بين الغياب والتغييب… كيف يستعيد الأدب المصري حضوره؟

abd allah al salayma
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبدالله السلايمة*

في العقود الأخيرة، بدا وكأن الأدب المصري، الذي لطالما كان في طليعة المشهد الثقافي العربي، يعيش حالة من التراجع المتدرج، لا في جودة الإبداع أو تنوع الأصوات، بل في موقعه داخل النسيج العام للثقافة والمجتمع. هذا الغياب لا يمكن عزله عن تغييب متعمّد ـ أحيانًا ـ لدور الثقافة كقوة ناعمة قادرة على التنوير والتغيير، وعن غياب المشروع الثقافي الشامل الذي يربط بين الكتاب والفنانين والمبدعين من جهة، وبين المؤسسات التعليمية والإعلامية والدولة من جهة أخرى.

لقد نشأ جيل كامل في مصر لا يعرف من الأدب سوى ما يُملى عليه في مناهج جامدة، ولا يقرأ إلا تحت ضغط الامتحان، بينما تُحاصر الكتب الجادة على رفوف المكتبات، وتُطرد من المشهد بفعل التسليع المفرط، وانشغال السوق الثقافية بالأسهل والأخف والأكثر إثارة. صارت الجوائز هي الحكم الوحيد على قيمة العمل، وغاب النقد الجاد، وتراجعت دور النشر التي تؤمن بالمغامرة مع النصوص الجديدة، في ظل سوق لا يرحم التجريب ولا يعترف إلا بالأسماء الراسخة أو النجمية.

في الماضي، كانت مصر تصدر للعالم العربي رموزها الكبرى في الرواية والشعر والنقد والمسرح، وكانت الإذاعة والتلفزيون والصحافة تمارس أدوارًا ثقافية حقيقية، وكانت المعارض والندوات والجوائز أدوات لتنشيط الحوار الثقافي. أما اليوم، فإن الفجوة تتسع بين المبدع الحقيقي وبين الجمهور، وبين النص الأصيل وبين آليات الترويج والتسويق، وبين ما يُكتب في الهوامش، وبين ما يُروّج له في الصدارة.

هذا “الغياب”، ليس فقط نتيجة ظروف اقتصادية أو تكنولوجية أو تعليمية، بل نتيجة “تغييب” متعمّد للدور الاجتماعي والسياسي للثقافة. إذ لم تعد الثقافة في قلب السياسات العامة، بل صارت في ذيل الاهتمام الرسمي. غابت الاستراتيجيات الكبرى، وغابت الإرادة المؤسسية التي تؤمن بأن مستقبل الوطن لا يُبنى فقط بالمشروعات الاقتصادية، بل بمشروع ثقافي جامع ينهض بالوعي، ويحصّن الناس ضد الرداءة والانغلاق والتطرف.

فكيف يستعيد الأدب المصري حضوره؟

الجواب لا يكمن في نبوءة فردية، ولا في مبادرة معزولة، بل في استعادة الإيمان بدور الثقافة. وهذا يتطلب:

ـ إعادة الاعتبار للمؤسسات الثقافية بوصفها شريكًا في التنمية، لا مجرد واجهات احتفالية.

ـ تجديد السياسات التعليمية بما يعيد للغة العربية مكانتها، ويغرس حب الأدب منذ المراحل الأولى.

ـ تشجيع النقد الجاد، ومساندة المجلات الثقافية المستقلة، والارتقاء بذوق القارئ لا اللهاث خلف رغباته.

ـ إطلاق مبادرات تفاعلية تربط بين الكاتب والقارئ، وبين المدينة والأدب، وبين الهوية والتجريب.

ـ إعادة تموضع المثقف كفاعل في المجال العام، لا كغريب على هامش الحدث.

إن استعادة الأدب المصري لحضوره ليست مهمة مستحيلة، فالطاقة الإبداعية ما زالت نابضة، والأقلام الجديدة تشق طريقها رغم العتمة، لكن ما ينقصنا هو الرؤية. الرؤية التي تؤمن بأن الثقافة ليست ترفًا، بل ضرورة، وأن الأدب ليس خيالًا فارغًا، بل مرآة الروح الوطنية.

خاتمة:

لن يستعيد الأدب المصري حضوره الحقيقي ما لم نسترد إيماننا العميق بأن الثقافة فعل مقاومة، وأن الكلمة قادرة على إعادة تشكيل الوعي والواقع. نحن لا نفتقد الكتّاب ولا النصوص، بل نفتقد الحاضنة التي تجعل من الأدب ضرورة مجتمعية لا سلعة مؤقتة. وبين الغياب الذي فرضته التحولات، والتغييب الذي ساهمت فيه السياسات، تبقى مسؤولية النهوض بالأدب مسؤولية جماعية تبدأ من الاعتراف بأهمية الدور الثقافي، وتنتهي بصنع مشروع وطني يُعيد للكتابة روحها، وللمجتمع صوته الحر.

……………..

* كاتب وروائي مصري

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم