ما فوق “اليد العليا”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
رواية تطرح العديد من التساؤلات الوجودية بلغة مبهرة، ومحاولات لفهم الذات والعالم

 منى حسنين

رواية “اليد العليا” للكاتبة المصرية إيمان جبل، التي صدرت عن منشورات “المتوسط” عام ٢٠٢٥، هي محاولة للبحث عن فكرة الوجود وإيجاد الهوية، من خلال البطلة التي أدرجت في نموذج محاكاة لحياة موازية، هدفه توجيه حياتها لأحداث مبرمجة ومحددة مسبقًا.

تنبثق من تلك الفكرة الرئيسية أفكار أخرى تعبر عن الصراعات الداخلية والخارجية لبطلة الرواية لاكتشاف تلك الهوية، من خلال أفكار مثل: البيت، الآخر، المنفى، الأم، والهوية الجندرية.

الوجود والماهية

“في البدايــة انبثقت أولويــة الخــروج عــن هــذا الجســد، ومــع الوقــت صــار أكثر تطــورًا بالخروج عــن الـسمات القديمــة، حَتــى غادرني العــالم الأول”.

من مبادئ الفلسفة الوجودية أن “الوجود يسبق الماهية”، وهذا ما يدور في خلفية أحداث الرواية، حيث طرحت الكاتبة أفكار روايتها بطريقة سردية ذات تتابع زمني خطي، ابتدأتها بمشهد فلاش باك استهلته بحوار ذاتي على لسان البطلة، أشبه في تكوينه بحوار فلسفي وجودي.

ولد/ت موسى/فاني بهوية تم طمس حقيقتها الجندرية داخل تجربة للمحاكاة، لكنه/ها استطاع/ت خلق ثغرة في تلك المحاكاة لتكافح من أجل استرداد هويتها، لتصنع شخصيتها الخاصة.

بيت ومنفى

“اليد العليا” رواية لم تُحدّد بزمن أو مكان يُعوَّل عليه في اسباغ صفات محددة على قاطنيه. اختارت الكاتبة اسم “المنفى” لأول فصولها، حيث نجد فيه جملة مفتاحية جاءت على لسان “سيدة الجهة العليا” كما أسمتها المؤلفة، إذ قالت موجهة حديثها للبطلة: “ربما سيعيدك هذا الخيار إلى مصيرك الأصلي”، وما كان هذا الخيار سوى المنفى الذي اختارته البطلة.

وهنا نجد أنفسنا أمام تساؤل: ما هو المصير الأصلي للإنسان؟ هل الأصل هو البيت أم المنفى؟

من المتعارف عليه أن الحنين للبيوت الأولى غالبًا ما يصاحبه الحنين إلى رائحة المخبوزات، ولذلك تجلت فكرة وجود تلك المخبوزات في أغلب فصول الرواية كمحاولة ناجحة من الكاتبة في خلق روح البيت الأصلي لدى القارئ.
كما بلورت الكاتبة المفارقة في ماهية عمل الأب، ألا وهو ترميم البيوت. والأب في المفهوم النفسي المتعارف عليه يمثل الأمان للأبناء، لذلك كان أمان موسى/فاني يكمن في فكرة ترميم البيت الأول، والذي كان عنوان الفصل الثاني.
رمم الأب البيت لكن على طريقته الخاصة، فهو من زرع في عقل الصغير/ة فكرة التمرد على البيت الأول، المحاكاة الأولى، بترديد جمل مثل: “ما من نعمة تخرج عن النص، ما من صناعة فوق مشيئة الصانع”، أو “لكي تكون خالقًا محترفًا يتحتم عليك أن تعرف كيف تستمع لمخلوقاتك.”
ولولا هذا التمرد الأول لظل جرح البيت ملازمًا للبطل/ة.
تنتقل البطل/ة بين البيوت، ومع كل بيت تتجلى علاقة جديدة مع جسدها.

في البيت الأول، كان موسى الطفل الذكر الذي لازم عمته اثناء صنع المخبوزات. أهدته يومًا شوكولاتة، بجانب مجموعة من الجوارب المطبوع عليها صور فريق كرة القدم المفضل له. هذا أحد مفاتيح الخلط في الهوية الجنسية لموسى، الشوكولاتة هدية أنثوية باقتدار، أما الجوارب لفريق الكرة فتفوح منها رائحة الذكورة الفجة.

بعد وفاة أبيه، انتقل موسى مع أمه للبيت الجديد، وهناك اكتشف أنه ليس بذكر، إنما أنثى مكتملة الأنوثة، والتي بلغتها بين جدران هذا البيت.

من البيت الجديد إلى بيت “خوليو” صديق الطفولة، وأول من وضع فاني أمام نفسها. في ذلك البيت المستأجر بدأت البطلة في التعرف على أنوثتها داخل بيئة آمنة من الجيرة، وبرغم هذا الأمان فقد فشلت عملية اقترانها النفسي بهويتها الجديدة.

ثم انتقلت إلى بيت “الجراح”، البيت الذي أهانت فيه ذلك الجسد وسفهته، بتسليمه لرجل قام – في روايتها الخاصة – بتركيب عشرات الرؤوس لنساء أخريات على جسدها في الفراش، بينما في روايته هو أنها قد محت وجودها بيديها، وكان هو من يحاول استحضارها.

ثم بيت زوجها آدم، الذي همّشت فيه جسدها بالكامل بوضعها شرط “زواج الأرواح” دون علاقة فعلية.

وآخر بيت أقامت فيه فاني كان بيت المنفى، البيت الوحيد الذي خُصِّص لها وحدها، أو كما قالت: “شعرت أنه خرج مني وأنه ينتمي إلي لا العكس.”

وهذا يعيدنا إلى التساؤل الأول: هل الأصل هو البيت أم المنفى؟

الألم

لغة إيمان لم تخنها أبدًا في التعبير عن الألم وربطه بمحاولات قراءة الذات، وذلك عن طريق البحث عن جذور هذا الألم وعلاقته بالهوية. فالبطلة هنا ترى أن: “الأرض مخلقة خصيصًا من أجل تطوير طريقة عملية للعذاب”، حيث وضعها المنفى كما قالت أمام “هلعها الأكبر في أن تنكشف أمام نفسها وتعيد استحضار الجروح المكبوتة.”
وتجلت فكرة الصراع بين تقبل الألم أو مقاومته في أبرز مبادئ الثوار صانعي المحاكاة: “الثوار جماعة سلمية تدحض الألم.”

“الحنين لشيء لا أعرفه”
لا تتم وظيفة البيوت دون وجود أم. في البيت الأول كانت فكرة الأم متحدة في العمة: “أنا وعمتي نتلفح بعضنا بعضًا.”
وكما كان هناك صراع بين فكرتي البيت والمنفى، تجلى هنا أيضًا الصراع بين فكرتي الأم الحامية والأم المؤذية، والتي تجسدت أكثر في أحلام فاني الخمسة وأفلامها التي صنعتها بيديها.
نجد هنا تكرارًا لذكر العذراء (الأم) واختراع فاني لشخصية “سنية صالح”، الأم المكلومة في ابنها الوحيد، والتي تتعارض ظاهريًا مع طريقة “أمها الرسمية” التي حملت الجفاء والتخلي، ولكنها تطابقها باطنيًا، حيث كلتاهما قد فقدت ابنًا ذكرًا، مع اختلاف طريقة تعامل كل منهما مع موقف الفقد.
لغة إيمان لغة فلسفية ثرية استطاعت من خلالها رسم تطور الشخصية من موسى إلى فاني، والتي وضعت لها اسمًا يشبه في تركيبه الظاهري لفظة “المنفى”، وفي معناه الذي يدل على الفناء دون ترك أثر.
وجدير بالذكر أن أول مرة تمّت مخاطبة البطلة فيها باسمها مباشرة خلال أحداث الرواية كان على لسان أخت آدم يوم زفافه على فاني، حيث قالت موجهة إليها الحديث: “لا تتركين انطباعًا بشيء وهذا مخيف، كأنك فراغ يا فاني.”

أعتقد أنني أستطيع تصنيف هذه الرواية إذا استحدثنا تصنيفًا جديدًا تحت عنوان “الكتابة الذكية”، سواء في المفاتيح المتناثرة بطول الرواية والتي تصل بنا إلى النهاية وتُجبر القارئ على إعادة القراءة مرة أخرى لينطلق لسان حاله إمّا بـ “لقد كنت على حق في استنتاجي” أو “لم أوفق في تتبع تلك الإشارة.”
أو في اللغة الثرية للحوار الداخلي. ورغم أن المؤلفة إحدى شاعرات قصيدة النثر، إلا أنها استعارت نصًا لشاعر آخر ووظفته بطريقة إبداعية.

التساؤل المربك الوحيد الذي أثار ذهني أثناء القراءة هو الصعوبة التي واجهتها فاني لإتمام عملية الاقتران بينها وبين جسدها الأنثوي، بما أنها اكتشفت أنوثتها مع سن البلوغ، وهو سن صغير نسبيًا على خلق تلك الفجوة النفسية. ففي الأغلب تتعامل الفتيات قبل تلك المرحلة مع أجسادهن كأجساد الذكور بلا فارق. لكن من منظور آخر يتبنى هذا المنطق الهشاشة النفسية لطفلة وِلدت محملة بجروح الأمومة. قد يكون هذا رد فعل طبيعي لإنكار الأم لهوية فاني وليس فقط لنوعها.

في النهاية..
“اليد العليا” قد استطاعت أن تطرح العديد من التساؤلات الوجودية من خلال أفكار: الأم، والألم، والبيت، والمنفى، بلغة مبهرة، ومحاولات لفهم الذات وطرح فكرة الخلق، والتي ربما حسمتها البطلة في آخر فقرة في الخاتمة، وهي تقرر الفكرة التي سيدور حولها فيلمها السادس.
أعتقد أن مثل هذه الرواية قد تحتاج إلى القراءة أكثر من مرة، ففي
كل مرة يتكشف منظور مختلف يفصح عن وجه جديد من الجمال.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية، نقلاً عن جريدة الأمة الثقافية 

مقالات من نفس القسم