مختارات من شعر سمير درويش

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سمير درويش

قبر “ستالين”

لو كنتُ ضابطَ أمنٍ سوفييتيًّا

في خمسينيات القرن العشرين،

لا أظنني سألبس طاقيةً صوفيةً مستديرةً،

كي لا أبدو تقليديًّا،

وقد ألعنُ “ستالين” كلما حانتْ فرصةٌ،

على الأقل حين أكونُ مخمورًا،

أقبِّل فتاةً شقراء في حانةٍ معزولةٍ.

لو رأيتُ الدماءَ تجري على الأرصفةِ كنتُ سأغضبُ،

كسوفييتيٍّ حرٍّ،

أتوقفُ أمامَها برهةً بخشوعٍ،

وأقرأُ ما تيسرَ من تعاويذَ،

قبل أن أتخطَّاها ذاهبًا إلى مكتبٍ غامضٍ،

أو حانةٍ نائيةْ.

القطاراتُ التي تطلقُ أدخنةَ الفحمِ،

التي في صدارتها نجمةٌ حمراءُ، تلك،

تحملُ فقراءَ،

وعمالَ مناجم،

وجثثًا،

وجنودًا بأرديةٍ ثقيلةٍ ووجوهٍ غائمةٍ،

وضباطَ أمنٍ منفيينَ،

هؤلاء الذين يتحيَّنونَ فرصًا ليسبُّوا “ستالين”،

وهم مخمورونَ تمامًا.

لهذا.. سوف لا تعرفينني حين نلتقي صدفةً،

ستعتقدينَ أنني فوضويٌّ بالكاملِ،

من أولئك الذين يترددونَ على المطاراتِ،

يتركونَ شعرَ رءُوسِهمْ مشعَّثًا أبيضَ،

ويتسكعونَ على أرصفةِ المدنِ الكبرى،

يقبِّلون النساءَ بعمقٍ،

وقد يرقصونَ في الحانات الساحليةِ،

ويكتبون شعرًا..

على الأقل لأنني لا أرتدي طاقيةً صوفيةً ثقيلةً،

فلا أبدو تقليديًّا!

2/ 4/ 2016.

*

مطرب العواطف

لو كنتُ مطربًا عاطفيًّا في التسعينياتِ،

سأرتدي قميصًا مفتوحَ الصدرِ،

أسودَ،

وحُلَّةً رماديةً داكنةً،

وأتركُ لحيتي نابتةً كي تُعجبَ المهووساتِ

اللاتي سيصطففْنَ أمامي،

كأشجارِ النبقِ،

أو كالنخيلِ البازغِ في قلبِ أرصفةِ المدنِ

التي تنهرُها أعمدةُ الإنارةِ،

وعوادمُ السياراتِ،

وعلبُ المشروباتِ الغازيةِ الفارغةْ.

الأناملُ التي تئنُّ من ثقلِ كريماتِ البشرةِ

وطلاءِ الأظفارِ،

ربما ربَّتَتْ على رءُوسِ القططِ السياميَّةِ بحنوٍّ،

ولوَّحتْ للأطفالِ الذين سيدخلونَ أسرَّتَهم

في منتصفِ الليلِ،

تلكَ التي ستلوِّحُ لي مبتهجةً

وأنا أمرِّرُ أصابعي خلالَ شعرِ صدري،

من فتحةِ القميصِ الأسودِ،

وأضغطُ على مخارجِ الحروفِ،

والوقفاتِ الإيقاعيَّةِ،

بينما أتمايلُ بطربٍ،

وأقذفُ قبلاتٍ متتاليةً بينَ حينٍ وحينْ.

المطربونَ العاطفيونَ ليسُوا مسئولينَ

عن الاختناقاتِ المروريةِ،

وإشغالاتِ الأرصفةِ،

واللوحاتِ الإعلانيَّةِ المضيئةِ في الليلِ

على واجهاتِ بيوتٍ عشوائيَّةٍ،

تَنْبُتُ شيطانيًّا في المدنِ

التي تحتلُّهَا أعمدةُ الإنارةِ المطفأةْ!

الصرخاتُ التي تقطعُ المسافاتِ

بيني والأجسادِ الممشوقةِ،

التي تقتحمُني، تلكَ،

ليستْ سوى صورةٍ مصغَّرةٍ من صرخاتِ المخمورينَ،

في الحاناتِ الساحليَّةِ،

حين يغني مطربٌ عاطفيٌّ، مثلي،

قصيدةً مملوءةً بالغنجِ. هناكَ:

لا نتذكَّرُ العشوائياتِ، والأعمدةَ المطفأةَ،

وإشغالاتِ الأرصفةِ، والتكدُّسَ المروريَّ،

وربما لا يكونُ ثمَّةُ فارقٌ

بينَ القميصِ الأسودِ مفتوحِ الأفقِ،

وألوانِ الفساتينِ

التي تتحرَّرُ الصدورُ من فتحاتِها الواسعةْ!

4/ 4/ 2016.

*

قلب جوبلز

لو أنني وزيرُ الدعايةِ في حكومة النازيِّ،

لن أكونَ بعيدًا ممَّا أنا عليهِ الآنَ:

أحبُّ البقاءَ طويلاً في غرفةٍ مقفلةٍ،

وأنظرُ من الشرفةِ كل حينٍ باحثًا عن مشهدٍ يأسرُني:

فتاةٌ، أو طائرٌ، أو عرَّافةٌ،

وسوفَ أركبُ الطائراتِ كي تحملَني

إلى مكانٍ أعرفُني فيهِ،

وربَّما سأحبُّ أن أكونَ فوضويًّا أكثرَ،

وأقلَّ دمويةً مما أراهُ داخلي.

المنعزلونُ لا يحبُّونَ الأسلحةَ الناريةَ -غالبًا-،

بقدرِ ما يعشقُون الفُودكا،

وصورَ النساءِ متحرراتٌ من معتقداتِهِنَّ،

والموسيقَى الكلاسيكيةَ،

وهمسَ الطبيعةِ..

لكنني سأحبُّ الشرفاتِ أيضًا،

تلكَ التي تشعلُ الأشواقَ وتصلُ ما لا يتصلُ غالبًا،

والطائراتِ العملاقةَ،

والأصواتِ التي تتسللُ لي دونَ أن ألمحَهَا.

لو أنني وزيرُ الدعايةِ لن أستمرَّ في موقعِي طويلاً،

لأنني سوفَ آخذُ “إيفا براون” لغرفةٍ مغلقةٍ،

وكأسي فُودكا،

وموسيقى تجعلُ الصخبَ يخفتُ تدريجيًّا،

والجسدينِ يهتزَّانِ،

والشرفةَ تختفِي،

حتى تزولَ تمامًا،

ثم نعدُّ معًا خطةَ تدجينٍ للنافرينَ،

الذين يريدُون الصعودَ إلى سدرةِ المنتهى!

 

ليس عليَّ وقتَهَا أن أرتدي حُلَّاتٍ بياقاتٍ عريضةٍ،

كثيرةِ الأزرارِ،

أو ألصقَ شعرِيَ الفاحمَ في جلدِ رأسي لأبدوَ وسيمًا،

ربما سأشاغبُ امرأةً وحيدةً،

وأغنِّي أغنياتٍ هابطةْ.

6/ 4/ 2016.

*

ليسَ سوايَ

ليسَ ثمَّ كلبٌ في شقَّتِي تلكَ

لذلكَ أسمعُ همهماتٍ وأصواتَ أقدامٍ

لكنَّني لا أعيرُهَا انتباهًا

وأواصلُ حياتِي

علَى هذَا النحوِ منَ الفسادِ

حتَّى لا أسقُطُ ميتًا منَ الخوْفِ القديمْ!

ليسَ ثمَّ أصدقاءٌ أهاتفهُمْ

سوَى أنَّنِي أقرأُ كثيرًا،

وأكتبُ، كثيرًا أيضًا،

وأنظرُ منْ شرفتِي دونَ رغبةٍ

ولا أعرفُ، فعلاً، لماذَا أنامُ هكذَا

علَى حافَّةِ السريرِ الواسعِ

بينَمَا أستطيعُ التقلُّبَ علَى مساحتِهِ كلِّهَا؟!

ليسَ ثمَّ موعدٌ مقدَّسٌ لديَّ

ولا نوعٌ أفضِّلُهُ فِي الطعامِ، ولا لونٌ

أحبُّ شعرِي طويلاً هكذَا

والأحذيةَ الرياضيَّةَ

والجينزَ الأزرقَ

والفراغَ الذِي يحيطُ جسدِي

ولا أحبُّ الذينَ يبالغُونَ فِي تحريكِ أجسادِهِمْ

حينَ يقولُونَ كلامًا أعرفُ أنَّهُ فارغٌ.

ليسَ ثمَّةَ امرأةٌ أهديهَا شيئًا

أغنيةً مثلاً

أوْ لوحةً تجريديَّةً

وليسَ في نيَّتِي أنْ أفعلَ شيئًا مَا فِي الصباحِ

سوَى أنْ أكونَ مَا أنَا عليهِ:

ضوءًا يتسلَّلُ منَ النَّوافِذِ المغلقةْ!

19/ 5/ 2014.

*

كائناتي

تخترقُنِي الأصواتُ فأصيرُ مخزنًا للضجيجِ

لهذَا، لستُ مهيَّأً للحبِّ

هذَا النهارْ

ولستُ راغبًا في توزيعِ سمومِي، كذلِكَ،

حتَّى على المقاعِدِ الفارغةِ

والكتبِ التِي كشواهدِ القبورْ!

العوادِمُ تصنعُ دواماتٍ لا تجعلُنِي أتنفَّسُ بكفاءةٍ

لكنَّهَا لا تطردُ الشياطينَ التِي تتقافزُ حولِي

فلا أتعاطفُ كمَا ينبغِي: معَ الكسالَى

والمحبطينَ

والذينَ ينبشُونَ القمامةَ

واللواتِي يغرسْنَ الدبابيسَ بعشوائيَّةٍ

في رؤوسِهِنّ.

صامتٌ أنَا

لأنِّني مملوءٌ بكائناتٍ توسوسُ لِي

أنظرُ من زاويةٍ ضيقةٍ إلَى العماراتِ

وأعمدةِ الإنارةِ

تخنقُنِي أصواتُ الشققِ المتلاصقةِ

فأشربُ شايًا لقتلِ الوقتِ

ولا أوزِّعُ الودَّ كمَا يليقُ بخمسينيٍّ فاسدٍ.

سيمرُّ الوقتُ.. حتمًا

وتتبدَّلُ الأصواتُ بتراتبٍ أحفظُهُ

حتَّى إذَا لمْ يتبقَّ غيرُ النباحِ

أنامُ دونَ غيابٍ كاملٍ

وفي الصباحِ أسلِّمُ جثَّتِي للضجيجِ

وللشياطينِ التِي تتقافزُ

وأصواتِ الشققِ المتلاصقةْ!

21/ 5/ 2014.

*

بمحاذاة النيل

أمشِي بخطواتٍ سريعةٍ متشابهةٍ

أتفادَى الأشجارَ العتيقةَ

والسائرينَ بلا وجهةٍ لا يلوُونَ علَى شيءٍ

والسياراتِ الباركةَ كيفَمَا اتُّفِقَ

والقاذوراتِ

لكنَّنِي أكتشفُ الآنَ- فجأةً-

أنَّ الأرصفةَ لا تتَّسِعُ لانفجاراتِي!

لا أرَى الأشياءَ التِي تحيطُ جثِّتِي

ولا أعتبرُنِي ميِّتًا رغمَ ذلكَ

لأنَّنِي مازلتُ قادرًا علَى السَّعْيِ

وأعدُّ الخطواتِ التِي أقطعُهَا بتصميمٍ

كأنَّهُ يجبُ أنْ أبلُغَ ذروةً مَا

فِي لحظةٍ محدَّدَةْ!

هاتفِي لا يحملُ أحدًا إليَّ

لذلكَ لا أفهَمُ حرصِي علَى اصطحابِهِ

كلَّمَا قررتُ أنْ أكونَ غريبًا، هكذَا

بينَ أقدامٍ تسعَى حولِي

بينَمَا يطاردُنِي احمرارُ الخدودِ ورنَّاتُ الهواتِفِ

وأصواتٌ متشابكةٌ،

ووعودٌ، وجسارةٌ، وعتابْ.

لا أرانِي الآنَ كمَا ينبغِي لِي

وأصبحتُ لا أغنِّي

كلَّمَا صرتُ وحيدًا، ويائسًا

وكلَّمَا أردْتُ قطعَ مسافةٍ كبيرةٍ كتلكَ

دونَ أنْ أشعرَ بهذَا الخواءْ!

24/ 5/ 2014.

*

صورة الموت!

ثمةُ خطواتٌ أسمعُهَا تقتربُ حثيثًا

ثقيلةٌ متأنيةٌ لكنَّهَا واثقةٌ تعرفُ وجهتَهَا

تقتحمُني أينمَا كنتُ

حتى وأنا ممددٌ على سريريَ الآنَ

لا أفعلُ شيئًا ذَا قيمةٍ، كعادتِي

إلا حوَمَانًا مستمرًّا في عتمةٍ تحيطُنِي

علِّي أقرأُ شيئًا من تعاقُبَ الصورْ.

ثمَّ شيءٌ يمنعُ الهواءَ من الدخولِ

بكفاءتِهِ الأولَى

ويجعلُنِي لا أهتمُّ كمَا سابقًا:

بالأشياءِ التِي تتبعُنِي كظلِّي

والأسماءِ التي تنثرُ أسئلةً في الفراغِ

والوجوهِ التي خرجتْ تدريجيًّا

منْ أحلامِي!

ثمَّ تراجعٌ ألمَسُهُ في علاقتِي ببيتِيَ هذَا

بالصورِ التي تنقلُها الشاشاتُ

والموسيقَى التي تعلُو

وتعلُو

حتى لا أرَى موسيقايَ الأولى

وحتى لا أستطيعُ الاختباءَ في ركنٍ

لأبكِي.

ثمَّ دبيبٌ، ليسَ كالموسيقَى

ولا صورٌ تؤطِّرُهُ كالأحزانِ اليوميَّةِ

دبيبٌ يشاركُنِي وحدتِي، ويتمشِى معي

بالحدَّةِ نفسِهَا

حين أحاولُ الهروبْ.

ثمَّ شكلٌ عضويٌّ للموتِ.. هُنَا!

31/ 5/ 2014.

*

شغف

خمسُونَ رجلًا، ستُّونَ، مائةٌ أو ألفْ..

سيمرُّونَ أمامَ امرأةٍ بردانةٍ

سيمرُّونَ ببطءٍ

لكنَّهُمْ سيمضُونَ سريعًا كقصائدَ مقلَّدَةٍ

دونَ أن يتركَ أيُّهُمُو وشمًا على جسمِهَا!

خمسُونَ ظلًّا، ستُّونَ، مائةٌ أو ألفْ..

لا يعبُرُ أيُّهُمُو شارعًا، من ضفَّةٍ إلى ضفَّةٍ

ولا يغنِّي -لحبيبةٍ مستهدفةٍ- بهمسٍ وقورٍ

دونَ أن يُسْمِعَ جيرانَهُ..

الذينَ ينحشِرُونُ في المواصلاتِ العامَّةِ

كلَّ صبَاحٍ

ولا يغنُّونَ لحبيباتٍ مستهدفَاتٍ!

خمسُونَ وهمًا، ستُّونَ، مائةٌ أو ألفْ..

يسقُطُونَ ببساطةٍ بينَ كلِّ كِلمتيْن

لأنَّهُمْ لا يعزِفُونَ حكاياتِهِمْ للبناتِ الممشُوقَاتِ

حينَ يتعطَّرْنَ

ولا يرسُمُونَ عواصفَ وأمطارًا

ولا يعصِرُونَ الأجسادَ الدقيقةَ بعنْفٍ

أوْ..

بكبرياءْ!

خمسُونَ قصيدةً، ستُّونَ، مائةٌ أو ألفْ..

لا تصنَعُ واحدةٌ منها صورةً للجُمُوحِ

الجموحُ.. الذي لا يستكِينُ بعد انقضاءِ النزالِ

النزالُ.. الذي لا يترُكُ شقْفَةً إلا قَلَبَهَا

لا يترُكُ حجرًا إلا زَرَعَ شيطانًا في جوفِهِ

شيطانٌ..

لا تخمَدُ نيرانُ شغَفِهِ الأسطوريِّ

أبدًا.

*

رياحٌ أخيرةٌ

تركتُ قدميَّ وراءَ البابِ ربَّمَا تدفعينَهُ

تركتُ شفتيَّ معلَّقَتَينِ في العتَمةِ

وجُنُونِي علَى السريرِ العريضْ.

تركتُ قصائدِي علَى المقعدِ ذِي المسندِ العَالِي

تركتُ لسانِي بينَ شفتيْكِ

وأَصَابعِي حيثُ يقودُهَا دِفْءٌ غامضٌ.

تركتُ خطايَ على جانبيِ الشارِعِ العُمُوميِّ

(لعلَّكِ تشتاقينَ إلى المشْيِ بلا هدفٍ)

تركتُ ساعتِي في درجِ الكُومُودِ

شهيَّتِي في مطعمِ الوجباتِ السريعةِ

ملابسِي فِي الدولابِ البُنِّيِّ

ونظارتِي بلا عيونْ!

أعرفُ أنَّ الرياحَ الأخيرةَ كنستْ ملامحِي

أعرفُ ما تفعلُهُ الرياحُ

ما يفعلُهُ المحبُّونَ حينَ تتغيَّرُ وجهاتُهُمْ

وأعرفُ أنِّي في غرفةٍ نائيةٍ..

محاطةٍ بالثلوجِ..

وبالوباءِ..

والأرقْ.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم