“ألعاب الجوع”.. خيال مرّ يتحقق تحت الحصار

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. شادن دياب

صدر فيلم «أنشودة الأفعى والعندليب» (The Ballad of Songbirds and Snakes) عام 2023، مقتبسًا من رواية الكاتبة الشهيرة سوزان كولينز التي نُشرت في مايو 2020 ألعاب الجوع. تُمثل هذه الرواية تمهيدًا لسلسلة ألعاب الجوع الشهيرة، تدور أحداث الرواية والفيلم. قبل 64 عامًا من بداية سلسلة ألعاب الجوع في أمة خيالية تُدعى بانيم، تحكم العاصمة الثرية هذا البلد، حيث تحصل على مواردها من 12 منطقة فقيرة تخضع لحكم قاسٍ. ويُعاقب سكان هذه المناطق سنويًا على انتفاضة سابقة فاشلة، من خلال إرسال أطفالهم للقتال حتى الموت في عرض تلفزيوني يشبه المصارعة، وتسلّط الضوء على الشاب كوريولانوس سنو، الذي سيصبح لاحقًا الرئيس المستبد “سنو”. كان سنو في شبابه من عائلة نبيلة فقدت مجدها بعد الحرب، ويحاول استعادة مكانتها من خلال التفوق في الأكاديمية. تُقام “ألعاب الجوع” كنظام قمعي قاسٍ يفرضه الكابيتول على المقاطعات، حيث يتم اختيار فتى وفتاة من كل مقاطعة ليقاتلوا حتى الموت في ساحة مغلقة، على أن ينجو منهم شخص واحد فقط. هذا العرض الوحشي لا يهدف فقط إلى الترفيه، بل إلى تذكير المقاطعات بضعفها وخضوعها، وتحويل معاناة الناس إلى مشهد استعراضي يُذاع على الجميع الأسوأ من ذلك أن الكابيتول يُلقي أحيانًا الطعام من السماء كـ”مكافأة” للمتسابقين، في مشهد يُظهر مدى استهزائه بجوع الشعوب؛ حيث يُحرم الناس من الطعام في الواقع، ويُقدّم لهم كأداة تحكم وإذلال داخل اللعبة. الجوع يصبح سلاحًا، والتغذية تتحول إلى خدعة مقيتة تُستخدم لتوجيه سلوك المتسابقين والجمهور على حد سواء. تُكلف كابيتول كوريولانوس سنو بمرافقة المتسابقة لوسي غراي بيرد، من المنطقة 12، وهي فتاة موهوبة تُجسد صوت الحرية وسط القمع. تقدم رايتشل زيغلر أداءً نابضًا بالحياة للشخصية، التي تصبح العلاقة بينها وبين سنو محورًا عاطفيًا للقصة. مع مرور الوقت، تتطوّر مشاعر معقدة بين سنو ولوسي، تجمع بين الإعجاب والشك. وبينما يبدأ سنو في التورط أكثر في منظومة العنف، يبدأ في إدراك أن الحفاظ على السيطرة والسلطة يتطلب التضحية بالقيم وحتى بمن يحب. نهاية الرواية

ألعاب الجوع وسيله للهيمنة

عبارة الخبز والألعاب تعود إلى الشاعر اللاتيني جوفينال في القرن الأول الميلادي، وقد استخدمها لوصف سياسة الأباطرة الرومان الذين كانوا يوزّعون الغذاء وينظمون ألعاب السيرك لكسب رضا الشعب، في إطار سياسة الهيمنة والسيطرة.

في الثقافة الشعبية، يظهر هذا المفهوم في سلسلة Hunger Games  ألعاب الجوع، حيث يستخدم “الكابيتول” الألعاب كوسيلة لتذكير الأقاليم بالخضوع، عبر مزيج من العنف والإبهار الإعلامي. ومع مرور الوقت، تضيف السلطة عناصر درامية وعاطفية للحفاظ على جذب الجمهور، مما يكشف جذور الظلم والقسوة التي تحكم بانيم.

بطل في حالة تحلل نفسي
يُقدَّم كوريولانوس سنو في البداية كشاب ذكي، أنيق، طموح، ولكن قبل كل شيء… جائع – بالمعنى الحرفي والمجازي. فالجوع الجسدي في الكابيتول الذي أضعفته الحرب يتحوّل بسرعة إلى رمز لجوعه إلى السلطة، والاعتراف، والسيطرة. هذا النقص المستمر، هذا الفراغ الداخلي، يشكّل جوهر شخصيته: فهو لا يتحمّل الخسارة، ولا الفشل، ولا أن يكون في موضع أدنى من غيره، ما يجعل شخصية سنو مثيرة من الناحية النفسية هو حاجته الدائمة لتبرير أفعاله أخلاقيًّا. إنه يرى نفسه حاميًا للنظام، ومدافعًا عن الحضارة. لكن خلف هذا الخطاب، يكمن خوف عميق من الفوضى، ومن الغموض، ومن الضعف. في كل معضلة يواجهها، يختار الخيانة، والحسابات الباردة، والتلاعب — ليس لأنه شرير بالفطرة، بل لأنه خائف. وتبدأ البارانويا (جنون الارتياب) بالتسلل إلى ذهنه، تغذيها الاضطرابات السياسية، وانعدام الثقة بالآخرين، وعجزه عن تصديق الحب أو العفوية.

الحب كتهديد
علاقته مع لوسي غراي كاشفة للغاية: فهي لا تمثل له حبًا رومانسيًّا، بل شيئًا يجب امتلاكه، مرآة مربكة لرغبته في الحرية والجمال. وعندما تفلت من سيطرته، يعاوده القلق. فالحب، في نظره، يصبح أمرًا لا يُحتمل إذا لم يكن خاضعًا لسلطته. وهنا نرى بداية سلوك مهووس، وربما مرضي.: فهو لا يحب الآخر، بل يحب الصورة التي يعكسها ذلك الآخر عنه.

مع تقدُّم الفيلم ينتقل كوريولانوس من هشاشة مخفية إلى برودة عقلانية. فالرحمة تصبح ضعفًا، والفن يتحول إلى أداة دعائية، والولاء يصبح تهديدًا يجب القضاء عليه. يزيل من طريقه كل ما لا يمكنه التحكم به. وهنا تُبرز سوزان كولينز بمهارة كيف يمكن للخوف، والحاجة إلى الأمان، والرغبة في الاعتراف، أن تدمّر كل أثر للتعاطف الإنساني.

في نهاية فيلم لا يقتل كوريولانوس سنو لوسي غراي بيرد بشكلٍ واضح أو مباشر، لكن النهاية تبقى غامضة ومفتوحة للتأويل. بعد فراره مع لوسي غراي للهروب من عقاب الكابيتول، يبدأ سنو في الاشتباه بها ويظن أنها تخطط لخيانته أو للهروب منه. يلاحقها إلى داخل الغابة وهو يحمل سلاحًا، ويطلق النار، ولكن لا نرى جسد لوسي ولا نعرف مصيرها بدقة. اختفاؤها المفاجئ وسط العاصفة والغابة يجعل النهاية غامضة: هل قُتلت؟ هل نجت؟ هل هربت؟ كل شيء ممكن. هذا المشهد يُمثل نقطة التحوّل الحاسمة في شخصية سنو: في تلك اللحظة، لا يقتل لوسي جسديًا بالضرورة، لكنه يقتل الأمل والبراءة وكل ما كانت تمثّله له. قرر سنو أن البشرية جمعاء فاسدة مثله، وأن الأفراد ذوي الذكاء والقوة يجب أن يسيطروا على الجماهير لمنعهم من تدمير العالم. نشأ هذا الفكر الظلامي نتيجة للحرب والرعب الذين عاشهما، وقد رسخته مشاركته في تصميم ألعاب الجوع. واختار أن يحتضن الظلام بدلًا من مقاومته.

الغناء في وجه الظلم

تغني لوسي: هل أنت، هل أنت قادم إلى الشجرة حيث علّقوا رجلاً قالوا إنه قتل ثلاثة؟ يمكنك أن تَحفر على جلدي يمكنك أن تضرب عظامي لكنك لن تمتلك روحي أبدًا

هذا الصوت الشجاع يعكس واقعًا مريرًا نراه اليوم على الشاشات. ففي مشهد مؤثر ف يصاب سكان كابيتول بالذهول من قيام أطفال المناطق بتدنيس العلم، لكنهم لا يتأثرون بأنهم يُجبرون على القتل في الساحة. وهو مشهد يعكس الازدواجية الأخلاقية والقسوة الباردة.

موسيقى ليست مجرد فن، بل أداة فعالة للمقاومة والتعبير عن رفض الظلم والقهر. عبر التاريخ، استخدمت الموسيقى بأشكال متعددة لتكون صوتًا للمقاومة، سواء كانت مباشرة أو رمزية.

من أمثلة المقاومة المباشرة: سيمفونية فنلانديا لسيبيليوس التي عبّرت سرًا عن رفض الاحتلال الروسي لفنلندا.

نشيد “مسيرة النساء” لإيثيل سميس الذي كان نداءً للنضال من أجل حقوق المرأة في إنجلترا.

أغنية كراون الفرنسية التي عبرت عن رفض الجنود للحرب وظروفها القاسية خلال الحرب العالمية الأولى، رغم حظرها لفترة طويلة.

أما المقاومة الرمزية فقد ظهرت في أعمال ديمتري شوستاكوفيتش، الذي رغم قمع النظام الستاليني، عبّر عن معارضته برسائل موسيقية مشفرة في سيمفونيته السابعة وكاناته الساخرة.

كما استخدم الحلفاء في الحرب العالمية الثانية المقطع الافتتاحي لسيمفونية بيتهوفن الخامسة كرمز للنصر والمقاومة ضد النازية، مستفيدين من رمز “V” في شفرة مورس.

، الموسيقى كانت وما زالت لغة المقاومة، أداة توحّد وتلهم الشعوب على الصمود والتغيير حتى في أصعب الظروف.

غزة:  لعبة النجاة

شبّه الكثيرون عبر وسائل التواصل الاجتماعي ما يحدث في غزة بألعاب الجوع. في تقرير حديث لموقع Middle East Eye، قارن العديد من المتابعين عبر الإنترنت بين أحداث الفيلم والحرب في غزة. أحد مستخدمي TikTok قال: “أتوقع أن يُحدث فيلم Hunger Games الجديد موجة تضامن كبيرة مع فلسطين بين الشباب في أمريكا”

وأضاف آخر: «أوجه التشابه المرعبة بين ألعاب الجوع وفلسطين لا يمكن تجاهلها». وتمت مقارنة مشاهد من الفيلم، مثل قصف المستشفيات في Mockingjay – Part 1، بالقصف الحقيقي لمستشفيات غزة. الروايات الأصلية لـ سوزان كولينز، كما أكدت الكاتبة، استلهمت من مشاهد الحرب في العراق وبرامج تلفزيون الواقع، وقالت في: “مواطني المناطق في بانيم لا يملكون حقوقًا إنسانية، ويُعاملون كعبيد، ويُجبرون سنويًا على المشاركة في ألعاب الجوع. هذا وحده سبب كافٍ للثورة” في حين قارن العديد من المشاهدين كابيتول  بالكيان المحتل، لم يُدلِ أحد من صانعي الفيلم بتصريحات مباشرة حول ذلك.

 وسط هذا السياق اليوم.تتحول الرواية من مجرد خيال ديستوبي إلى مرآة لواقعنا المليء بالاضطهاد، والتجويع، وتهميش الإنسان. فهل تبقى القصة خيالًا؟ أم أنها أصبحت الحقيقة بعينها؟

في عالم تتقاطع فيه الخيال بالواقع، يبدو أن رواية وفيلم “ألعاب الجوع” لسوزان كولينز لم تكن مجرد عمل أدبي أو سينمائي، بل كانت نبوءة قاتمة لما يمكن أن يعيشه الناس في زمن الحرب والمجاعة والخوف. أما في غزة اليوم، فليست هناك كاميرات سينمائية، ولكن هناك طائرات بدون طيار ودبابات وقناصون، يترصدون كل تحرك وكل جسد منهك يحاول النجاة. يسمّي الجنود أحد الخطوط بـ”خط الجثث”، حيث يتم إطلاق النار على أي تجمّع يُعتبر غير منضبط. لكن كيف تبدو الجماهير المنضبطة بعد أكثر من عشرين شهرًا من القصف والنزوح والمجاعة؟ كيف تقف الأمهات في صفوف الطحين، وهنّ يعلمن أن كل لحظة قد تكون الأخيرة؟

غزة: لعبة النجاة”، “، حيث عليك كـ”لاعب” أن تحترم حدود الطوابير غير المرئية، ألا تذهب يمينًا أو يسارًا كثيرًا، وأن تتابع بحثك عن الطعام والماء دون أن تُقتل. يبدو كأنه تسلية قاتمة، لكن الواقع هو الأكثر قتامة. تقول شخصية لوسي في الفيلم: ” قول شخصية لوسي في الفيلم: “لا يمكنك أن تسلبني حياتي، ولا أرضي، ولا ماضي.”: “الصوت هو الشيء الوحيد الذي لا يمكنك قتله.”

هذه الصرخة الخيالية، هي صدى لصراخ أطفال ونساء غزة اليوم. صرخة من لا يملك سلاحًا

الفاصل بين الخيال والواقع بدأ ينهار. وبينما كنا نظن أن “ألعاب الجوع” مجرد خيالي، أصبحنا نراها مجازًا دقيقًا لما يحصل.. لقد تجاوز الأمر الترفيه أو السرد القصصي ، ومجالًا مفتوحًا للعب على أرواح الأبرياء نتوقف، لا لنفرّق بين الرواية والحقيقة..

مقالات من نفس القسم