سمير درويش.. واستحضار ديك الجن

samir darweesh
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د.زينب العسال

“فأنتَ تعرفُ أنَّ قلبِي ليسَ شارعًا

وأنَّنِي لمْ أزرعْ زهراتٍ في حياتِي

بعدَ أنْ أخذتْنِي المدنُ وناسُهَا والعماراتُ المتشابهةْ!”

يحرص بعض الأدباء علي توثيق لحظة الكتابة الإبداعية لديهم. لعل البداية كانت مع الشعر، ومنه أخذت الرواية والقصة القصيرة، وغيرها من الألون الأدبية هذه الظاهرة. سمير درويش من الشعراء الذين يمسكون بتلابيب لحظة الإبداع، يبحث عن قصيدته فى صحوه ونومه، يترصدها كفريسة ثمينة، أو يلتقطها كفراشة مراوغة تستعصى على الإمساك بها، ينجح في اقتناصها، فنجدها في أكثر من قصيدة في ديوانه الجديد “ديك الجن”.

الهاجس الشعرى يباغت الشاعر، أو هكذا يبدو لنا، ثمة خروقات فنية تباغت الواقعي، وتحيله إلى لمسات فنية سحرية، رغم ما يحيط بالذات الشاعرة من حذر، وتحفظ وبيئة واقعية محبطة، قد تعطل لحظة الكتابة.

يردد الشاعر في أكثر من موقع تحذيره للمتلقى أن ما يكتبه ليس بالسهل، فعلي المتلقي كشف المعاناة:

لا أكتبُ القصيدةَ وأنا هائمٌ كالمجاذِيبِ

بل حينَ أمسِكُ مقبضَ بندقيَّتِي كقُطَّاعِ الطُّرُقِ.

القصيدة لا تأتي عفو الخاطر، إنها ابنة الصراع والأرق والتمرد، وهى مغموسة في الرؤى والمعاني والكنايات الجميلة.

ثمة صراع بين الشاعر وقصيدته من خلال إرث شعرى راسخ، يجله ويقدره، لكنه يتجادل معه، جدلية شعرية من مناظير مختلفة، ويبدو أن المنظور النفسى يهيمن على قصيدة سمير درويش.

يعيد الشاعر عبر عنوان ديوانه “ديك الجن” سيرة حياة، وقصائد الشاعر العباسى “ديك الجن الحمصي”، كشخصية متقلبة ومتمردة على السائد، ودعوته لحرية الإنسان، شخصية محيرة ومادة ثرية تناولها الباحثون من رؤى مختلفة.

لم يكتف سمير درويش باستحضار ديك الجن المتمرد، لكنه يستحضر شعر وشخصية الراحل “حلمى سالم” الذي قال للشعر كن فيكون.

الديوان يتخذ مجموعة من المشاهد الشعرية، تهتم بالبصري وتحتفي به، المقاطع السردية تذيل بتاريخ كتابة القصيدة، أو الإعلان عن زمن كتابتها، هذا ملمح تكرر لدى سمير درويش، تنبثق الصور الشعرية من بلاغة قريبة من المعيش الذى يحياه المتلقي، الشاعر لم يعد الرومانسى، فلم يعد يناجى ليلاه كما فعل أمرؤ القيس، أو يتغزل في مفاتنها كعمرو بن أبي ربيعة، أو جميل بثينة، أو كثيِّر عزة.

لم ينتظر الشاعر آهات الإعجاب من المتلقي، أو مشاركته اللوعة والأسى، كأننا أمام نص متصل تدثر في ديوان، يخرج فيه الشاعر إلى الطرقات والأزقة، يعاني ضجيج السيارات والزحام والتلوث البصرى والسمعي!

قصائد تحتفي بالذاتي، رغم أنها لا تبتعد عن الواقعي الذى يعبر عن المجتمعي، تنفتح على العالم الجمالي في بساطة ويسر، فلا تعقيدات ولا تشبيهات تراكمية تعقد المشهد، فالشاعر لا يبرز عضلاته في استخدام اللغة والتشبيهات والصور البلاغية، إن موسيقا الشعر تبتعث من الوجود الواقعي، تتجلي في الحركة الدءوب والايقاع الصادر من اصطدام الذات بالشعر، والبحث عن نص جديد يسرى في عروق شعر عانت من التكلس.

لا يمكن إغفال العلاقات التى يقيمها درويش بين تجربته الشعرية في ديوان “ديك الجن” والواقع، فقد حملت قصائده طاقات تعبيرية، وأفادت من الصور والألفاظ والإيقاعات المتنوعة بين الصخب والهدوء.

يهدى الشاعر ديوانه إلى حلمي سالم الذى يراه رب الشعر، الذى قال للشعر كن فيكون، لكنه يتمرد عليه رغم اعترافه بقدره، ويزيد، فيشبه ديوانه بديوان ديك الجن الشاعر المتمرد. وإلى سهيل وسيف في البدء والمنتهي ابني الشاعر يهدى ديوانه، هما لا يقرآن قصائده “ستكون القصائد إرثًا لولدين لا يقرآن، يفرحان فقط بالإهداءات العاطفية”، لكنهما الامتداد الوجودى لذات تخشى الموت، دون أن تحفظ قصائدها من النسيان.

ثم تأتي قصيدة “نسخة مني تداعب السحاب” لعادل سميح من ديوان “عزيزى الكونت دراكولا”، محملة بمقابلة بين نمطين من الحياة، فهى تمثل حركة الوجود.

هل يعارض ديوان “ديك الجن” هذه القصيدة؟

كان الشاعر يهدهد متلقيه، بينما سمير درويش يرى في المتلقى مغتصبًا للحروف، فهو يتلقي فى دعة واسترخاء، لا يشارك في خلق القصيدة، إنها الصيحة الأولي التى تنبه لمغزى الرفض والتمرد في قصائد ديوان “ديك الجن”. من يدخل خبيئة “درويش” الشعرية عليه أن يخلع كل ما تدثر به من قبل، يرتدى ذائقة جديدة تساعده على تجاوز ما طرح من قبل، أو علق في ذهنه.

إن قصيدة الشاعر تنتمى إلى رحلة عمرها الشعر كله، هي ليست ابنة سفاح، طفلة سفاح تبحث عن دفء الحضن، قصيدة تحفر بفأس على الأشجار، إنها خبيئة الشاعر التى لا يريد للمتلصص أن يراها قبل اكتمالها، يخشى أن يترك قصائده حبيسة الحاسوب أو ملقاة على أحد أرفف مكتبته، دون أن يطالعها المتلقي.

قصائده إذن “ليست قصائد والسلام” -على حد تعبيره-، لكنها نبض حياة وألم ومعاناة، تحمل عمقًا في الرؤية لباحث عن كنه الحياة وفلسفتها، وما هو مشترك بينه وبين المتلقي، هو يعيش لحظة الكتابة، ويسير في دروب وطرق، يقتنص القصيدة من اليومى والمعتاد.

“رجلايَ لا تزالانِ تعرفان بلاطَ أرصفةِ وسطِ البلدِ

وواجهاتِ محلاتِ الأحذيةِ والملابسِ الجاهزةِ

وفَرْشَاتِ الكُتُبِ

والشحَّاذينَ، وباعةَ المعسِّلِ، ودكاكينَ البيرةِ وكروتِ الشحنِ”.

تتسق القصائد مع المعتاد واليومى، الذى يصطدم بالندوب والشروخ النافذة في الروح، يرحل الصبى، وتظل البراءة باحثة عن روح تسكنها غير معكرة بماء الحياة الآسن:

“أريدكَ ألَّا تقولَ للعاشقاتِ إنَّنِي يائسٌ

لأنَّ مثالَ عاشقِ الستينياتِ ولَّى دونَ عودةٍ”.

و”لا أريدُ للشعرِ أن يكونَ رسائلَ شوقٍ

أريدُهُ منحوتةً على جدارِ الموسيقَا”

كيف لعاشق اليوم أن يستخلص ملامح محبوبته من زحمة أصوات السيارات والأغنيات الشعبية وماكينات الصرافة المعطلة دائما؟

يعلن الشاعر أن قصائده هي ابنة المعتاد واليومى، إلا أننا نلمح أصداء لقضايا كبرى، تتفلت من تكرار الشاعر:

“لا أريدُ دمًا على الخريطةِ

لكنَّهُ ليسَ موضوعَ القصيدةِ تلكَ”

و”ومنِ الدماءِ التي تفترشُ خريطةَ الشَّرقِ

لكنَّ هذَا موضوعٌ آخرَ لنْ أتطرَّقَ إليهِ الآنَ”.

إنه لم يكتب قصيدته للقضايا الكبرى، فالدماء تسيل على خارطة الشرق، فهل خاصمت القصائد الحداثية القضايا الكبرى؟

“كمْ مدينةً لا تحبُّ الشِّعْرَ أصلًا

لأنَّهَا مشغولةٌ بفرشِ الدِّماءِ على الخرائِطِ

التِي لنْ أتحدَّثَ عنْهَا الآنْ؟!”.

يعشق “درويش” القصيدة، ويهيم بها حبًّا تارة، ويبحث عنها كهاربة تارة أخرى، وحبيبة يشتاق للقياها، وباعثة لأحلامه.

سيطر حب القصيدة والهيام بها، على تلك المواقف الساخنة المتقدة بين الرجل والمرأة، فالأحاسيس ابنة هذا الاصطكاك بين بنية القصيدة والواقع المأزوم.

الشعرية تكمن في ذات صار هاجسها الإبداعي ملاحقة القصيدة، والتغني بها، والعشق النابع عن اصطياد معانيها، ومن ثم فالقصيدة -هنا- تجاوزت اللغوى، إلى الحالة الشعرية التى انتزعت نفسها من زيها القشيب، المهيب، الذى تعود عليه المتلقى، لترتوى من اليومي والمتداول في حياتنا، سواء في العمل أو الأزقة أو الشوارع أو المقاهي أو البيت أو السينما.. إلخ، وهو في كل ذلك يرسم لوحات تتراقص بين البياض والسواد، إضافة إلى المشهدية البصرية في تنسيق القصيدة، فالشكل هنا لا يقل أهمية عما تشعه البنية من دلالات.

كما يقول درويش فإن المشهدية شكل جمالي، ووصف بحياد ظاهرى، دون تورط في وصف أحاسيسه. لن يمنح المتلقي اختيار أحاسيسه هو حتى لا يتقيد بما ألزمه به.

يلعب “درويش” علي ذوبان الحدود بين الأشياء، فقصيدته تجمع أشياء لا رابط بينها، يأتى ذلك في انسيابية وبساطة، فالتماهي والتداخل يتيح للمتلقي نزع فكرة القطيعة الصارمة والحدية بين الأشياء. يبدو ذلك جليًا في قصائد الديوان.

سيظل الشاعر المحبوس في أحزان سمير درويش، منذ كان طفلًا يتنفس وحدته، ويحفر الأخاديد التى تعمق من رفضه لعالم يشعر فيه الإنسان بضعفه، يبحث عن انطلاقه مع قصيدة سابحة في عالم مشرع على الواقعى والذاتي والمثالي، بما يناوش ذاكرة قارئ ديوان “ديك الجن”.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم