صنع الله الذي أحسن كل شيئ كتبه.. لا زلت أكتب وفي نفسي صدى من “نجمة أغسطس”!

إبراهيم فرغلي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
إبراهيم فرغلي
هناك كتبٌ أحببتها كما يُحب المراهق؛ ذلك الحب الخاطف من أول وهلة. شغفٌ لا تفسير له، وتعلّقٌ يجعلني أتوقف عند كل جملة كما كنت أتوقف أمام كل لفتة من قصة الحب الأول. كنت أقرأ كما كنت أحب: بارتباك مُسكر وشغف لا يفسَّر وبكامل قلبي.
وأظن أن كل تجربة قراءتي لأعمال صنع الله إبراهيم جاءت على هذا النحو، وربما أن استعادة تجربة قراءتها أيضًا تذكرني بتلك المشاعر. ولو حاولتُ مقارنة درجة قوة هذه المشاعر بين أعمال صنع الله إبراهيم نفسها، فربما تحلُّ رواية “اللجنة” في المقدمة، لأنها كانت أول عمل قرأته له، تليها “نجمة أغسطس” التي افتتنتُ بها كما يُفتن العاشق، افتتانًا حرفيًّا.
ولكني لم أتوقف لأفهم سر هذه المشاعر من قبل، وربما حتى بعد أن أتممت قراءة كافة أعماله، باستثناء “شرف” التي لم يواتني الحظ لقرائتها بعد، ولا أعرف لماذا.
لكن أعتقد أن أعمال صنع الله إبراهيم بها شيء مدهش، ثمة لمسة من الغرابة التي تذكرنا بالطريقة التي قد يدهشنا بها كافكا في أعماله. أن يقدم تجربة تبدو عادية جدًّا، لكنها في الحقيقة تتضمن شيئًا شديد الخصوصية. شيئ يشبه أن تعرف رجلًا أو صديقًا يبدو متجهمًا بارد المشاعر، لكنه يفاجئك بما يُخفيه من مشاعر الحنان والرقّة التي لا يبديها لأحد. هذه حالة يمكن وصفها في النص نفسه بأنه يبدو محايدًا، يرصد العالم بعين محايدة، بينما في الحقيقة، ثمة انحياز ضمني يتراكم في طبقات متوالية من الوعي الذي يتولد من خلال سلوك الراوي أو الرواة.
وعلى أي حال فلم تتح لي فرصة التعرف على طبيعة التناص بين رواية “اللجنة” وبين رواية “المحاكمة” لكافكا إلا بعد قراءة كافكا في وقت لاحق على قراءة اللجنة. لكنها بقيت نصًّا غريبًا، أو بالأحرى غير مألوف في فكرته وتناوله وصولا لنهايته، والغرابة هنا نتاج الجدّة أو أساليب التجديد التي طرحها النص. فموضوع النص يجمع بين الواقعية وبين ما يمكن وصفه بواقعية جديدة تفترض حدثًا يشبه المحاكمة لكنه ليس كذلك بالضبط، ويتضمن مشاهد ساخرة مثيرة للضحك من سلوكيات البطل خلال وقوفه أمام اللجنة وتصديه لملاحظاتها واستفساراتها. بالإضافة للأجواء الكابوسية التي تغلف المجال العام لهذه المحاكمة الغريبة. والمهم هنا أن قراءة “اللجنة” كانت سببًا لقراري أن أقرأ كل ما يمكن لي قراءته من أعمال صنع الله إبراهيم.
وبحثت عن أعماله آنذاك فاقتنيت النص الشهير “تلك الرائحة” الذي رسخ لدي المشاعر التي وصفتها قبل قليل عن تناقض التجهم مع رقة المشاعر الباطنية. التجهم الذي يعادله تقشف اللغة والوصف الواقعي إلى حد الفجاجة من دون مبالغات أدبية أو زخرفة لغوية، بطريقة تترسب من خلالها المشاعر والأفكار تدريجيًا حتى تصل لذروتها. طبعا مع الانشغال بالأساطير والنمائم التي حامت حول النص، فهو النص الذي كتب عنه يحي حقي واصفًا انزعاجه من بعض العبارات التي أصابته بالتقزز، على حد تعبيره، بينما كان موضع إعجاب كبير ومطلق من يوسف إدريس. ولكن هذه القصة الطويلة، أو النوفيلا، كانت، منذ أولى قراءتها، تنير لي مساحة جديدة تماما للكتابة؛ حيث كنت أتطلع آنذاك لكتابة القصة ووجدت في هذه القماشة السردية غواية كبيرة.
وخلال تلك الفترة صدرت روايته الأحدث “ذات”، والتي أنتجت أو جسدت أيضًا شكلا سرديا لم يسبق أن رأيت مثيلًا له، من خلال التوازي بين التخييل التام في فصل، والتوثيق بالاتكاء على الأرشبف ومانشيتات الصحف في فصل لاحق. فهذا البناء الغريب خلق حالة أو ربما حالات متباينة لقراءة النص.
فقد قرأ البعض كلا المكونين؛ أي التخييل والتوثيق، بشكل دقيق للوصول إلى ما يبتغيه المؤلف، وكنت من بين هؤلاء القراء. مع ذلك، ففي بداية القراءة، ساورني شعور بأنني يمكن أن أقرأ الفصول التخييلية فقط من دون الحاجة لقراءة الوثائق، لكني تبينت أن ذلك لا يصل بنا لشئ لأن الحالة التي تتولد بسبب توالي قراءة هذه العناوين هي التي تُدخل القارئ في الحالة النفسية والاجتماعية التي يعيشها أبطال العمل وخصوصًا البطلة الرئيسة “ذات”. وهكذا وجدت أن النص لا بد أن يُقرأ كما أراد له مؤلفه.
لم أقرأ “نجمة أغسطس” إلا في عام 1997 حسب ما أذكر، ربما لأنها لم تكن متاحة، وحين توفرت وقرأتها أدركت أنني وقعت في غرام هذا النص حتى أذناي. نعم، وقعتُ في غرام “نجمة أغسطس” كما يقع المراهق في حبّه الأول: لا أعرف كيف ولا لماذا، لكنني وجدتني مأخوذًا بالكامل.
كان الإيقاع السردي أول ما أغواني، بشذراته الجافة الصارمة، بلغته المتقشفة التي لا تساوم، في ظل انضباط داخلي صارم. ثم تسلل إليّ الجو العام لمنطقة السد العالي: جفافها، عزلتها، ثم البشر المعلقون بين مشاريع قومية جبارة وشقاء فردي يومي لا يُرى.
كان هذا العالم المدهش يتشكل تدريجيًا، وصولًا إلى المساحة النائية المرتبطة بعلاقة الراوي بتلك الفتاة الروسية التي تظهر في النص ككأس ماء بارد في صحراء قاحلة. لم تكن مجرد امرأة أجنبية فقط، بل تجسيدًا لزمنٍ آخر، أو بالأحرى لأكثر من زمن، لعلاقة مثقلة بالتاريخ والحلم والإخفاق، بين عالمين أو ثقافتين متقاربين ومتباعدين في نفس الوقت.
أما الفصل الثاني فكان الدرس الحقيقي. فصل التشظي. فصل القصّ المتناثر الذي لا يُروى دفعة واحدة، بل يُلتقط كما تلتقط ذاكرة مُنهكة صورًا من حياة مضطربة. شعرتُ أنني أمام سرد ما بعد حداثي مصري، لا يقل جسارةً عمّا قرأت لاحقًا في بورخيس أو بول أوستر أو كالفينو. طبعا لاحقا سأفهم أيضا أن الأمر يخضع لبناء سردي يستلهم طبيعة بناء السد العالي. لكن أظن أن ذلك التشظي علّمني شيئًا ما. أو أنار لي دربًا من دروب الكتابة على نحو أو آخر. تعلمت مثلا كيف أُخفي وأُظهر، كيف أترك فراغًا للقارئ ليكمل النص بنفسه. كيف أبحث عن سبل لبناء سردي غير تقليدي يؤسس علاقة بين الشكل والمضمون. ولعلني لا زلت حتى اليوم، بعد أعوام من القراءة والكتابة، أكتب وفي نفسي صدى من “نجمة أغسطس”.
تعرفت على صنع الله، الأستاذ طبعًا، بشكل شخصي، على ما أذكر، في مطلع عام 1998. وتبينت مع أولى لقاءاتي به أن شخصيته تشبه كتابته. لا يقول لك شيئًا مباشرًا يخص شخصه. ويغلف رهافته بما قد يبدو برودا أو لونا من تحييد المشاعر لا يخلو من دماثة مع ذلك. يفضل أن تتحدث عن نفسك إن شئت، لا أن تبدي اهتمامًا مبالغًا فيه بشؤونه. فأنت في نظره دائما: الأولى بالرعاية.
خلال تلك الفترة أصدر كتاب “يوميات الواحات” وهي تجربة يوميات السجن التي كتبت على ورق السجائر وتم تهريبها خارج السجن في وقت لاحق. وكانت رغم طابعها التوثيقي تملك روحا أدبية لعلها نتاج الأسلوب الذي رسخه صنع الله في أعماله التي تمنح الإحساس بأنها مزيج من توثيق يوميات في طابع أدبي بحت.
عندما تعرفت عليه كنت عائدا لتوي من مسقط بعد رحلة عمل استمرت تقريبا ثلاث سنوات، لكنها جاءت امتدادا لسنوات أخرى في الصبا وفي المراهقة عشت خلالها في السلطنة. لكن هذه المعلومة لم يعرفها عني إلا في وقت لاحق ربما في منتصف عام 1999.
اتصل بي وأخبرني أنه يحتاج إليّ في موضوع وعندما ذهبت إليه في شقته التي يسكن فيها مع زوجته السيدة العظيمة، ليلى، رحمة الله عليها، وجدته يستقبلني وفي يده جهاز تسجيل صغير، وقال ضاحكًا أنه سوف يستجوبني. كان يكتب رواية “وردة” التي تدور أحداثها في سلطنة عمان، وتتناول بعض أحداثها فترة ثورة ظفار في نهاية الستينات.
كان هناك جانبًا سرديًّا يدور في الزمن المعاصر، وأراد ان يتعرف على بعض التفاصيل الخاصة بالحياة اليومية في مسقط. طبيعة الانتقال بوسائل النقل العامة، الطباع العامة للعمانيين والسلوكيات، الحياة اليومية للشباب، قيمة بعض الأغراض، أو قيمة التنقل باستخدام سيارات الأجرة أو وسائل النقل العام وغير ذلك.
عندما صدرت الرواية أسرعت فورا لاقتنائها وقرائتها، ليس فقط بفضول البحث عن مواضع استعانته بي، ولكن بسبب توقي للتعرف على الكيفية التي رأى بها مسقط، فهي بالنسبة لي موطن طفولة ولدي محبة كبيرة لها ولأهلها. وأظنني قرأتها بانحياز شديد من البداية ولم أتفهم بعض الانتقادات التي وجهها اليها بعض الكتاب.
وأدركت آنذاك أنه بات كاتبًا من كتابي المفضلين، من دون أن أعود لقراءة “شرف”، رغم ذلك، ولا أعرف متى سأقرأها.
ثم ثارت ضجة كبيرة في القاهرة خلال الدورة الثانية لجائزة الرواية العربية التي كانت قد انطلقت في القاهرة وفاز بها في دورتها الأولى الكاتب الكبير عبد الرحمن منيف. أما في هذه الدورة فبعد أن أعلن اسم صنع الله فائزا بها، بعد شائعات كثيرة ونمائم وأخبار شاعت طرحت أسماء أخرى من الكتاب المصريين، وصعد صنع الله للمنصة بالفعل، بعد فاصل من التصفيق استمر لدقائق طويلة. بدأ في إلقاء كلمة بشكل هادئ، تصورنا أنها رسالة شكر للقائمين على الجائزة، ثم تصاعدت تدريجيًا إلى خطاب ثوري رافض لسياسات الدولة ونهجها، وأنه بناء على ذلك يعلن رفضه للجائزة وسط تصفيق حاد من الجمهور، الذي ظل يصفق له لدقائق عديدة في الحالتين!
وتتابعت الأعمال في تلك الفترة. “أمريكانلي” التي استقبلت استقبالًا كشف طبيعة الشعبية التي يحظى بها الكاتب الكبير، وأيضًا لعدد من مفارقات العنوان نفسه الذي يحيل إلى أمريكا من جهة، وهو بالفعل يدور حول أكاديمي مصري يذهب للتدريس في أمريكا، ولكن أيضا العنوان يمكن قراءته “أمري كان لي” مما يكشف نزوع النص لبحث وتأمل العلاقة بين الشرق والغرب وفكرة التبعية للغرب، وهو ما يبدو أنه سيكون مثار تركيز واهتمام منه في أعمال أخرى مثل “العمامة والقبعة”، و”الجليد”، و”برلين69”. التي استلهم فيهما تجربتي دراسة وسفر له في كل من روسيا وبرلين.
أدركت أنه رسخ أسلوبا خاصا أمكن له به أن يتناول أفكارا متباينة بما فيها الرواية التاريخية. كما أنه قدم في الفترة التي أعقبت “أمريكانلي” رواية “التلصص”، التي بدت كمزيج من التخييل والسيرة الذاتية، واختار للبطل أن يكون في عمر الصبا ما منح النص لونًا من العفوية والطزاجة، إضافة إلى نزعة تجريبية في الأسلوب من خلال تكثيف الجمل بحيث لا تزيد أي جملة عن ثلاث كلمات، مشكلا إيقاعا منتظما للنص.
ومع الأسف، حال سفري إلى الكويت من التمتع بعلاقات كثيرة كانت تجمعني بأصدقاء وأحباب في القاهرة، خصوصًا علاقتي بأستاذ صنع الله، لأنه كان يسكن، آنذاك، قريبًا من سكني الذي سكنت فيه عقب زواجي، في مصر الجديدة، كما أنه الكاتب الوحيد الذي حضر حفل زفافي مع السيدة العظيمة الأستاذة ليلى، رحمة الله عليها. بالإضافة إلى أنني أجريت معه، بطبيعة الحال، عددًا من الحوارات الصحفية نشرت في مواضع عديدة، وأشهرها الحوار الذي نشر في ملحق النهار البيروتي عقب رفضه لجائزة الرواية.
ولعل الكتاب الثاني الذي تأخرت في قراءته من بين أعماله مع “شرف”، هو رواية “بيروت بيروت”، ولكني قرأته قبل عدة سنوات على أمل محاولة فهم “لوغاريتم بيروت”، من خلال كتابة عين خارجية عن لبنان ترى الأمر من منطقة محايدة تمامًا. وربما يكون وضح بعض الأشياء لكني تبينت أن المسألة عويصة جدا في كافة الأحوال.
أقول أن ظروف سفري إلى الكويت باعدت بين فرص اللقاء به للأسف خلال السنوات الأخيرة، لكنه يظل صديقًا، ومعلمًّا وأستاذا، والأهم: كاتبًا استثنائيًّا كبيرًا، خصوصًا على مستوى الأسلوب، ونموذجًا للكاتب المستقل تمامًا من البداية وحتى آخر كتاب. لم ينتم لمؤسسة أو جهة وعاش متفرغًا للكتابة بشكل تام، وهو ما ساعدته على تحقيقه السيدة ليلى أيضا.
كاتب عظيم وإنسان عظيم، بلا أي شك، وأشعر بأنني كنت محظوظًا أنني تعرفت عليه، وأنه كان بين أبرز روافد إلهامي في الأدب والحياة.

مقالات من نفس القسم