أحمد الشَّهاوي
“كشفُ النقاب” عنوانٌ مشحُونٌ بالدَّلالات في اللغةِ والتصوُّفِ والفن التشكيليِّ. فهو أكثرُ من تعبيرٍ وصفيٍّ؛ إنه استعارةٌ تحتشدُ بالرمُوز، وتتحوَّلُ إلى بابٍ لفهم الغيابِ والحُضُور، والخفاء والتجلِّي، والشكل والمعنى معًا.
وال”كشف” في اللغةِ يعني الإزاحة أو الإزالة، أما “النقاب” فهو الغطاءُ الذي يُخفي ملامحَ الوجهِ، حينَ يُقال “كشف النقاب”، يُفهم أنَّهُ إزالةُ الحِجاب عن شيءٍ مخفيٍّ، سواء أكان ماديًّا أم معنويًّا؛ ولهذا يُستخدمُ التعبيرُ للإشارة إلى إظهار ما كان مستُورًا أو مسكُوتًا عنهُ. لكنَّهُ في جوهره استعارةٌ عن الانتقال من الخَفَاءِ إلى الوُضُوحِ أو الكشف.
و”النقاب”في التراثِ الصُّوفيِّ، لا يحجُبُ الجسدَ، بل يحجُبُ المعرفةَ؛فالعارف لا يرى الحقيقةَ الإلهيَّةَ إلا بعد “كشف النقاب” الرُّوحي عن البصيرة. والشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي (560هـجرية / 1165ميلادية –638هـجرية / 1240ميلادية) وعبد القادر الجيلاني (470 – 561 هـجرية / 1077 – 1165 ميلادية)وغيرهما وقفُوا عند مراتب “الكشْف”، حيثُ تُنزع الحُجبُ تدريجيًّا ليصلَ السَّالكُ إلى مقامِ التجلِّي.
إذًا، “كشف النقاب” هنا فعلٌ تأمليٌّ عميقٌ، يعني الانتقال من الإدراكِ الظَّاهري إلى الفهم الباطنيِّ، ومن المحسُوس إلى العُلوي.
وعند توظيف “كشف النقاب” في الفنِّ التشكيليِّ، خُصُوصًا التجريدي منه، تُصبحُ العبارةُ بيانًا بصريًّا. إنَّها لا تشيرُ إلى فعلٍ مباشرٍ، بل إلى تجربةٍ تكشفُ شيئًا من داخلِ الكائن أو المجتمعِ أو الذات. قد ترمزُ إلى تحوُّلٍ داخليٍّ، أو إلى توديعِ مرحلةٍ ما من الهُوية. في بعضِ التجاربِ التشكيليةِ المعاصرةِ – كما في أعمال الفنان التشكيلي عبد الله الأحمري – تحملُ العبارة دلالةً مزدوجةً.. كشف الغطاء عن الجمالِ المُغيَّب، وعن الذات في لحظةِ عبورٍ.
النساءُ الخافتاتُ في أعمال الفنان التشكيلي عبد الله الأحمري يُكشفُ عن حُضُورهن لا ملامحهن؛ كأنَّ النقابَ هنا لا يُنزع عن الوجهِ بل عن الرُّوح.
و”كشف النقاب” عبارةٌ تختزنُ طبقاتٍ من المعنى لغويةً، ومعرفيةً، وجماليةً.
وهي فعلُ عبُورٍ من التقييدِ إلى الانفتاحِ، من السَّطحِ إلى العُمقِ، ومن العادة إلى الحقيقة.
ولهذا تبقى جذَّابة للفنِّ والكِتابةِ، لأنَّها لا تُظْهِرُ فقط، بل تكشِفُ لتُدْهِشَ.
ولأنَّ المُبدعَ مرآةُ بيئتِه، فلا تختلفُ حالُ عبد الله الأحمري. حيثُ تتمازجُ في مكانِ ولادتِهِ ونشأتِه وتكوينِه الفكريِّ والثقافيِّ والفنيِّ المملكة العربية السُّعودية الأصالةُ بالحداثةِ، حيثُ تبدو لوحاته انعكاسًا لهذا التداخُل. فبيئته الاجتماعية والثقافية تُغذّي رُؤيته حيثُ يعيشُ وسط تحوّلٍ سريعٍ في المشهدِ الثقافيِّ السُّعودي، في زمنٍ يتقلّصُ فيه الفاصلُ بين التقليدِ والابتكار، ويُحتفى بالمرأة كعنصرٍ محوريٍّ في الفن والهُوية.
ولوحاته، التي تتخذُ شكلَ التعبيرِ التجريديِّ، واضحةٌ فيها “نُعُومة الملامح” للنساء؛ كأنَّهُن يودِّعن مواطنهن الأولى، ويتحوَّلن نحو حالةٍ أكثر حداثةً أو توجُّهًا جديدًا في الذات. يمكن أن نفهم ذلك كتعبيرٍ فنيٍّ عن مراحِلِ التحوّلِ الاجتماعيِّ تجاه قبُول المرأةِ والإشارة إلى فضاءاتٍ جديدةٍ لم تكُن مُمكنةً في السَّابق.
يتنقَّل عبد الله الأحمري بين خُطُوط التجريدِ المُعاصر واللمحات الرمزية، في لوحاتٍ يرسمُ فيها النساء بأقصى درجات التبسيط ؛فالوجُوه مشرُوطةٌ بالضَّوءِ والظِّل، والملامح مرسُومةٌ بخفَّةِ الكائن الذي يُحتملُ، تشبهُ الوهمَ في لحظةِ التحوّل.
قد يكُونُ “كشف النقاب” بمعناه المجازي، حيثُ يتم تجريدُ المرأة من ملامحها الحادَّة، وتُقدَّمُ بطريقةٍ تحملُ القصَّةَ من دون الكشفِ عن التفاصيل.
ويمكنُ اعتبارُ هذا التناولُ الفنيُّ نوعًا من التقدير الخفيِّ للمرأة، ويُظهرها في لحظةٍ داخليةٍ، بين الحاضر والمستقبل ، بين الهُويةِ التقليدية والهُوية الحُرَّة أو المُتحرِّرة.هن يودِّعن مرحلةً ليبدأن أخرى جديدةً من التغيير، وربَّما يُعبِّر عبد الله الأحمري بذلك عن إحساسهِ الشَّخصيِّ، ورُؤيته الإيجابيةِ لما يمكنُ أن تكتسبهُ النساءُ من تعبيرٍ مُشفَّرٍ وقويٍّ في الثقافة.
أسعى هنا إلى أن أكشفَ النقابَ مجازيًّا عن الفنان السُّعودي عبد الله الأحمري، ودوره في المشهد الفني السُّعودي، وعلاقته مع البيئة الاجتماعية المُتغيرة. لأرى أنَّ تأثيرَ البيئةِ عليه ليس سطحيًّا، بل جزء من ذاكرته البصرية، يتبدَّى في أعماله حيثُ يُقدّم النساء في لحظةِ تحوُّل: “خافتات الملامح”، ولكنَّهن حاملاتٌ لقصَّةٍ أكثر عمقًا من هُويةٍ سطحيةٍ.
فتصبحُ لوحات عبد الله الأحمري عبُورًا من الماضي إلى الحاضر، من التقليدِ إلى الحداثةِ، من المألوفِ إلى المغاير المختلف.
وهو من خلال “منصبه” في الفن ونتاجه الإبداعي، يُسهم في تشكيل هذه الهُوية البصريَّة الجديدة للمملكة، المحافظة والمتطورة في آن.
ويقترح الفنان عبد الله الأحمري عناصرَ تجريديةً وملامحَ ضبابيةً شفيفة تحيطُ بوجُوه النساء المرسُومة بخفَّة ساحرٍ ، وغموض مسافرٍ في “الزمان الوجُودي” ؛ لوحات تعدُّ مرآةً لأسلوبه الفنيِّ المختلط بين التجريدِ والصوفية.
وقد ذهب في تجربته الفنية مذهبَ التجريدِ التعبيريِّ والتأمُّل البيئي، حيث ينتمي عبد الله الأحمري إلى رحم التجريد التعبيريِّ في الفن العربيِّ الحديث وخُصوصًا السعودي منه، هو نوعٌ من التجريدِ الذي لا يُعنَى بتفكيكِ التفاصيلِ الواقعيةِ بل بنقل الحالةِ الشُّعوريةِ والضوئيةِ للفنان كما تتجلَّى في مرايا رُوحه.
وهذا النوعُ من التجريد “ينقلُ الأشياءَ من محيطِ واقعها ليعيدَ صياغتَها برُؤيةٍ فنيةٍ جديدةٍ” يظهر جليًّا في أعمال عبد الله الأحمري، حيثُ تتراكمُ الألوانُ والخطوطُ كأنها مشهدٌ رُوحيٌّ أو لحظةٌ تأمليةٌ تُجسِّد جوهرَ المشهد لا شكله.
بيئةُ عبد الله الأحمري السُّعودية الثرية – بتراثها الصَّحْراوي، وبواكيرها الحداثية، وتطوراتها الاجتماعية – تغذِّي تجربتَه الفنيةَ؛ إذْ يبدُو في لوحاته كيف تحملُ الطبيعةُ، والتراثُ، والعُمرانُ دلالةً روحيَّةً، في لوحاتٍ تتلاشى فيها الوجُوهُ حاملة قصَّة تخفي التفاصيل، وتستدعي التأمُّلَ.
وفي أعمال عبد الله الأحمري، تظهرُ النساءُ غامضاتٍ ؛ ملامحهن خافتةٌ كأنهن في لحظة وداعٍ أو انتقالٍ نحو مكانٍ آخر، هي رحلةٌ تعبيريةٌ نحو التغيير.
فهذا التجريدُ النسائيُّ لا يكشفُ عن ماضيهن بالكامل، بل يركِّزُ على لحظة التحوُّلِ النفسية البصريَّة التي تشبهُ الكشفَ الصُّوفي عن الغيب؛ والرمزية الأنثوية المُختلطة بين الحضور والغياب، حيثُ التعبير عن الذات والجسد.
في تجربةٍ فنيةٍ غنيةٍ كهذه يُطالَبُ الفنان بالكشف عن “الما وراء” من دُون كشف الـ “ما هو”؛ ورُؤى عبد الله الأحمري تنسجمُ مع هذا. فلوحاته ليست سردًا بصريًّا، بل تأمُّل نحو العالم الداخليِّ، حيث الاستخدامُ المتوازنُ للألوان الدافئة والحادَّة مجتمعةً مع الهادئةِ والناعمةِ، هو مقاربة ألوان تخاطبُ الحواس من دُون مُفرداتٍ، تستثيرُ إحساسًا بالسَّكينة أو الحنين، فنحن أمام نمطٍ لونيٍّ سريعٍ في الزوايا يذكِّرُ بالصَّحراء وقت الغرُوب، مقابل ألوانٍ قريبةٍ إلى الهدُوء في وسط المساحة اللونية.
هذا التباينُ اللونيُّ يحملُ وظيفةً صوفيةً؛ فالألوان الحادة رمزٌ للطاقة والوميض، والألوان الهادئة رمزٌ للتماهى الرُّوحي.
وهذا المزج عمومًا يُترجم لحظاتٍ من التصوُّفِ البصريِّ بين اللهب والخمُود، بين الذات والمطلق.
ولأن عبد الله الأحمري نشأ في مناخٍ سعوديٍّ يشهدُ تحولاتٍ عابرةً بين الماضي والحداثي. الأمر الذي جعل هذا المناخ يتجلّى في لوحاته التي تتركَّزُ في مشاهدَ تشكيليةٍ مُبسَّطةٍ للتراث، من دُون المُضْمَرِ الصُّوفيِّ لحميمةِ المكان الباطنيِّ. والنساء الخافتات الملامح يذكّرن بأن الهوية ليست حالةً ثابتةً بل أعمار منتقلة، وأن هذا التحوُّل أقربُ إلى الصَّمت .. إنهُ تصريحٌ داخليٌّ أكثر من كونه إعلانًا خارجيًّا.
إنَّ “كشف النقاب” في تجربة عبد الله الأحمري ليس كشفًا تشريحيًّا، بل تحرُّرٌ وخطوةٌ تأمليةٌ نحو الألوان، والضَّوء، والصَّمت ، رحلةٌ إلى ما بعد التشكيل، نحو التعبيرِ الذي لا ينطقُ، حيث يصبحُ الغموضُ لغةً، ويصيرُ اللونُ صلاةً بصريَّةً.
نجد في أعماله جسرًا بين التراثِ والبيئةِ، بين التجريدِ والرُّوحِ، بين الصوفيةِ والفنِّ المرئيِّ؛ وكل ذلك يشكِّلُ جسرًا لا يعلن، بل يشي ويرمز.
في تجربة الفنان التشكيلي السُّعودي عبد الله الأحمري، يُعد التعدُّدُ اللونيُّ واحدًا من أبرز الخصائص الأسلوبية التي تُشكّلُ بصمتهُ الفنيةَ. لكنَّ الأهمَّ من مجرد رصد هذا التعدُّد هو تأويله جماليًّا، ورمزيًّا، ونفسيًا داخل السِّياق العام لأعماله، لا سيَّما في ضوءِ الخلفيةِ البيئيةِ والثقافيةِ والصوفيةِ التي تستبطنُها لوحاتُه.
ويأتي التعدُّدُ اللونيُّ بوصفه بنيةً شعوريةً، حيثُ لا يستخدمُ عبد الله الأحمري الألوان بوصفها مادةً تزيينيةً أو زُخرفيةً، بل أداة شعورية.
فتنوُّع الألوان في أعماله لا يخضعُ لقواعد المدرسةِ الواقعيةِ أو الكلاسيكيةِ، بل نتاج تجريد ذاتي شُعوري، يُعبِّر عن تحولاتٍ داخليةٍ في الوعي والرؤية.
فالألوان الحارَّة (كالأحمر والبرتقالي) غالبًا ما تُوحِي بـ الاحتراق الداخلي، والشَّغف، والصِّراع، أو اليقظة.
أما الألوان الهادئة أو الباردة (كالأزرق والرَّمادي) فتشيرُ إلى التأمُّل، والتراجُع، والصَّمت، والتصالُح مع الذَّات.
وعند اجتماع هذه التدرُّجات اللونية معًا في اللوحة، فيتولَّد نوعٌ من الصِّراع الداخلي الصَّامت أو الانسجام المُتوتر، وهو ما يُضفي على العمل الفنِّي طاقةً تتجاوزُ المشهدَ المرئيَّ نحو الباطن الإنساني.
ويمكن أن نقرأ الألوانَ عند عبد الله الأحمري كمقاماتٍ صوفيةٍ؛ فالتنقُّل بينها يُشبه المرُور الرُّوحي من حالٍ إلى حال.
كل لونٍ له مقامُه، وكل مقام له تجربتُه الباطنيةُ، فالأزرق الداكن مثلًا قد يمثِّلُ مقام “الخلوة” أو التأمُّل الداخلي.
بينما الأحمر فيمثِّلُ مقام “الوجد” أو “الذَّوبان” في التجربة.
في حين أنَّ الأبيضَ المُشرِق والرَّمادي الغارِب الشَّفاف فهو مقام “الفناء” أو التلاشي في المطلق.
ويصبحُ التعدُّدُ اللونيُّ هنا نسكًا بصريًّا؛ رحلةً من التعدُّدِ الظاهريِّ إلى وحدة المعنى، مثلما يسلكُ المتصوفُ من تفرّع العالم إلى توحّد الذاتِ مع الكون.
وفي أعمال الأحمري التي تتمحورُ حول حُضُورِ المرأة، يُلاحظ أنَّ تعدُّد الألوان يرافقُ خُفوتَ الملامح أو محوها، ممَّا يمنحُ المشهدَ بُعدًا نفسيًا مزدوجًا، فغياب الملامح ما هو إلا اختفاءُ التعريفِ الخارجي.
بينما وفرة الألوان تكونُ بمنزلة حضُورِ “المعنى الداخلي” لتلك المرأة، كأنَّ المرأةَ عنده ليست شخصيةً فرديةً، بل رمز متحول يمرُّ عبرَ مراحل نفسيةٍ واجتماعيةٍ وثقافيةٍ، تنعكسُ كلها من خلال طيفٍ لونيٍّ لا يمكنُ تثبيته على حالةٍ واحدة.
ولأنَّ البيئةَ الطبيعيةَ والثقافيةَ في السُّعودية غنيّةٌ بالتناقضات البصرية حيثُ الصحارى الذهبية ، والسَّماء النقية الزرقاء،
والمعمار الطيني مُقابل الحداثة العمرانية، والحياة البدوية تناظرُ الحياة المدنية الناشئة.
وفي النهاية يُجسِّدُ عبد الله الأحمري هذه التناقضات ضمن نسقٍ لونيٍّ مُتعدِّدٍ، يخلُقُ فيه “خريطة شعورية” تمثلُ انتماءَهُ المكانيَّ والزمنيَّ من دُون أن يلتزم برمزيةٍ مباشرةٍ.
وعلى الرغم من تنوُّع الألوان في لوحات عبد الله الأحمري، فإننا لا نشعرُ بالارتباك؛ ذلك لأنه يمتلكُ قُدرةً خاصةً على تنغيم الألوان ، بحيث تتناغمُ كأنها موسيقى، وتنضبطُ المساحاتُ ، حيثُ لا يطغى لونٌ على آخر من دُون سبب.
كما تتداخلُ الألوانُ لا على سطحٍ واحدٍ فقط، بل عبر طبقاتٍ شبه شفافة تمنحُ اللوحة عُمقًا زمانيًّا، كما لو كانت تحمل سجلًا بصريًّا للتحوّل.
إنَّ التعدُّدَ اللونيَّ في تجربة عبد الله الأحمري ليس تنوعًا شكليًّا بل استراتيجية فنية وروحية، تُعبّر عن صراع الذَّات، والتحوُّل الداخلي، مقام صوفي يتنقَّلُ بين الحوَّاس والمعانى، وتمثيل لحالة الأنثى المُتغيِّرة في المجتمع، وتجسيد جمالي للبيئة السعودية بين الماضي والحاضر.
إنهُ فنان يجعل الألوان تتكلم من دُون أن تشرح، ويُحوِّل التعدد إلى وحدةٍ متناغمةٍ تُشبه القصيدة، أو المُناجاة، أو النداء القادم بعد أن كشف النقاب.