ملامح من أثر سمير درويش الثقافي

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د.أسماء عبد العزيز

ما كنتُ أظن أن لقاءً عابرًا في صفحات مجلةٍ أدبيةٍ قد يُثمر هذه المعرفة الوطيدة، أو أن نشرَ بضعِ مقالاتٍ في مجلة “ميريت الثقافية” قد يكون مدخلًا إلى اكتشاف عقلٍ فذٍّ وقلبٍ نابض بالحرف، كما وجدته في الأستاذ الشاعر الكبير سمير درويش. لم يكن النشر مجرد مرورٍ عابر في مجرى الكلمات، بل كان انفتاحًا على رجلٍ يرى في الكلمة وعدًا بالمعنى والتنوير، وفي الكاتب مشروعًا يستحق أن يُصغى إليه.

ومنذ ذلك الوقت، تعاقبت قراءاتي لدواوينه الشعرية، فلم أجد فيها شاعرًا يحسن الترصيع اللفظي أو الصنعة البديعية فحسب، بل وجدتُ مفكرًا يكتب الشعر لا ليتغنَّى بالحياة، بل لينفذ إلى أعماقها، ويُنطِق الصمت الكامن في تفاصيلها. ثم جاءت “العشر العجاف”، لا لتكون روايةً تقليدية، بل لتكون سيرة ذاتية لجيل بأكمله، سيرة تُلامس الصدق في مواضعه، وتعيد تمثيل ستينيات مصر بعيدًا عن الضجيج والشعارات، مخلصةً لذاك الطفل الذي رأى زمنه الأبيض والأسود، وأراد أن يكتبه، لا من ذاكرته فقط، بل من ضمير المرحلة.

وليس عجبًا، فإن من قاد تحرير مجلة “الثقافة الجديدة”، ثم “ميريت الثقافية”، لا يمكن أن يكون إلا صاحب مشروعٍ ثقافي، لا يطمح إلى مجدٍ شخصي، وإنما إلى بناء جسور بين الأجيال، بين القارئ والنص، بين المعنى والمجتمع. كان يرى الثقافة لا أداة زينة، بل أداة وعي؛ لا ترفًا فكريًا، بل ضرورة إنسانية.

ولقد تجلَّى في سمير درويش ذلك المثقف الذي لا يُغريه تصفيقٌ، ولا يُقصيه تجاهل، لأنه يسير بوحي من داخله، حيث الكلمة موقف، والموقف التزام. شاعر حين يُحتاج إلى غناء الروح، وناقد حين يُراد تحرير المعنى من سجنه، ومحرِّرٌ حين يغلبُ الغموضُ على وجه الكتابة. وفي كل حالاته، يظل كما هو: متواضعًا بلا خضوع، كريم النفس بلا ادعاء، رقيق المعاملة لا يجرح، عميق الأثر لا يتباهى.

لقد كان، وما زال، كما أعرفه، حاملًا لمشعل التنوير في زمن تتكاثر فيه الظلال، وصوتًا للعقل حين يسود الصخب، وضميرًا حيًّا يُذكِّرنا بأن الثقافة ليست ترفًا، بل حياة. له مني السلام في كل ما كتب، وفي كل ما سيكتب، ولأمثاله من المخلصين التقدير، حين قلَّ المخلصون.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم