مروان ياسين الدليمي
الوقت ليس نهرًا
أخّبئ عمري في جيب قميص نسيتُه الغسالة
وأمشي،
بإيقاع ملعقة تنقّ في كأس فارغ من الصوت.
الحياة تقرأ رسائلها بصوت آلي،
أضغط :
- للدهشة ،
- للقلق ،
ولا أحد يرد على الانتظار.
السقف يقطر وجوهًا
والأرض تبدّل جلدها كلما مر ظلّي،
وأنا أفتح النوافذ على مواعيد لا تأتي،
أستقبل الغد بكوب مكسور
وساعة بلا عقارب.
الوقت ليس نهرًا
بل سكين يتعلم كيف يرقص على أضلاعي.
كل ما أملكه:
كلمة واحدة لم تقل،
حلم يقلّب قميصه من جهة النوم إلى جهة الغياب،
ونسخة مشوشة مني
تحاول تذكر سبب الوجود في هذه الحافلة المعطلة.
لا أفهم لماذا تنظر إليّ المِرآة بخوف،
ولماذا يصعد قلبي الدرج وحده كل مساء،
ثم لا يعود
أظنني على حافة ما تبقى من الوقت.
أربط حذائي كما لو أني أجهّز نفسي للسقوط
ليس من ارتفاع،
بل من فكرة.
الزمن يجلس على مقعد في الجهة الخطأ من دماغي
ينقر بأصابعه على زجاج الذاكرة
ولا أحد يفتح.
النور يأتي متأخرًا،
كالذين لا يحضرون إلا بعد الجنازات
والأبواب تكتفي بأن تكون مغلقة من الداخل
دون أن تشرح لماذا.
أحمل رأسي كحقيبة بلا عنوان
أفتش داخله عني
ولا أجد إلا تذاكر سفر لرحلات لم أذهب إليها
وصوتًا يسألني إن كنت حقًا هنا
أم أنني مجرد رجع صدى.
الوقت ليس نهرًا،
بل مصعد يتوقف في طوابق لا أطلبها
ينفتح بابه
على غرف تضحك فيها الأيام القديمة.
أظنني على حافة ما تبقى من الوقت
أتلمس الفراغ بأصابعي
كمن يبحث عن زر الإيقاف في حلم عالق
وكلما حاولت أن أبطئ اللحظة
أسرعت في الانطفاء.
أنا الممر الذي نسيه الضوء
الكرسي الذي لم يجلس عليه أحد
والنداء الذي خرج من فم الوقت
ولم يعد إليه.
**
امتدادٌ على حافّة ما تبقّى من الوقت
الوجوه تمر بي ولا تعرفني
كأنّي إعلان باهت على جدار متهدّم
كأنّي ممر في مستشفى الذاكرة
أضاءت أنواره بالخطأ.
كل شيء صار مؤقت
حتى أنا
أعلق وجودي في خزانة الهواء
وأجرّب كيف يبدو أن لا تكون.
منذ مدة،
توقف اسمي عن الإجابة حين ينادى
وصار قلبي يشبه إشعارًا لم يُفتح.
المدينة تأكل وجهي في كل مرآة
وأسير فيها كأنّي إشاعة
أو خطأ في جدول لم يراجع.
أكتب “أنا” ثم أمسحها
لا خوفًا من الحقيقة
بل لأن الخط تغير
واللغة لم تعد تحتمل هذا الضمير.
الوقت يتسرّب من فمي حين أضحك
وأنا أضحك كثيرًا مؤخرًا
كأنّ في داخلي نكتة لا تموت
ولا تُروى.
أظنني على الحافة
ليس من الوقت فقط
بل من المعنى
من قابلية الجسد ليصدّق أنه يعيش
من احتمال أن يصدّقني أحد إن قلت:
“كنت هنا، مرة،
تمامًا قبل أن أنطفئ.”
**
(الظلُّ الأخير للوقت الذي لم يأتِ)
لا شيء يعود كما رحل
حتى الريح تغيّرُ اسمها حين تمر بي.
كنت أظن أن للأشياء ذاكرة
لكنني أمسكت بالباب ذات مساء
وسألته: هل تذكرني؟
فأدار عينيه جهة الفراغ.
النوم لا يزورني
بل يتسلل مثقل
كموظف بلدية يتفقد خرابا لا أحد يراه.
أحيانا
أفكر أنني حي لأن الهاتف لا يزال يرن،
أو لأن الضوء يسقط على وجهي
دون أن يسألني من أكون.
أظنني
لا أبحث عن وقت
بل عن تبرير طفيف لأن أرتدي جسدي كل صباح
عن سبب معقول لأقول: “مرحبا”
ثم أرحل دون أن يلاحظ أحد أنني كنت.
اللغة،
تنهار كلما حاولت أن أقول شيئا صادقا
تتكسر كأنها زجاج مضغوط بين الأسنان
والكلمات تمشي في فمي كما تمشي الجنائز:
ببطء،
وبدون أمل في العودة.
الساعة الآن ترفض أن تعلن وقتها
تكتفي بأن تنبض مثل قلب لا يحب أحدا
ولا يريد أن يموت.
كل شيء يمضي
حتى هذا النص
حتى هذا الأنين الذي تظنه إيقاعا.
أظنني
على حافة ما تبقى من المعنى
وأنا
الوّح لنفسي من جهة أخرى
كأنني أواسي من سيبقى بعد أن أذهب.
**
(الهامش الذي كُتب بالخطأ من الزمن)
في رأسي يعيشُ مقهى قديم
مغلق منذ الحرب
وفي كل طاولة شخصٌ ينتظرني
منذ أن كنتُ فكرةً عابرة في ذهن غريب.
الأشياء لم تعد تُناديني بأسمائها
الكرسي لا يتذكّرني
السريرُ لا يعترف بي
والجدران تنصتُ إلى تنفّسي
كما لو كنتُ دخيلًا.
أنا فقط
كائنٌ يُطفئ النور لأنه يعرف أن الضوء
لا معنى له حين يغيب أحد.
حتى ظلالي تراوغني
تمشي قُدّامي
تلوّح لي كأنها تعرف الطريق
وأنا فقط أتبعُ الغبار.
لا أريد إجابات
أريد فقط أن يكفّ الوقتُ عن السعال
أن يخرج من صدري كدخانِ سيجارةٍ لم تُشعل
ويصمت.
كلما اقتربتُ من قولِ شيءٍ يشبهني،
تغيّرتُ.
كأنَّ المعنى لا يريد أن يموتَ على لساني
بل يُفضّل أن يظلّ هاربًا
كقطٍّ يتّهمك إن حاولتَ لمسه.
الوحشةُ ليست شعورًا
بل طقسٌ يتكرّر
يقف عند بابك كل صباح
يقول: “أنا البريد”،
ويُسلمك نفسك.
أظنني
على الهامشِ الأيسر من الوقت
حيث تُلقى الكلماتُ غير المناسبة
والنهايات التي لم تجد قصةً تليق بها.
**
الوقتُ لا يحدث، نحن فقط ننتظره أكثر من اللازم
مرّت بي جملةٌ قديمة
كانت تقول شيئًا عن الأمل
لكنّها الآن
تبدو لي مثل قميصٍ نسيه الزمن على حبل الغسيل.
لا شيء يشبهني
حتى أنا صرتُ أستعير ملامحي من النوم
من الهزيمة
من صورةٍ مهتزة على شاشة المصعد.
في الحافلة ،
أعدُّ الوجوه كي لا أعدَّ أفكاري
أمسكُ بقبضة الهواء وأتظاهر بالاتّزان
كأنّني ذاهبٌ إلى مكانٍ لا أعرفه
لكن عليَّ أن أصل.
كلُّ الذين أحببتهم اختفوا في التفاصيل،
واستمرّوا في حياتي
كضوضاء أجهزة كهربائية لم يُطفئها أحد.
أقول لنفسي:
هذا ليس أنتَ
أنتَ هناك
في طيّ خطأٍ مطبعيّ
في دفتر قديم
في اسمٍ كُتبَ مرةً
ثم شُطِب.
لا أعرف كم مضى،
ولا متى بدأتُ هذا الانقراض البطيء
لكنّني متأكدٌ أنّي آخر من غادر الغرفة
ولم يُغلق الباب.
اللغة تلهث والقلبُ يتلعثم.
حتى “أنا”
صارت كلمةً ثقيلة تسقط من فمي
كحجرٍ لا يجرؤ على الارتطام.
أظنني
في الصفحة البيضاء التي تأتي بعد النهاية
حيث لا أحد يكتب
ولا أحد ينتبهُ أن القصّة لم تُغلق بعد.
***
الوعي… كأنّه حادث سير تأخّر عن نفسه
ما الزمن، إن لم يكن مجرّد اسمٍ آخر للانتظار؟
ولماذا نُصرّ على عدّ لحظاتٍ لا تعترف بنا ؟
كل ثانية تمرّ، تُنقِّبُ عن نَفَسٍ مفقود في رئتي
وكأنّ الوقتَ لا يقاس
بل يجرّب أن يُنسى.
أنا لا أعيش،
أنا فقط أقدّم دليلاً نظريًا على احتمالية الحياة
كأنّي فرضية وجودٍ مؤقتة
مُعلّقة بين قوسين مهملين في كتاب الفيزياء.
الوعي ،
ذلك الصوت الداخلي الذي يشرح لي ماذا يحدث…
ثم يسحبُ الكرسيّ فجأة ويتركني واقفًا أمام سؤال:
هل هذه أفكاري،
أم أنني فقط نسيان يُصدّق صدى نفسه؟
اللغة ،
قيدٌ من ذهب
أنيابٌ ناعمة تحنو على معانيها حتى تذبل
وأنا أكتب كي أهرب من المعنى
لكنّ الحروفَ تركض خلفي
مثل شرطـيّةٍ تشكّ بأنّي لم أرتكب جريمتي بعد.
كل الأشياء التي نسيتها
تجلس الآن في غرفة الانتظار
تمضغ أسماءها
وتنظر إليّ كأنني آخر من سيعترف بها.
كنتُ أظنني كائنًا من زمنٍ يمشي للأمام
لكنني الآن
أشعر أنّني أعود للخلف
لا لأصل إلى البداية
بل لأراها تنهار من دوني.
في كلّ فكرةٍ عن الموت
يوجد ظلّ حياةٍ لم تحدث
وفي كلّ حياة
يوجد موتٌ صغيرٌ يبتسم في المِرآة.
أنا لا أشعر بالوقت
بل بالثقوب التي يتركها خلفه
كأنّي ورقة مثقوبة
تحاول أن تُقنع الهواء أنها قصيدة.
أظنني
أفكّر لأنّي لا أجرؤ أن أكون
أفكّر لأنّي لستُ متأكدًا
إن كنتُ “أنا”
أم مجرّد احتمالٍ نَسِيَ أن يُلغى.
**
في مكانٍ يشبه أوّل الحافة
أظنني
ما زلتُ واقفًا هناك
في تلك الجملة الأولى
التي ظننتُ فيها أن لي وقتًا
أو ظلّ وقت.
كل ما كتبته منذ البداية
لم يكن سوى محادثة مؤجّلة مع نفسي
على مقعدٍ باردٍ
في منتصف لحظة لم يعترف بها أحد.
الماء في الكوب ما زال يرتجف
والملعقة تنقرُ كأنها تحاول إيقاظ الصمت.
حتى الباب لم يتحرّك
كأنّني خرجتُ
لكنّ ظلي لم يقتنع بالمغادرة.
الساعة ما زالت على الجدار
لكنها تنظر إليّ
كما لو أنني أنا العالقُ في عقاربها
أنا الذي يُقلب في كل وقت
ولا يرن.
تلك الوجوه في الحافلة ما زالت تمرّ
تبدّل أسماءها
ولا تلاحظ أن أحدهم ينسى أن يختفي.
أفكّر أحيانًا
أنني لم أتحرّك منذ أول سطر
بل كل ما فعله النص
أنّه زاد من وضوح وقوفي في نفس النقطة
نقطةٌ لا تصل ولا تتراجع
بل تذوب.
أظنني وصلتُ إلى ما قبل النهاية
لا النهاية نفسها
بل إلى تلك البقعة المائية التي يتركها الكأس
حين يُرفع عن الطاولة.
وهذا، ربّما،
أقرب ما أكون إليه.
**
الوقت لا يسأل أين كنت، فقط يُنقصك
في كل صباح
أرتّب سريري
كأنّني أخدع ذلك الذي لا يجيء
كأنّ هذا الفعل البسيط سيُقنع أحدًا أنني نمتُ
وأن شيئًا ما حدث داخلي غير الانكسار.
أُغلق صنبور الماء بشدّة
كأنّني أضع حدًّا للتسرّب
لكن من قال إنّ التسرّب في الأنابيب ؟
الخراب يحدثُ في مكانٍ أعمق
حيث لا يصل السباكون
ولا الفكرة.
أشرب قهوتي
لا لأستيقظ
بل لأتذكّر كيف يبدو طعم العالم
حين يكون مرًّا بمحض الصدفة.
أصادفُ قطةً في الطريق
تنظر إليّ وكأنها تتذكّرني من حياةٍ سابقة
لم أكن فيها سوى ظلّ نافذة.
أفتح الهاتف،
أبحث عن إشعارٍ ينفي وحدتي
أجد تحديثًا لتطبيق الطقس.
وهناك
في زاوية الشاشة
درجات الحرارة أكثر يقينًا منّي.
أنا الذي يُراقب الشقوق في الجدران
كما يُراقب أحدٌ نملًا يغيّر طريقه
كأنّي في كل شيءٍ أعيد تمثيل فشلي بحذر.
ما الفارق بين السلّم والمصعد ؟
في الحالتين نصل
لكننا لا نتذكّر الخطوات
بل الشعور بالثقل.
الوجود ،
لا يبدو كفكرة
بل كإيصالٍ نُسيَ في الجيب
كإشعار “تمّت العملية”
دون أن تعرف ماذا اشتريت.
أظنني،
في هذا الجزء من اليوم
الذي لا يُكتب في اليوميات
ذلك الفاصل بين فنجانين
حيث لا يحدث شيء
إلا الصمت
وإصرار الهواء على تذكيري
أنني ما زلتُ هنا.
و”هنا”
لم تكن يومًا مكانًا
بل حالة مؤقتة
في ذاكرة شيءٍ لن يرويه أحد.
**
أبعد من الحافة، أقرب من لا شيء
كل شيءٍ أصبح ناعمًا
كأنّ الحواف تآكلت من فرط التكرار
حتى الندم
لم يعُد يجرح
بل ينسدل كقماشٍ رطب على كتفي.
لم أعد أخشى النهاية
بل تلك اللحظة التي تسبقها
حين يصمت كل شيء
ويبدو أن الصمت نفسه
ينتظر تبريرًا ليبقى.
الباب نصف مفتوح
لكنه لا يدلّ على الداخل ولا على الخارج
كأنّ العالم قرّر ألّا ينتمي إلى أي جهة
ولا حتى لي.
هل كان يجب أن أقول كل هذا؟
أم أن الصمتَ كان كافيًا؟
لكنني أردتُ أن أترك شيئًا يشبهني
حتى لو كان شيئًا لا يُفهم.
الأشياء من حولي تظلّ في أماكنها
لكنها لا تُطَمئن
لا الجدارُ يُسند ظهري
ولا الهواء يُمرّرني دون مساءلة.
في النهاية،
أعتقد أني لم أكن أبحث عن معنى
بل عن مكانٍ
أضع فيه خوفي دون أن يراه أحد.
وكل ما كتبتُه
هو محاولتي الأخيرة لأن أُخطئ ببطء.
*
حين يُغلق الكتاب، يبدأ السؤال
كنتُ أظنّ أنني أكتب لأملأ الفراغ
لكنّني الآن أرى أنني كنتُ أكتب
لأصير أكثر فراغًا.
ليس لأنّ الكلمات فارغة
بل لأنّ كل حرفٍ يمحو ما قبله.
كان الوقت يمرّ،
وأنا أظنّ أنه يُقتطع مني
لكني الآن أعرف
أنني كنتُ فقط أعيش في استراحةٍ
بين لحظتين قد تلتقيان يومًا،
وقد لا تلتقيان.
أظنّ ، أنني اكتشفتُ أخيرًا
أنني لن أكتشف شيئًا
إلا أنني جزءٌ من التجربة نفسها
التجربة التي لا تُكتب
لأنها لا تكون.
لذلك، حين أغلق الكتاب
لن أبحث عن آخر صفحة لأعرف النهاية
بل سأغلقه لأبحث عن شيءٍ لا يجيء.
وكأنني بدأت أكتب هذا النص
لأمحو حتى السؤال نفسه
لأعرف أنني كنتُ في النهاية
لا أحتاج إلى شيء إلا أن أظلَّ هُنا
حيث لا شيء يحدث
وحيث يُكتب ما لا يُكتب.
أظنني على حافّة ما تبقّى من الوقت
لكن،
أي وقتٍ هذا ؟
أهو ذلك الذي ينزلق من بين أصابعي
أم هو مجرد بقايا لحظةٍ سابقة
تحاول أن تلتصق بي،
فيما الوقت نفسه يُخطط للهرب ؟
الوقت الذي لا يُنظر إليه إلا في اللحظات الأخيرة
حين لا يعود للفكرة معنى
ولا للكلمة وجه.
كان عليّ أن أقول شيئًا
لكن ماذا يمكن أن يُقال
حينما كل شيء أصبح كما هو
وكل شيء أصبح كما لا يكون؟
هل يُقال إنني في آخر اللحظات
أو أنني في اللحظة نفسها
حيث لا يحدث شيء غير أنني أظن ؟
كل ما تبقّى هو الشك أنني على الحافة
ولم أعد أدري إن كنتُ أقف
أم أنني فقط أتأرجح في الفراغ.
ربما لن يسألني الزمن نفسه
لكنني في النهاية
لا أحتاج سوى أن أكون على الحافة
أنتظر فقط أن أُسقط الزمن
أو يسقطني.
وأنا الآن على حافة ما تبقّى من الوقت
لن أبحث عن الحقيقة
فقد بدأت أظن أن الوقت كان مجرد وهمٍ
أراد أن يصدقني
وأنا أردت أن أصدقه.