بالله عليكِ لتبتعدي

dina alhamamy
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

دينا الحمامي

إنها المرة الأولى التي أذهب فيها إلى القاهرة منذ عشر سنوات. في الزيارة الأخيرة كنتُ بمفردي مع زوجي الأول، حيث أوهمني أنني سأصبح حُبلى بعد ذلك المشوار، كما حذّرني من إخبار أحد كي لا يضيع مجهود اليوم سُدىً. أرادني أن أنجب له ذرية وهو لا يأتيني كما الأزواج الطبيعيين! كنتُ في السابعة عشرة من عمري، وبلا تجربة، ومن السهل إقناعي بأي شيء.

ذهبنا  حينها بعد الظهيرة بساعة إلى حي بولاق أبو العلا لحضور حلقة زار تنعقد من أجلي. كنتُ مراهقة بجسد امرأة شديدة النضوج وعقلٍ عصافيري. استقبلتنا سيدة خمسينية سمراء ذات بناء جسدي مهول، أغدقت علينا بترحاب وحفاوة أنسياني قدرًا من هلعي.

اصطحبتني إلى الداخل واستبقتْه ريثما ننتهي، ودّعني بابتسامة باردة صفراء فيما سحبتني المرأة إلى الداخل. كانت قاعة تمتد في اتساع بحيث لا يمكنك بلوغ نهايتها بلمحة عين واحدة بسبب فرط براحها عند كل الزوايا، السقف شاهق وتتدلى منه نجفة عتيقة لا تُستخدم في الإضاءة على الأرجح. أجلستني المرأة السمراء العريضة، وباتت تعرض عليَّ العديد من  أصناف البخور لأختار ما أفضّل رائحته كي يشعلوه داخل المنقد. اختلطت الروائح على أنفي، أزكمته من تنوعها بين النفّاذ، العطن، الحلو والمريح، رائحة صندل وعود وشاف والكثير مما لم أعد أتذكره؛ اخترتُ العود الأزرق في النهاية بمجرد أن مرّ أمام مقدمة أنفي، أعطته لمساعدة لها تشبهها تمامًا إلا في القامة، وناولتني حقيبة بيضاء صغيرة من كتان ناعم بها جلباب من القماش ذاته والغريب أنه كان يناسب مقاسي، جعلني  الجلباب أكثر خفة بمجرد ارتدائه، أتحرك بارتياح تام وانطلاق فيما دقّت بتواتر بطيء ومتكرر مزاهر الزار.

مع الإيقاع المتزايد، كانت رائحة العود الأزرق تنبعث وتغمر القاعة بناسها وأثاثها وجدرانها، كما لو أن الرائحة تشرّبت المواد.

شرعت السيدة السمراء تقف قبالتي وهي تصدح بصوتها الجهور الذي تبدّلت نبرته قليلًا: الأسياد دولا ناس عظام. وَرَدوا علينا، وَرَدوا علينا. لولاكم يا أسيادنا، لا رحنا ولا جينا، لا رحنا ولا جينا.اشتدت المزاهر في الدق على إيقاع واحد يتكرر،  وتحلَّقت حولي مجموعة من ضاربات الدفوف في دائرة شاسعة واقتربت مني كل واحدة منهنّ بالتتابع، فيما دفعت إحداهن حبلًا يتدلى على الحائط جعل النجفة تترنح يمينًا ويسارًا، مشكلة ظلًا يتحرك مع حركة الغرفة كلها في الاتجاه نفسه. اقتربت “الكودية” السمراء العريضة من وجهي حتى خيل إليَّ أنها بوجه قطة، كنت أردد داخل قلبي: بالله عليكِ لتبتعدي.

ابتعدتُ قليلًا لتحاصرني حلقة السيدات وهن يعزفن بإيقاعٍ أكثر استفزازًا. كانت الطرحة الحاسرة قد طُوِّحت من فوق رأسي مع حركتي العنيفة، لم أستطع التوقف، ابتلعتني أخيلة النجفة التي أصبحت مع الوقت تتحرك داخلي، يمتد الشعور بظلّ النجفة المتحرك في كل الخلايا، فاندمجتُ أكثر في الحركة، صار الرقص مُجهدًا وغير متزن، فيما العَرَق يتفصّد من جسدي كله كشلالٍ مالح. اندفعتُ في الدوران ويدي فوق رأسي وظل النجفة يتراقص أكثر في قلبي، الرائحة كانت تأكلني أيضًا، توقف العزف فسقطتُ.

فجأة وكمن يصحو من سبات طويل، فتحتُ عينيّ بقلق واضطراب على صوت السائق: وصلنا القاهرة يا حضرات، يا ألف حمد الله بِسا.

هبطنا من السيارة لنترجّل إلى المستشفى الجامعي، المكان ذاته الذي أجرى فيه أبي عملية استئصال القولون قبل عدة أعوام، خرج بعد فترة احتجازه لثلاثة أسابيع وهو يتبتل ويدعو بألا يأتي إلى هنا أحد من أحبابه مضطرًا أو بإرادته، تقريبًا لم تُستَجَب دعوته، إلا إذا اعتبرني لستُ من بقية أحبابه، فهذا موضوع آخر.

اجتزنا عدة ممرات حتى وصلنا إلى القسم، أجلستُ أمي في صالة الاستقبال والتي كانت هادئة رغم توافد عدد كبير من المرضى، ثم ذهبتُ لأسأل السكرتيرة عن دوري وموعد وصول الدكتور، أخبرتني أن رقمي في الكشف هو ثلاثة، استبشرتُ وعدتُ إلى مقعدي لأجد أمي منخرطة في حديث مع سيدة تجلس بجوارها بصحبة شابتين على الأغلب هما ابنتاها، وعلى النقيض مني، لا تواجه من أنجبتني أية مشقة في مد أطراف الحديث مع أي مخلوق حتى لو كان أخرس، مضت تحكي لهن  عن القطة السوداء التي تتسلل إلى داخل منزلنا بمجرد فتح الباب، وأنها كانت بانتظارنا اليوم على بوابة البيت، الأمر الذي جعل أمي تشدد على أن الاصطباح بوجه هذه القطة السوداء سيغلق أمامنا كل الأبواب المفتوحة، ثم أخذت تنصح الفتاتين ووالدتهما بأن يرددن دائما عندما يقابلن وجه قطة سوداء تعيسة: بالله عليكِ لتمشي! فمازحتهن: يا أَمَّه الدعاء بيقول بالله عليكِ لتبتعدي، والشيخ  بيقول لأبويا إنها مخلوق عادي زي بقية المخلوقات، لونها لا بيعمل شر ولا خير.

ـ اخرسي يا بت، هو أنتِ وشيخ الغبرا بتاعكم، تعرفوا أكتر من أم محمود!

حكت لهن عن حظي النحس؛ “بومة وفقْريّة” مثل أبي وعمي، فعمي لم يمهله القدر ليخضع لعملية استئصال ورم من المستقيم على يد الطبيب المعجزة، وأبي عندما أصيب بالسرطان كان حظه أوفر من أخيه، إذ حان دوره في قوائم الانتظار بعد عدة أشهر ليُزال ثلاثة أرباع قولونه دون أن يغيروا له مجرى البراز! أما عني، فإنني وبالإضافة  إلى حظي العثر في تطابق الأعراض عندي مع معظم ما كان لدى الاثنين، فأنا لا أملك مقابل عملية سريعة على يد طبيب ماهر مثلما تدخّل خالي سريعًا مع حالته في استئصال جزء من معدته، علاوة على سوء الحظ وتقديره الذي جعلني يوم فرحي في انتظار موعد منظار استكشافي حكومي ومجاني، كان أكثر ما يشغل بال أمي في جلسة الانتظار كلها هو كيفية الإتيان بالشجاعة لتسأل الطبيب عن إمكانية إتمام زواجي الثاني اليوم!

تزوجتُ في المرة الأولى بشهادة ميلاد مزوّرة زادت في عمري أربع سنوات كاملة لأصبح أمام القانون مؤهلة للزواج، تعاون لإنجازها كل من خالي وعمي الأصغر، وافق أبي وباركت أمي، ولم يتحمل أحد عواقب هذا العذاب سواي.

كان جلفًا لا يستحم إلا نادرًا، يمارس الجنس كالدواب، مكثتُ معه لأكثر من عامين لم يأتني خلالهما كما الفطرة إلا في مرات معدودة. لم ينظر في وجهي طوال فترة زواجنا تقريبًا  ولم يتحسسني كما يفعل البشر في علاقاتهم الحميمة، إذ كان يلصق وجهي في الوسادة بعدما يبرك على جسدي بكامل قوته ويمتطيني من الخلف، يكرر الأمر في الليلة الواحدة أكثر من مرة؛ وحالما ينتهي يأمرني أن أحضّر له “الطفح” ليتناوله وينام؛ ومن ثم أستيقظ في يوم جديد وبوصلة عذاب جديدة وهكذا، وها أنا اليوم قد حضرتُ لأدفع الثمن بمفردي بعدما أكلني القلق  من توالي الأعراض التي عايشتها مع أبي وعمي وخالي بنسب مختلفة، خفتُ أن أجئ  أنا الأخرى بسرطان خاصة بعدما انتُهكت فتحة شرجي لأعوام، تمكن الهلع من إقناعي أنني سأدخل الدوامة ذاتها، وبالتالي ستضيع مني فرصة تكوين أسرة جديدة!

بعد أن أكمل والد الصبيتين منظاره ودخل مريض آخر بعده وخرج، أوصلتني أمي إلى الغرفة الكبيرة الرطبة  والمظلمة ثم عادت إلى مكانها في الخارج، تركت لي الممرضة رداءً أخضر فطفرت دموع من عينيّ، شعرتُ بحاجتي إلى وجود أمي الحنون في هذه اللحظة؛ أغلقتُ الستارة خلفي وخلعتُ ملابسي لأرتدي فستان العمليات الأخضر، طلبتْ مني الممرضة  ذاتها  أن أوقّع إقرارًا بموافقتي على إجراء العملية، نظرتُ إليها بهلع، وجدتها كما لو أنها سيدة الزار السوداء الضخمة وتتبدل صورتها مع القطة السوداء التي تظهر وتختفي في حياتي بصور متعددة، شبه ما لا أكثر، لكنه هنا في هذه الغرفة أكثر قتامة.

ـ متخافيش يا حبيبتي، ده إجراء روتيني. مش حتموتي يعني في المنظار.

وقّعته مستسلمة للأمر، لم يعد هناك مجال للتراجع. انتظرتُ بعد التوقيع نحو نصف الساعة لتأتي بعدها ممرضة أخرى مع  “كانيولا” وكرسي متحرك، لم أبدِ مقاومة في تركيب تلك الإبرة المرنة ذات المدخلين، مر كل شيء بسلاسة ونعومة، جلستُ على الكرسي متمنية أن أجد أمي في الردهة لكنني لم أرها، سمعتُ صوت ضحكتها المجلجلة ترن في أذني فقط من الخارج خلف باب الغرفة البارد؛ فاختلطت دموعي مع ابتسامة متبادلة مع الممرضة.

ـ مامتك دي عسل، ربنا يخليهالك.

دخلتُ غرفة العمليات وساعدني تمرجي في الصعود للاستلقاء على الطاولة، كنتُ مجهدة إلى حدٍ لم يمكنني حتى من شكره.

نظر الطبيب إلى وجهي مبتسمًا نصف ابتسامة: إزيك يا ست العرايس! لم يمهلني لأجيبه، جثم بالقرب من وجهي طالبًا مني إطلاق أنفاس عميقة بأقصى استطاعتي.

واحد.. اثنان.. ثلاثة.. أربعة.. خمسة.. همممممم..

أغلقتُ عيوني مستسلمة للموجات الباردة للسائل،  والتي تسربت من داخل الكانيولا إلى جسدي، ثم شعرتُ بحرارة تنساب في شرجي، رأيتُ وجه طليقي على شاشة توضح سير المنظار وهو يُخرِج لسانه لي، غاص الأنبوب إلى الأعماق، ألفيتُ نفسي أقف على طاولة العمليات وأتحرك كبندول متوتّر مع حركة النجفة فيما القطة السوداء تغني مع الكودية السمراء الضخمة: الأسياد دولا ناس عظام. وردوا علينا، وردوا علينا. لولاكم يا أسياد، لا رحنا ولا جينا. لا رحنا ولا جينا.

تحلقت مجموعة من الممرضات ومعهن كبيرتهن القاتمة التي جعلتني أوقع الإقرار، أمسكن المزاهر ورحن يرددن من ورائي، اقتربت الممرضة الكئيبة لتشنقني بخرطوم المنظار وهي تردد: باللهِ عليكِ لتبتعدي.

أسعفني الطبيب الذي أجرى العملية، ضرب الممرضة فسقطت أرضًا، في اللحظة كان يربطني في السرير ليكسر صيامي الذي بدأته قبل ساعات، كانت إفاقة من حلم، لا! بل كابوس خانق وثقيل يقتص من قلبي، لأجد أمي بجانبي  مستبشرًة، ضمتني ثم قالت لي بحنو: أنتِ قرفتك حلوة يا بت. مكملتيش ساعة جوه. والساعة دلوقتي مجاتش عشرة، اصبري بس ساعة كمان تشدي حيلك شوية وتصلبي طولك وناخد التقرير ونروّح.

قضينا الساعة في غرفة الانتظار، لم تكف أمي عن الحديث لحظة واحدة مما أنساني ثقل رأسي وهمّ وصايا الطبيب وتعليماته. أكد لنا أن جلسة اليوم ما هي إلا منظار استكشافي. كدا وكدا يعني يا عروسة.” وأن المنظار العلاجي، الذي ستزال به الزوائد التي وجدوها في القولون سيكون موعده  بعد شهر من اليوم.

زغردت أمي، قبلتني وأخذت تشكر الطبيب بامتنان وتحتضن الممرضات وهي تسحبني من يدي في فرحة عارمة: سمعتِ الدكتور قالك يا عروسة، دي بشرى يا بت، حنروح نبلّ الشربات، حتروحي لعريسك النهاردة يا خايبة!

………………………….

*من المجموعة القصصية “رابونزل لا تجيد تصفيف شعرها” الصادرة أخيراً عن دار ريشة.

 

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
نور الهدى سعودي

أذن الضوء

عبد الرحمن أقريش
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

العقرب