزج له طنين” يبدو إن تجسيد الحزن بالتزامن مع الوصف الشكلى  يمثل مرحلة هامة من مراحل الوعى الإدراكى المباشر ,بحيث يظهر الشخصية  منفصل عن الوعى ومتحد معه فى آن واحد .

نور ليست هى الساردة بل مروى عنها بصوت أختها وهذا يؤكد مسائية البعد البنائي إذا يتصل سياقيا بدلالات واضحة التنوع ماذا تريد نور؟ ماالذى يبكيها؟..نسأل أنفسنا ولا أحد يسألها.

ضمير الغائبة هنا تتخذ ظاهرة التأمل الانعكاسى كأسطورة “مرآة ميدوسا” ,فالحقيقة التى يختزلها النص كرأس ميدوسا قد تكون مميتة ,لذا  لا يجب رؤيتها مباشرة بل بالانعكاس .

وبناء على ذلك تعد قدرة الكاتبة على تضفر الحدث بنسج قصة داخل القصة كقصة الحمار فى المزرعة,  تجسيد  طابع “التأمل الانعكاسى ” فهى تقوم  ببناء عالم  ممكن بالخلق من العدم تابعاً لمشيئة أخرى غيرها  , تبحث عن الجانب العميق والخفى فى ذاتها .فطبيعة نور مغرقة بالوضاءة لكن ليست وحدها تلك القداسة الموصولة بعالمها الإفتراضي, وإنما بقداسة تحمل فى ظاهرها الدمار والشر “هل ابتلعتم وهما من قبل, كيف كان طعمه؟”؟

الكاتبة تلعب بتيمة الثنائيات الظلام والنور نور ونوران , النحس والخير,فتتجاوز تلك الثنائيات طرائق السرد إلى رصد يحتفى بالاختزال من الشقيقة التى تزوجت من زوج أختها, وبالتعدد والتجاور عن النجمة التى تتحول إلى كوكب نحس مما جعل صوت نوران هو الصوت الخافت رغم علوه, ونائيا على أن يكون أحاديا وغير منطوى على بعد واحد.

باربى القبيحة فى “سوق آخر النهار” كيف تصبح دمية صغيرة أيقونة للاشىء واللامنتمى؟

كيف تتحول الفتاة التى كبر سنها على الزواج أن تكون كالبضاعة المزجاة لا تؤخذ إلا فى نهاية بيع أخر السوق, فلا أحد يريد أن يأخذها إلا بتخفيض عوض عن أن تفسد.

اختزلت الكاتبة هناء متولى بالمسكوت عنه محتوي أزمنة موضوعية لشخصية “رضا” التى  يرفضها المجتمع لأنها أصبحت عانس, فقررت أن تجعل اللعبة لصالحها واختارت شاب صغير فى السوق فزواجت بين ما يصعب التزواج فيه بين التحديق- بعينين ثاقبتين- فى غيابات بئر عميقة, تقبع فى أعماق كل فتاة من جهة وبين الرؤية فى ساحات مكتظة بآخرين وآخريات  محكومين بالعماء المجتمعي حد الرغبة فى الإزاحة والنفي “لايوجد جمال بدون خطأ أيتها الدمية المزيفة”.

تناهض قصة “جرة حواء” عالم قائم بعالم ميتافيزيقي مستعاد, ونجد أن النص بدأ بالقول التراثى المأثورهنا  “يحكى أن” وهو يروى الحكاية الرمزية للشيطان والمرآة  ذلك العالم الغامض الذى لاندرك كنه ,والجرة تمثل نموذج العالم الذى يحاول الجسد اختراقه بهدف الكشف عن طبيعته .

لكن الحدوتة هنا تغيرت وانتصرت أيدلوجية الواقع على ترهات زمكانية اعتدنا على سماعها, فمهما كان الشيطان المعادل الموضوعي للرجل الذى يجذب نظر المرأة وهو يتلاعب بها, يفتضح أمره  لأنه يؤسس لطرح إمكانية التعالق معه ليستمر وجوده الأكيد ,كما أن البحث عن ذيله الظاهرهو بحث لانهائى عن تلك الحقيقة التى تتخفى فى عوالم المرأة الفردوسية .

يبدو أن مسرحة الأحداث أخذت شكلا مغايرا فى قصة ” المرأة ذات المؤخرة السمينة” تبدأ القصة بالنهاية ثم ما بعد النهاية ثم ما قبل النهاية ثم ما قبل قبل النهاية , ثم البداية.

البداية كان بقتل المرأة ذات المؤخرة السمينة فى عضوها الأنثوي, والبداية فراق مع شاب يخبرها أن الجميع سيعشقها لإنها مؤخرتها سمينة,إذا هناك سياق وهناك خارج السياق وما بينهما يوضح لنا مجتمع متكالب , وفى الوقت ذاته يحمل تناقض أخر,تمثل فيه المرأة المجهول ,والخطاب هو الخيار الشبقى الامثل لتحقيق الامتياز الوجودى فى مقابل ذوات أخرى ممسوخة ومقولبة بالعهر الفكري.

قصة ” نزع رحم” تمرد على الفكرة فى حد ذاتها الجزاء من جنس العمل دائما ويبقي السؤال هل المجتمع مازال قادر على فك الترابط بين المقدس والقهر الفكرى لتصبح الحقيقة فى متناول الإنسان وليس خارجه؟ اذا لنقوم باستئصال العلاقات الإنسانية المشوهة التى تمحى فى حشدها قداسة المرأة وخصوصية حضورها دون تدنيس فكرى.

بين نادرين وورقة يومياتها هناك امرأة تشرب خل التفاح فى إعداد طريقة للتعالى على الواقع بالسخرية, فالوصفات استراتجية كتابة زمنيةعند الكاتبة وليست فقط بوصفها رمزاً تفرضه على الحضور النصى فى هذه القصة  ,فهو بمثابة صياغة تعد فى تحققها النصى رؤية متناقضة مستلبة لذواتنا وكأنها وصفات زمنية فى سياق إنساني لا ينتهى أبدا.

كيف نمتلك أروح قلقة لفتاة شفاقة؟

روح عارية, وروح متمردة,وروح منكرة, وروح للزينة, وروح خالدة.

كيف تجتمع تلك الأرواح فى البحث عن أصحابها ؟ تجتمع من  الاستشهاد والتأطير الدلالى التام للبعد الإبداعى فى توظيف قدرة الأنا المقهورة  ,ليس فقط  عبرالعبور للوصول إلى امكانات الجسد مهما تعددت موجوداته واتسعت مفاهيمه ,ولكن أيضاً تفعيل البعد الوجودى الذى يتماهى فيه جسد النص فى نص الجسد .

ومنها تبرز لنا النساء الملونة السمراء, والشقراء, والصهباء.

ما دلالة تلك الألوان ولماذا قصدت الكاتبة تسمية هؤلاء النسوة يالمعيار المجتمعى و ليس بالاسماء ؟هى قصدت الانتقال بين ماهو شخصى وفردى إلى ماهو عام وجمعى, وبين التجارب الذاتية الخاصة وبين التجارب العامة الشاملة فتتقطع مشهد من المشاهد فى ملهى ليلي لتمنح للسرد أبعاد جديدة للتجربة مع هؤلاء النسوة فى معالم مكانية وزمنية اختزالية مكثفة.

وفى انتظار صوت اليقظة يظل البكاء ينهش فى الحافة وعبر الخطاب السردى بدا لنا الألم النفسي والجسدي أيدلوجية تحمل روابط الجنس الذى يمنح اللذة والمرارة فى آن واحد ,مرارة الاقتراب الجسدى ,ويقظة الجسد الحقيقية فى (صوت الأم) الذى يشعرها بالأمان مقابل تهديدها بجسد صامت ,تحسه ,فى نومها الكامل , وصرختها المكتومة  ,تجىء من بعيد جدا,من على حافة  الجنس الدفين “ليكمل ما بدأ” بين عنف الجنس وتشظى الواقع, والحميمية المدنسة بين اغماض عينيها واستيقاظ وعيها ليتحمل كل هذا البكاء.

النفس البشرية تتدارك نقصانها دائما, وهنا ما تسعى الكاتبة لتبرزه من خلال قصة “ارحلى ياسمينة السمينة” فالروبت الذى أصبح رجل  فرض خطاب نسوى مكنها من حسم صراعتها , كما أسهم فى بناء أيدولوجيتها المائزة, لتسكن جسداً يستيطع أن يقف بموزاة العالم ,رافضاً سلبية الذوات الآخرى وقصورها الإدراكى ,واجتزء وعيها بحقيقة وجودها وفاعلية جسدها .

ولكن الواقع شكل محنة الوعى المثالي ليخرج من إطار الموضوعية إلى غياب الحكم الأخلاقي .

قسمت والقط فى قصة” قط ذكر لقطة وحيدة” تظهر الفاعلية الشبقية فى هذه القصة وهي ترفض سيادة اى خطاب قائم لا يعترف بإمكانية المغايرة وفرضية التجدد ,ويسعى إلى التهديد المستمر من خلال فعل الجسد والوحدة التزامن مع رمزية القط ,الذى يجعله قادر على تحقيق كينونة عالم الشخصية وقوانين الواقع النمطية التى تحاول التأكيد على إدراك العالم الحقيقي ومطلق معرفتها به .

فتظهر أنواع الطعام وصف الأواني وحالة الجسد كلها التى تستعيد منها الذكريات الداخلية المؤلمة لطلاقها, وبين غول الواقع الخارجي الذى لا تعرفه منذ سنوات وتعتزله, سبب صدمة المتلقي

وتلك الصدمة تمنح  الحدث السردى المتمثل فى الجنس قدرة دلالية لاستيعاب العالم بتقابلاته وتوافقاته  .

ومن خلال هذه القدرة استطاعت  الكاتبة أن تضع الصراع الشبقى مع العالم داخل مقترحه الدلالى ,وتعطى مبرراً لديمومته وامتداده ,مما يشكل كياناً يفتح النص على العالم ,لتتجرد الذات الأنثوية من إمكانتها المحدودة,وتستطع أن تعيد هيكله وجه الواقع بممارسات حميمة بين جسدها ومفردات العالم من حولها .

أما عن قصة “سقوط حر ” تتبلور مغامرة السرد بكونها موصولة بصوت الساردة التى تحكى ما حدث فى الماضي بالموازة مع الحاضر بصوتها المفرد تارة, وبصوتها الجمعى تارة أخرى.

مما يجعل السقوط  يحتوى فى السرد الواحد على أيدلوجيات متعددة , فلو نظرنا لسياق الصوت الفردى المقتطع للنص سنجده يكون قصة كاملة وحده.

وما بين السقوط الحرية التى منحها لها صاحب القدمين الثقيلتين وبين منظور الواقع نجده يخلق من السقوط بأسره مسرحاً للصراع الوجودى مع الجسد الأنثوى وقضاياه تارة ,ومع استراتجيات التحرر والتمرد على خطاب ثقيل وعنصرى تارة أخرى .

وأخيرا مع قصة “ساق لاتعرف القفز” نجحت الكاتبة فى تمثيل سرد ما بعد الحداثة وهو يكسر سلاسل الزمان والمكان باعتباره له القدرة على  وصف التسلط والتعسف المطلق فى إصدار الأحكام على الكيان البشرى في الحرية الأخلاقية تلك الفتاة التى استيقظت من رحلة تيه ربما هى موت وبداية جديدة.

فى ظل تلك البداية  أصبحت الذات التى تحمل معالم الأزمة بساق صناعية وجسد مشوه بالبهاق  فى خيارات جديدة منفصلة بدأت بسلة الطعام ,فأنطولوجيا الواقعية الروحية التى خلقتها الكاتبة فى عودة الحياة بتلك الخيارات منحت أسئلة محيرة عن هذا الخيارات التى تضعنا بها الأقدار التى تكشف الواقع ومع ذلك يظل محتجبا .

وكلما زادت صعوبة الاختيار  بين الطعام وبين الدهان الذى يشفيها وساقها المفقودة تبدأ الأنا بتمثيل الوعي الجمعى المخيف من المعرفة والتعددية التى تنفتح على الذات وتكشف عريها ,وتمزقها الداخلى,والذى بدوره يمثل  بحث دائب عن الواقع الداخلى الذى يفتح بعداَ جديداً للحقيقة  .

وفى مقابل الخروج والعودة إلى الحياة القديمة تفقد كل هذه المكتسبات, كما أنها خسرت سلة الطعام, كذلك تركت لنا الكاتبة الخيار مفتوح والنهاية مفتوحة وهذا الخيار ما هو إلا نوع من إعادة ترتيب الواقع ومعطياته ,فالواقع معطي حضورى يشكل كينونة رمزية تفرض واقعها فى رحلة البحث عن الخلاص , فيتبنى الخطاب النسوي السردى وعيا يتعالى على الواقع الزمني,ويتمرد على الانخراط فيه والمصالحة معه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقدة مصرية 

مقالات من نفس القسم