الثقافة المؤثرة في حياة النهر

hamdy hashem
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. حمدي هاشم

يتزايد الاعتقاد في تميز جينات المصريين من أثر طفرة حياة النهر، منذ ملايين السنيين، ولا يسقط ذلك عن بقية سكان حوض النيل بصورة أو بأخرى، وليست صدفة، مكانة مصر في قلب أفريقيا النابض بموقعها الجغرافي الاستراتيجي، والذي فتح الشهية لمطامع الدول الاستعمارية والصراع بين القوى الدولية! هذه الجينات المشبعة بصفات القلب الذي يسكنه الإله الواحد، والتي تنتفض مع تناقص مياه المنابع بقوة الذود عن نهر النيل (هوية الوطن)، هذه الحضارة المصرية منارة المعرفة الإنسانية والتقنيات العمرانية، لآلاف السنيين، وسط جغرافيات تسبح في الظلام والتخلف. لذا هراء ما يدعيه الغرب بأنهم الجنس الأعلى وأصل العقل البشري بل أصل الحضارة! بينما تظل أفريقيا في الجغرافية الجيولوجية موطن الحضارة المصرية (المتفردة دون غيرها بعلم المصريات)، إنها حضارة نهر النيل المقدس!

تتلقف المعارف الدنيوية مقولة “هيرودوت” (مصر هبة النيل)، رغم ما يشبوها من تحيز لفعل الطبيعة على حساب أثر الإنسان في الجغرافية الحضارية، والتي ناهضها الدكتور “سليمان حزين”، شيخ الجغرافيين، لأنها تتكئ على قدم واحدة، وأهملت أن حضارة مصر “هي ثمرة جهاد الإنسان على الأرض الطيبة”، التي جلب لها سليمان العدل بمقولة “مصر هبة المصريين”! وقد حذر المفكر الجغرافي الاستراتيجي “جمال حمدان” مبكراً من التحديات المستقبلية التي قد تواجه مصر بسبب النيل! مما يستدعي مغزى تاريخي لخطة تعطيش مصر، عرضها قائد الحملة الصليبية البرتغالية (1513) على ملك الحبشة، تقضي بتحويل النيل الأزرق (النهر الخائن باللغة الأمهرية) ليصب بالبحر الأحمر، فيضرب الجفاف المماليك ويكسر شوكتهم، بنفس وسيلة ضرب طريق التجارة البري في مقتل برأس الرجاء الصالح!

سجلت الولايات المتحدة ورقة ضغط (سياسية مائية)، منذ ساهمت في اختيار موقع سد النهضة الإثيوبي من مسح جوي بمنحة أمريكية (1964)، دون إخطار مصر حسب الاتفاقية (1929)، بل مولت الاستشارات والدعم الفني لسد الألفية وسدود أخرى مقترحة! وقد دخلت إسرائيل بذكاء الاخطبوط في الإدارة وتأمين السد، في محاولة لاقتناص حصة من مياه النيل! الأمر الذي يقتضي اصطفاف المصريين حول الحق في حياة النهر، وعلى الحكومة تدشين برنامج ثقافي متخصص لتنمية الأهمية بنهر النيل على المستوى الإداري والقطاعي والتنموي بالحكومة والدولة، وذلك لتحقيق الاستدامة المائية في البلاد، والمحافظة على نوعية مياه النهر وحمايته من التلوث، من أجل مستقبل أفضل.

لذا تحتاج علاقة المصريين بمياه النيل إلى مراجعة دائمة ومستمرة، بعد تناقص متوسط نصيب الفرد عن خط الفقر المائي العالمي (1000 م3)، بنحو النصف هذا العام (2025) وسط توقعات بتزايد الضغوط السكانية والبيئية بحلول سنة (2030). أي أن الفجوة المائية تتسع وتزداد معها ضغوط مشكلة ندرة المياه، وبذلك ليس للمصريين إلا تعلم ثقافة الاستخدام الأمثل للمياه وتعظيم الاستفادة من كافة المصادر المتاحة، مع توقعات بنقص حصة مصر بمقدار (7 مليارات م3)، نتيجة تشييد السدود الضخمة على روافد دول المنبع لتوليد الكهرباء وحجز المياه للزراعة الدائمة والتوسع في مساحات الغابات المروية. وقد يمكن تعويض ذلك الفرق (وليس سد الفجوة المائية)، باستكمال قناة جونجلي في جنوب السودان، ولكن لم تغادر إسرائيل المشهد من أجل حصة من هذه المياه، مقابل مبلغاً مقطوعاً لدول حوض النيل!

وللمشكلة السكانية دور أصيل في الأزمة بين دول حوض النيل، ولاسيما بالدول الأربع الكبرى وهي: أثيوبيا والكونغو وتنزانيا وكينيا، التي تشكل نحو (85%) من جملة سكان دول المنبع، أي حوالي (50%) من إجمالي سكان دول حوض النيل مجتمعة. ومن سوء الطالع أن الأمطار تشهد اختلافات في الكمية وأوقات الهطول بسبب التغيرات المناخية، مع تزايد عدد السكان المستمر، مما يعكس الخوف من المستقبل في سرعة تأمين وتمويل خطط ومشروعات التنمية. وبذلك كانت تتطلع دول المنبع لأموال الهيئات والدول المانحة، نحو (20) مليار دولار أمريكي (2010)، وحرمان مصر والسودان منها. وقد كانت قلة أمطار مصر وراء اعتمادها الرئيسي على حصتها الثابتة من مياه النيل، وهي ستعاني من مشكلات ندرة المياه وتدهور البيئة مع وصولها إلى نحو (160) مليون نسمة/ عام (2050).

من ناحية أخرى، فقد تغيرت باستقلال جنوب السودان الجغرافية السياسية، وانقلبت إسرائيل للسيطرة على مقدرات سد النهضة (العقبة الكبرى)، ونشرها منظومة صواريخ لتأمينه، بل وسوست لكل من رواندا والكونغو بإقامة ثلاثة سدود لإحكام السيطرة على المنابع الاستوائية بعد المنابع الإثيوبية لنهر النيل! والتلاعب بدول المنبع في تخزين مياه النيل وبيعها لمن يدفع! وهذه أنشطة استخباراتية بمرجعية سفر الخروج التي تربط رفض فرعون إطلاق سراح بني إسرائيل بعقاب إلهي في تحويل نهر النيل وكل الماء إلى دم! ويظل السد العالي مبعوث الإرادة المصرية التي رفضت تمويله كل من الولايات المتحدة وبريطانيا، وصمام الأمان بالمخزون المائي الاستراتيجي، ومقياساً للإنذار المبكر بمنسوب الجفاف في التدفقات من سد النهضة. وماذا لو جفت منابع نهر النيل؟ فهل ستحيّ الأمطار الغزيرة الأودية الجافة بالهضبة الجنوبية للصحراء الشرقية، لتبعث حياة ثانية للنهر، بحسب سيناريوهات جيولوجية مرتقبة؟!

ويبقى هدف نقطة التوازن بين الأمن القومي للبلاد وتعظيم استخدامات المياه وتحسين جودتها، مرتبطاً بأسلوب الإدارة المستديمة للمياه، التي تتطلب قدر كبير من الكفاءة والتكنولوجيا المتقدمة في إطار من الحوكمة لإدارة المياه. وليست القضية تحقيق قدر من النجاح في تخفيف ندرة المياه، وإنما التغلب على الفجوة الغذائية وآثارها الواسعة بالدول الفقيرة ومنها مصر. ومن هنا يتطلب الأمر البحث عن مصادر جديدة للمياه، وضرورة تحلية مياه البحر بعد أن تطورت تقنياتها وكمياتها المولدة. ومراجعة انتشار ملاعب الجولف وحمامات السباحة الخاصة، وسلوكيات الأفراد في غسيل السجاد والسيارات والأرصفة والطرقات وري الحدائق بنظام الغمر، حيث يقدر استهلاك تلك الأنشطة والسلوكيات بما يزيد على (5%) من إجمالي حصة مصر المائية، وذلك مأخذ للإثيوبيين نحو إهدار المصريين للمياه!

ويمكن استرداد كميات هائلة من مياه حشائش ورد النيل بالتخلص النهائي منها، وكذلك خفض الفاقد من بحيرة ناصر (حوالي 10 مليارات م3 سنوياً)، ومن فواقد محطات وشبكات مياه الشرب. ناهيك عن الاستفادة من نتائج أبحاث جلب السحب وتعزيز الأمطار وتعديل الطقس! وفي حقيقة الأمر، لابد للحفاظ على المياه من تفعيل المسئولية الاجتماعية بالمشاركة الثقافية الجماعية. وذلك باستخلاص برنامج قومي لتنمية الوعي المائي، ينفذه شباب مصر بنظام الخدمة العامة، من هؤلاء الذين يطبق عليهم الإعفاء من التجنيد سنوياً. ويستهدف، أصحاب المقاهي والمطاعم والورش الحرفية وحراس العقارات وعمال النظافة في البيوت ودور العبادة وغيرهم ممن لهم دور مؤثر في ترشيد معدل استهلاك المياه. وذلك بحشد برمجيات الثقافة المؤثرة في حياة النهر، وتنمية الأهمية بمياه النيل، والحفاظ عليها من التلوث.

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم