د.أحمد الصغير
1- سمير درويش وإشكالية الجيل:
يعد الشاعر المصري سمير درويش من أقطاب جيل الثمانينيات الشعري في مصر، فهو من الشعراء الأحياء الذين منحوا نصهم الشعري كل الحياة الخالصة للشعر، قدَّم سمير درويش نفسه للحياة الشعرية في مصر، والعالم العربي منذ فترة الثمانينيات من القرن الفائت، من خلال النشر في الدوريات المصرية والعربية المختلفة، فقد جاء ديوانه الأول قطوفها وسيوفي، ط1 عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، أصوات أدبية عام 1991. (طبعة ثانية عام 2000)، موسيقى لعينيها/ خريف لعيني، الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1993، النوارس والكهرباء والدم، كتاب إضاءة 77 الشعري، عام 1998. الزجاج (قصيدة طويلة)، ط1 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، عام 1999. (طبعة شعبية عن مكتبة الأسرة عام 2002)، كأعمدة الصواري، الهيئة العامة لقصور الثقافة، أصوات أدبية عام 2002 .يوميات قائد الأوركسترا، ط1 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2007. (طبعة ثانية عام 2008(، من أجل امرأة عابرة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، أصوات أدبية عام 2009، تصطاد الشياطين، دار شرقيات عام 2011، سأكون ليوناردو دافنشي، دار الأدهم بالقاهرة 2012، وديوانه الذي نحتفي به اليوم الرصيف الذي يحاذي البحر، دار الياسمين 2013.
2- ما قبل القراءة:
يبدو لي أن الشاعر سمير درويش مختلف تمام الاختلاف عن أبناء جيله من الشعراء، لأنه تميز بإخلاصه للشعر كثيرًا، وبحثه وراء مجازات النص على أكتاف البشر الذين يمشون في شوارعنا الكبيرة، غير مبالين بالحياة في زهوها وألقها، فقط هم يريدون الحياة عندما يشعرون بالمتعة الطبيعية التي لا تكلف عناء الصخب والصناعة المزيفة.
كنتُ في حيرة من أمري وأنا أتابع تجربة الشاعر سمير درويش منذ بداياتها حتى اللحظة الراهنة، بحثتُ عنه في بداية التسعينيات، وقرأته قبل أن نلتقي في الواقع الافتراضي (الفايسبوك) حيث إننا لم نلتق في الواقع الحقيقي حتى هذه اللحظة (لحظة كتابة المقال). كنت أعيش مع نصوص الشاعر كثيرًا تتلبسني حالته، وأفكر كيف لسمير أن يكتب هذا النص الذي يمس جروح الشوارع والمباني والأرصفة؟ كيف يصنع من الهواء شعرًا؟ أسئلة كثيرة بسيطة جدًّا في قراءة النص الشعري لدى سمير، لكنها تصيبني بالخرس؟ في البحث عن إجابات وتأويلات حول نصوصه الشعرية، فهو يمتح من الأساطير كثيرًا والحياة الراهنة بشكل كبير. يمتلك نصًّا كونيًّا، يحلم بتغيير الذات الإنسانية التي حجَّمت أحلامها بلجام اليأس وضيق الأفق.
3ــ العنوان بوصفه نصًّا:
جاء عنوان الديوان في جملة إسمية مكتملة الأركان (الرصيف الذي يحاذي البحر) (مبتدأ + صفة + خبر) هذه البنية النحوية لا تمنحنا منطلقًا للقراءة الدالة، ولكن عندما نحاول فك شفرات العنوان من خلال ربطها وإعادة تركيبها مرة أخرى، نكتشف دلالات حية وعميقة، ملتحمة بتأويلات واسعة للعنوان من خلال استدعاء المكان الشعري (الرصيف من ناحية والبحر من ناحية أخرى) الذي حاول الشاعر أن يصدره لنا. ففي البداية الرصيف الذي يجلس ساكنًا متأملًا البحر دائمًا، وكأن الرصيف هو الوجه الآخر للبحر المقابل، مستمدًا منه غضبه، وسخطه وجبروته، وتمرده الدائم، وكأن الرصيف أيضًا جاء في صورة مفارقة للبحر الذي يجذب العشاق، والحزاني إليه دائمًا، فيعبرون إليه، وعليه (الرصيف) من خلاله وهو الذي يسبق البحر مباشرة وما بينهما سياج الدهشة الأولى.
وفي ظني أن الذات الشاعرة اتخذت من الرصيف ملاذًا للبوح بديلًا عن البحر. وقد لاحظتُ ذلك في بنيات النصوص داخل الفضاء الشعري للديوان.
4- شعرية المشهد:
يتكئ الشاعر سمير درويش في بناء القصيدة على المشهدية الشعرية، وأعني بها تلك الروح التي تبحث داخل النص عن نفسها في وسط الجموع البشرية التي تبحث عن نفسها أيضًا، وكأننا أمام أسطورة لا تنتهي أبدًا، أرواح تبحث عن أرواح وذات تبحث عن الأخر والآخر الذي يبحث عن الآخر.. إلخ. فيقول في النص الأول “نوم”:
“الدماءُ البيضاءُ تنحلُّ علَى الإسفلتِ
قِطَعًا صخريَّةً وشموسًا صغيرةً،
والوجوهُ تنفثُ دخانًا غبيًّا،
وحصًى،
ودرَّاجاتٍ ناريَّةً مضمَّخَةً بألوانِ العَلَمِ،
وشلالاتِ مياهٍ كاويَةْ.
أشجارُ الفيْكَسَ شهودٌ علَى أكتافِ الشارِعِ
تكتُبُ، ترَى، تدمَعُ، تبْكِي، ويُغْشَى عليْهَا،
والبناياتُ القويَّةُ تؤمِّنُ السواعِدَ،
والبنادِقَ،
وأغطيةَ الرأسِ الحمراءَ والمموَّهَةَ..
فيَا طالِعَ الشجرَةِ
خُذْنِي إلَى سماءٍ خاليَةٍ مِنَ الطَّائِرَاتِ
لأرتاحَ قليلًا!
4/ 5/ 2012″.
جاءت القصيدة الفائتة في مجموعة من المشاهد المركبة والمتداخلة والمتناقضة أيضًا، تبدَّى ذلك من خلال اتكاء الشاعر على تفريغ المشاهد التقليدية وإعادة تركيبها الشعري، في منظر الدماء الذي غطى الإسفلت، وهنا إشارة واضحة للشهداء والقتل المجاني أيضًا الذي تمارسه السلطة السياسية في العالم الثالث المتخلف، وبعض بقايا أوروبا أيضًا، المشهد الثاني هو صورة الوجوه التي تتصاعد من حناجرها أدخنة الظلم والقهر والموت اللانهائي، أشجار الفيكس التي تستمد منها الذات الشاعرة الأمل والصمود نحو الوصول للحرية والعدالة، استدعاء أفعال مضارعة بعينها لتخرج من دلالتها النحوية إلى دلالات بلاغية مشهدية تعتمد على الصورة المتمردة الأكثر طزاجة وحداثة، فنلاحظ (تكتب، ترى، تدمع، تبكي، ويغشى عليها) كل فعل من هذه الأفعال يحمل مشهدًا مختلفًا عن الفعل الذي قبله أو جاء بعده. اكتنز الشاعر فيه الكثير من الأحداث والمعاني المباشرة التي يمكن أن تسهم في ترهل النص، فجعل سمير من نفسه جرَّاحًا في قص ومحو الزوائد المشهدية التي لا تضيف جديدًا. يدخل النص في عبثية مدهشة، عندما يستدعي “فيا طالع الشجرة”؛ فيستدعي العقل النخبوي صورة مسرح العبث عند الأوربيين والشرقيين وبخاصة توفيق الحكيم، في مسرحيته المعروفة وهو يقول (يا طالع الشجره هاتلي معاك بقره تحلب وتسقيني بالملعقة الصينى).. وكأن توفيق الحكيم يخبرك بأن العبثيه من أصول الفولوكور المصرى.
يتماس سمير درويش مع العبقري توفيق الحكيم في الجنوح إلى اللامعقول في الأدب، وأعني الشعر هنا، لأن سمير يتكئ على خلق ذات حالمة بالواقع العبثي الذي نعيشه نحن الآن، فالراهن الذي نحياه جميعًا ما هو إلا عبث وفوضى خلَّاقة تعتمد على التناقض في البناء والرؤية والوظيفة. وكأن الذات تحلم بسماء خالية من الدماء التي تصنعها الطائرات على الأرض. تتجسد شعرية سمير درويش في هذا النص الماتع في حقيقة الأمر، فقد عايشته كثيرًا مع الشاعر، وتملكتني روحه الخالصة.. سيظل سمير درويش واحدًا من أهم شعراء جيل الثمانينيات الشعري، من خلال إنتاجه الشعري ومحبته في خدمة الثقافة المصرية والعربية.
ليتني كنت بينكم اليوم أحبائي في مصر الشعراء والفنانين والنقاد، كنت سلمت عليكم واحدًا واحدًا، ونحن نحتفل بديوان سمير في محبة وإخلاص.