“وتسيل دماؤك أنهارًا”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
غنيت لأول مرة أغنية سعيدة في الليلة التي تسبق هروبنا، ولم أكن أعلم أنها آخر أغنية لي في الحياة، حين طعنوني من الخلف، لم يتركوا لي حتى فرصة في معرفة قاتلي
عبد الكريم الحجراوي 
لم تكن تلك الجثة الملقاة في هذه الفلاة الواسعة سوى جثتي، وهؤلاء الصبية الذين اكتشفوا مكاني في غفلة من الزمن سوى فلذات كبدها. فآه يا ليلى لو تعلمين ما مر من زمن حتى تُرمى جثتي في هذا المكان الموحش بالنسبة للبشر، قُلتِ لي: “إننا سنكون معًا إلى الأبد، انتظرني أمام محطة القطار في نهاية الأسبوع، سنهرب معًا، إلى بلاد الله الواسعة، وهناك لن يعرفنا أحد ونعيش في جنتنا الموعودة”.
….
كنت على أحر من الجمر لأن ينتهي هذا الأسبوع فأصل إلى الموعد المحدد، لنحقق حلمنا، لم يتركوا لنا فرصة إلا الهرب من مشاعرهم المتبلدة وقلوبهم العمياء، لم أكن أعلم أن قبل نهاية الأسبوع ستكون قد انتهت حياتي، وسأفارق تلك الدنيا التي كنت أحيا فيها معك ومن أجلك. أذكر هذا اليوم جيدًا 6 أغسطس 1997 ذلك اليوم الذي فارقت فيه روحي جسدي، فأخذت روحي في العويل بعدها وأقسمت أن تحفظ جثتي ثم طارت في موعدنا لتراكِ، كنت تصرخين وهؤلاء القساة قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة يجذبونك من شعرك على رصيف المحطة، لم تكوني تعلمين أنهم قتلوني قبل المجيء إليك بساعات، ابتسمت روحي وأنت تصرخين باسمي “جابر أنا شايفاك يا جابر”، لم تكن عارهم أنت حتى يغضبوا لهربك معي، ولم أكن أنا ذا شأن في قبيلتهم، ولكن أعرف الشيطان الذي سلطهم، لا يخلو العالم أبدًا من هؤلاء الأوغاد.
حضرت روحي فرحك الذي زعموا أنه كذلك، كانت كالنهر عيونك في وقت فيضانه، لقد رأيت صراختك وهي تشق كبد السماء، الجن والملائكة كانوا غاضبين وروحي كانت معهم ثكلى تنوح، هل هناك من يرضى أن يُفعل في أهله وعروسه هكذا؟ كل يد شد وثاقها برجل غليظ بينما هَمّ هو في فعلته، أي لذة أخذها عندما فعل ذلك وهو يرى الرغبة والشبق ينزل من عيون “ممسكيكِ” كالشالات على جسدك البض الناعم كالحرير، وهل كلما احتاج إلى جسدك سيفعل هذا؟ روحي لا تطيق أن ترى هذا المشهد مرة أخرى، “أعطيه الجسد يا ليلى وخلي الروح لي” هكذا همست إليك فسمعتِ همسي، أنت لا تعلمين شيئًا عن كم العذاب الذي عاشه كلما وقع عليك، وأنت تائهة في ملكوت آخر.
في المرة الثانية فرح حين مس جسدك ولم تُبدي أنت اعتراضًا، ظن أنه قد كسرك بفحولته التي ليس لها مثيل، ولكنه سرعان ما أدرك الحقيقة، كان كأنه يضاجع نفسه، كان أشد ما يحيره هو اهتمامك بنفسك وبجسدك، لم يكن يعلم ذلك المسكين أنك قد وهبتني الروح والجسد معًا، وأنا قد فعلت ذلك وحافظت على جسدي وروحي لم تتركني للحظة واحدة.
كنت أغني وأنا أسير على الطريق المؤدي إلى منزلي المبني بالطوب اللبن وأغلب بيوت قريتنا كذلك، ولكن ميزة منزلي عنهم أني جعلته على بحر النيل، كان مكونًا من غرفتين وجعلت أمامه سقيفة من جريد النخل، شبت النار في قلبي وكادت أن تحرق الدكة التي أجلس عليها حين رأيتك أول مرة، آه أنت الوحيدة من بينهن التي استطعت خطف قلبي من أول نظرة حين وقعت عيني عليك وأنت تحملين الجرة فوق رأسك وقد وضعتِ قطعة من القماش بشكل دائري لتحمي رأسك من قسوة الفخار، نزلت بهدوء ورفعت عباءتك السوداء حتى ما قبل ركبتك، أملت الجرة في البحر حتى امتلأت ثم جررتها على سطح الماء حتى وصلت البر، فهمت إحداهن برفع الجرة على رأسك، كما وددت لو أني حملتها عنك، جعلتني لأول مرة أفكر في نفسي، أعلم أن حكايات كثيرة وقصص شتى تُروى عني، ولم أكن مهتمًا بتكذيب أو تصديق أي واحدة منها، قالوا إني تركت عز أهلي وهجرت مساكن القرية واعتزلت البشر وجئت إلى هذا المكان، من أجل ألا يرى أحد الغجريات وهن يدخلن إلى مخدعي، وزعموا أن عروس النيل قد سحرتني وتزورني ليلًا، وقالوا بأن هناك جنية تعاشرني وطلبت مني السكن في هذا المكان بالتحديد الذي قتل فيه أخ أخته منذ زمن وترك طفلة رضيعة تبكي ورحل، هكذا سمعوا من آبائهم، قالوا بأن نرجيلتي لا تخلو أبدًا من الحشيش والبانجو الذي أضعه على حجرها، لذلك أنا لا أكف عن الغناء والضحك ولا أفيق من سكرتي أبدًا. وأخيرًا قالوا بأنني مجنون وكم ارتحت لتلك التهمة، لكنهم لم يكونوا يعلمون أن جنوني الحقيقي لم يكتمل بعد، فقد اكتمل جنوني حين رأيتك.
….
يقولون إن صوتي احتكر مزامير داود بداخله، وكثيرًا ما كانوا يسألونني لماذا أغني أغانٍ حزينة، فكنت أجيبهم بأن الناس تحب الأغاني الحزينة، وأن قلبي مهيأ للحزن منذ ولدته. حينما كنت صغيرًا كان صوتي قبيحًا جدًا إلى أن دخلت فراشة في فمي وأنا أغني، فشعرت بغصة في حلقي، وحين فردت أجنحتها داخل حنجرتي شعرت بصعوبة في التنفس، ثم طارت بداخل جسدي، فتحت لها فمي حين علمت بحياتها حتى تخرج، ولكنها لم تفعل ذلك أبدًا وما زالت تطير بداخلي حتى الآن.
….
غنيت لأول مرة أغنية سعيدة في الليلة التي تسبق هروبنا، ولم أكن أعلم أنها آخر أغنية لي في الحياة، حين طعنوني من الخلف، لم يتركوا لي حتى فرصة في معرفة قاتلي، طعنوني بخناجرهم ثلاث مرات في وقت واحد، فعرفت أن قاتلي ثلاثة، رأيت الفراشة وهي تخرج من جسدي، خرجت من ظهري مضمخة بالدماء، طارت إلى أعلى حتى غابت عن نظري، ثم سقطت على جسدي ميتة.
سمعت صوتًا غليظًا وأنا في الرمق الأخير يقول: مات ولا لسه؟ فرد الثلاثة في صوت واحد: “أيوه”، جلسوا بجواري وجمعوا حطبًا وأشعلوا النار، فجلست روحي بجوارهم تتأمل ملامحهم، وضعوا برادًا على الجمر المشتعل، وحين وصل خيط من دمائي إلى نارهم ازدادت اشتعالًا، قال أحدهم بصوت مبحوح والضحك يملأ وجهه الضامر:
تحس إنه بسبع أرواح الفطيس؟
علت ضحكاتهم فرد عليه صوت مشوب بالانتصار:
صدقت يا سباعي، كان بيعافر قوي وروحه مش عاوزة تسيبها.
المهم دلوقتي إحنا هنروح للعمدة ونقوله إننا نفذنا اللي قالنا عليه ونشوف هيأمرنا بإيه تاني.
الوجوه نفسها التي كانت تشرب الشاي بجوار جثتي، هم الذين عاملوك بمنتهى الغلظة يا ليلى على محطة القطار وأنت بانتظاري هناك. ألقوا بجثتي في المياه، لم يصدقوا أنفسهم حين رأوها تطفو على بحر النيل، حاولوا بشتى الطرق إغراقها ولكنهم فشلوا وتركـوها ومضوا. أبحرت جثتي حيث لها أن تبحر، وفي الأخير جذبني صايدون إلى البر، لم يجدوا في جثتي جرحًا واحدًا أنه لم يأن لها تنشد نشيدها الأكبر الآن، سمعتهم وهم يقولون: “خسارة في الموت الجمال ده كله”. حملوني على الرغم مني إلى جبانتهم ودفنوني هناك دون مراسم عزاء. كرهت قبري، ولولا أن روحي كانت تأتيني بأخبارك لمتُّ في هذا القبر موتًا حقيقيًا من الضيق والضجر، كنت أتسلى بما تنقله لي روحي من أحاديثك، كنت أرددها كما يردد الصوفي ورده. صرخت من قبري: “ليتهم يعلمون أن أحبك أقوى من قتلي أو أن يقتلوه معي”، ولم أكن أعرف الحكمة لدفني هنا بالتحديد!
لكني في قبري عرفت لماذا اخترت في الدنيا أن أحيا في هذا المكان، لم أكن أصدق روايتهم عن امرأة قتلت في هذا المكان وترك طفلة رضيعة تبكي، لقد كان كلامهم صحيحًا، فدماء أمك قد اختلطت بدمائي في هذا المكان، لقد قتلوني في نفس الموضع، جاءني صوت من القبر المجاور يقول: “كيف هي أخبار ابنتي؟” فقلت لها ودهشة الأموات تعتريني: لا أعرف ابنتك.
فردت: كيف لا تعرف وأنا أنتظر قدومك إلى هنا منذ عشرين عامًا.
يا ليلى حتى بعد الموت هناك أشياء تدهشنا.
لقد كانت أمك ونيسي وكانت تسمع بشغف لحديث روحي عنك، كم كانت طيبة أمك وكم كان قاسيًا خالك عليها. أمك تشبهك كثيرًا. بعد خبرتي مع الموت واعتيادي عليه أضحك كما أتذكر كم كنت قلقًا حين رأيت الدماء تسيل من والدتك وما زالت تسيل لا تعرف التوقف كبئر زمزم، ولتعلمي أن تلك الدماء لم تكن تتوقف إلا عندما تحدثني أو أحدثها عنك. سألتها مرة: لماذا لا تسيل دمائي مثلك، لقد طُعنت مثلك ثلاثًا من الخلف؟ وأخبرتني أنها ستسيل وستجري بحارًا من الدم في مكانها الموعود، ولولا أنه لا كذب هنا لكذبتها. عشر سنوات مرت وأنا هنا في قبري، لا الدماء سالت ولا أنا تحولت إلى المكان الموعود الذي قالت بأني سأنتقل إليه.
ذات صباح سمعت أصوات هرج ومرج من الموتى حولي تتناقل الخبر: “سيتم نقل الجبانة بساكنيها إلى مكان آخر”. لم يعنني سبب ذلك، لقد جاء الموعد الذي سأفترق فيه عن أمك، دون بقية الموتى ألقوا بجثتي في تلك الصحراء الموحشة ولم يقوموا بدفني حتى. كانت تقف طيور خضراء كثيرة حول جثتي وطارت فجأة حين سمعت دبيب قادمين، كانوا أطفالًا ثلاثة لا تتجاوز أعمارهم العاشرة، جرى الولدان حين رأيا جثتي وبقيت البنت أصغرهم تتأملني، وهما يصرخان فيها لتجري، لكنها لم تسمع لقولهم واقتربت مني أكثر فأكثر، مسحت التراب عن وجهي بأصابعها الصغيرة الرقيقة لتقبل جبيني، عاد الولدان لجذب أختهما لكنها قالت لهم: إنه يشبه خالنا الذي حكت أمنا عنه ولا تكف عن الحديث عنه، انظروا صورة أمي منقوشة على صدره.
لم يعط الصبيان لكلامها وزنًا وجذباها بشدة من على صدري الذي همت بإكمال مسحه، ثم أطلقوا سوقهم للريح، والطفلة بين حين وآخر تنظر للخلف باتجاهي.
….
بعدها بيومين كانت ليلى بجوار جثتي، كانت الدموع المتجمدة في عينيها تلمع كالألماس، ألقت بنفسها عليّ، قبلتني بين عيني وفي كل منطقة من جسدي، ثم خرجت روحها من بين عينيها، وجسدها فوق جسدي، فبدأت دمائي في التدفق كالأنهار وعلت حتى وصلت إلى أفق السماء، خرجت من ثلاث مواضع طعني، وهمتُ أنا وليلى في أودية من الجمال الرحب في عالمنا الأبدي المنتظر حيث الجنة الموعودة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي وناقد مصري، المجموعة صادرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة 2020

مقالات من نفس القسم

علي الدكروري
تراب الحكايات
موقع الكتابة

المارد

amr al batta
تراب الحكايات
موقع الكتابة

الهانم