فى بدايات شهر نوفمبر 2023، وفى أثناء الأسابيع الأولى من الحرب الجارية، صادفت منشورًا على الفيسبوك كتبته شابة فلسطينية تعيش فى غزة، أعجبنتى لغتها وقدرتها على التعبير، وصلتنى مشاعرها ومست قلبي، عندها بحثت فى صفحتها عن المزيد من كتاباتها التي أثار بعضها إعجابي، فضغطت على أيقونة المتابعة، إلا أننى فى اللحظة الأخيرة، وقبل أن أغادر صفحتها لاحظت أن آخر منشوراتها كان قبل عشرة أيام، انتابنى القلق على خلفية القصف البربرى والعدوان الصهيونى المستمر، وصدق حدسى عندما تبينت من التعليقات أن الشابة التى قرأت كلماتها منذ لحظات واسمها هبة أبو ندى قد استشهدت قبل أيام.
بمزيد من البحث عرفت أنها كاتبة وشاعرة، كانت فى الثالثة والثلاثين من عمرها، صدرت لها رواية بعنوان (الأكسجين ليس للموتى)، فازت تلك الرواية بجائزة الشارقة منذ عدة أعوام، وصدرت عن دائرة الثقافة هناك، بعدها وصلت بعض نسخها إلى غزة وطرحت فى مكتبة سمير منصور، المكتبة الأشهر فى غزة والتى قام الإسرائيليون بقصفها وتدميرها فى 2021، إلا أنها عادت للعمل بعد أقل من عام قبل أن يطولها الدمار مرة أخرى، هى وكل القطاع، فى العدوان الحالي.
صدرت طبعة أحدث من الرواية عن دار نشر كويتية اسمها دار ديوان، إلا أن هبة لم تستطع أن ترى كتابها فى نسخته الجديدة، لم تلمسه بيدها بسبب الحصار المفروض على المدينة، حيث تم إيقاف نسخه عند المعابر، فلم يطرح الكتاب فى بلدها، لم تستطع أن تحتفل بالطبعة الأحدث مع أصدقائها وأهلها أو أن تكتب الإهداءات وتلتقط الصور وهى توقّع نسخه.
بالتأكيد كان لهبة أحلام فى الكتابة والانتشار والتحقق، أن تعبر بقلمها عن همومها الشخصية والعامة والتى يشاركها فيها الملايين من وطنها المحاصر وخارجه، أن تستعرض ما يعتمل داخلها شعرًا ونثرًا، وأن تصدر المزيد من الدواوين والروايات، إلا أن القتلة كان لهم رأي آخر.
صُنّفت رواية هبة كرواية بوليسية ذات خلفية سياسية، على الرغم من أنها لا تتناول القضية الفلسطينية بشكل خاص، فهى لم تحدد البلد الذي تدور فيها الأحداث، ربما تكون كل بلد من البلاد العربية. غير أن هبة ومنذ السابع من أكتوبر باتت تؤرخ لطوفان المشاعر المتضاربة فى قلوب الغزاوية، تفخر وتخاف وتحزن وتغضب وتتذكر، تكتب عن الجندى المصري محمد صلاح الذى أطلق نيرانه على الجنود الإسرائيليين قبل شهور، تتذكر الشهداء السابقين وتودع الحاليين وتنعى أصدقاءها وتخاف على ذويها، إلا أن القدر لم يمهلها سوى أسبوعين، كانت فيهم مؤرخة وشاهدة على الدهشة والعزة والموت والدمار.
كتبت هبة على صفحتها قبل استشهادها بيومين ” قائمة الأصدقاء عندي تنكمش، تتحول توابيت صغيرة تتناثر هنا وهناك، لا يمكنني إمساك أصدقائي وهم يتطايرون بعد الصواريخ، لا يمكنني إعادتهم من جديد ولا يمكنني أن أعزي فيهم ولا يمكنني البكاء، لا أعلم ماذا أفعل!
كل يوم تنكمش أكثر، هذه ليست أسماء فقط، هؤلاء نحن بوجوه وأسماء مختلفة.
يا رب ماذا نفعل أمام وليمة الموت الضخمة هذه.
لا توجد أية أيقونة هنا تعيدهم ولو كذبا.”
فى يناير اللاحق سأعلم من بيان كتبه الروائى المصري أحمد ناجى عقب فوزه بجائزة ساويرس بأسماء كتاب آخرين استشهدوا فى القصف الصهيونى، فبالإضافة لهبة أبو ندى، ذكر أحمد كل من الشاعر والروائي عمر أبو شاويش، الشاعر رفعت العرعير، المؤرخ عبد الكريم عيد الحشاش، الكاتبة المسرحية إيناس السقا، المؤرخ جهاد المصري، الشاعر يوسف دواس، الشاعر والروائي نور الدين حجاج، الكاتب والمترجم عبد الله العقاد، الشاعر سليم النفار، وربما تضاعفت القائمة فيما بعد.
****
فى النصف الثانى من الستينيات قام غسان كنفانى بكتابة دراستين أو كتابين عن أدب المقاومة فى فلسطين المحتلة، حيث يفرّق غسان فيهما بين الأدب الذى تطور داخل المجتمعات العربية فى الأرض المحتلة وبين ذلك الأدب الذى أنتجه الفلسطينيون فى منافيهم، مشيرًا إلى أن الأخير من الممكن وصفه بأدب المنفى أكثر منه الأدب الفلسطينى، وقال أن الإنعكاس الأدبي للنكبة والاحتلال بدأ فى شكل شعري فى الأساس حيث بدأ شعر المنفى مفعمًا بالحماس الصاخب ثم تحول إلى حماس حزين ولكنه أكثر أملًا، ” كانت مرحلة عدم التصديق قد انتهت نهاية مريرة حين صار الواقع أكبر حجمًا من أن يُغطَّى بالتجاهل، وقد حدث الشئ ذاته مع حفظ الفروق التى تفرضها الظروف بين الأدباء العرب فى الأرض المحتلة. لقد انتهت وصلة عدم التصديق التى فشل شعر الغزل فى تغطية ضخامتها ووجد الشعراء العرب أنفسهم يواجهون ما بات يُصطلح على تسميته الآن بالقضية.”
يحلل غسان الأمر ويقول أن توجه الشعراء فى أول الأمر إلى شعر الغزل لم يكن انفصالًا عن الواقع القاسي، ولكنه وسيلة لإقامة علاقات جديدة فى المجتمع العربي الذى تحول بين ليلة وضحاها إلى أقلية مغلوبة على أمرها فى بلد مختلف عما عهدوه، كما أنه وسيلة لمجابهة الشعور بالوحدة والانعزال. يرصد غسان ظهور جيل جديد من الكتاب بعد مرور حوالي عشر سنوات، جيل قادر على مزج مشاعر مختلفة، وطنية وعاطفية، فيحولها إلى عاطفة واحدة تعبر بأشكال أعمق عن روح المقاومة.
ركز غسان فى الدراستين على أدب الداخل الفلسطينى المحتل، وخصص فصولًا لأكثر من عشرة شعراء، أبرزهم محمود درويش وسميح القاسم، أما النثر فلا يذكر إلا أقصوصة ل(أبو إسلام) ومسرحية لتوفيق فياض. ستتحول الدفة فيما بعد لتزداد وتيرة السرد دون أن يتراجع الشعر، فبالإضافة إلى التأملات ودفقات المشاعر التى يعبر عنها الشعراء، كانت القضية فى حاجة إلى توثيق أدبي أيضًا، إلى عرض أوسع لوجهات النظر والأفكار وتحليل العلاقات فى المجتمع الفلسطينى الجديد وتحولاته، ولذا بدا النثر ضرورة.
فى هذه الفترة، أقصد نهاية الستينيات، كانت أسماء جبرا إبراهيم جبرا ومعين بسيسو قد بدأت فى اللمعان، وكذلك غسان كنفانى نفسه بطبيعة الحال، إلا أنهم كانوا خارج دائرة بحثه حيث أنهم ممن هُجِّروا فى أعقاب 1948، وربما أول من سيبرز اسمه روائيًا من الداخل المحتل هو إميل حبيبي الذى عاش حياته ما بين حيفا والناصرة.
بدت الكتابة الأدبية عند الفلسطينيين عنصرًا أساسيًا من وجودهم وتمسكهم بمكانهم وأرضهم، تعامل بعض الكتاب الفلسطينيين مع الكتابة كفعل مقاومة فى حد ذاته، أو كاحتياج لكسر العزلة والقيود المفروضة عليهم، حتى أن تدوينات أهالى فلسطين عما يحدث الآن من مجازر وإجرام ورعب لا تخلو من لغة أدبية ونَفَس شعري، يتجلى تحت القصف وفى حضور الموت وبين بحور الدماء، سواء وهم يسجلون مشاعرهم، مخاوفهم، مشاهداتهم أو رؤاهم المستقبلية. حتى مهندس طوفان الأقصى نفسه، يحيى السنوار، كتب رواية من قبل فى أثناء أسره فى سجون الاحتلال بعنوان (الشوك والقرنفل)، ورغم أنها رواية ضعيفة فنيًا وأدبيًا وأقرب إلى تسجيل لسيرته إلا أن أهميتها تكمن فى الاطلاع على عقلية أحد أهم قادة المعركة وطريقة تفكير الرجل الذى اعتبره الصهاينة عدوهم الأول والتعرف على نظرته لتنظيمات المقاومة الفلسطينية منذ الستينيات وصولًا إلى الانتفاضة.
وإذا كان غسان محقًا فى تمييزه لأدب الداخل عن أدب المنفى، فإن الأمر قد تغير الآن، فالجيل الذى هاجر بعد النكبة مباشرة لم يختبر مشاعر العيش تحت وطأة الاحتلال بشكل فعلي، وكانت تجربته ترتكز على حياة المخيمات والنفي والاغتراب والحنين إلى الوطن، أو على المقاومة من الخارج، أو ما هو منقول له من تجارب فلسطيني الداخل، إلا أنه فى آخر الأمر لم يعش وجها لوجه مع محتله، لم يجرب شعور أن يكون غريبًا ومحاصرًا ومطاردًا فى وطنه، ولذا فتمييز غسان بين الفريقين منطقى ومفهوم، ولكن الآن صار الوضع مختلفًا، فكثير من الكتاب الفلسطينيين المستقرين فى دول عربية أو أوروبية، قد انتقلوا إلى هذه البلاد بعدما عاشوا قدرًا كبيرًا من حيواتهم فى غزة أو الضفة الغربية أو فى فلسطين المحتلة، ولذا فقد عاشوا تجربة المواجهة شبه اليومية مع العدو، أو تحت حالة من الاشتباك الدائم، أيا كان مستقرهم الحالي.
لم يتوقف الإبداع الفلسطينى رغم التجريف والحصار والألم، أو ربما بسببها، وطور نفسه ودخل فى أطوار أحدث، فبتنا نرى فى العديد من أعمالهم الأدبية بُعدًا عن المباشرة، أو نقدًا ذاتيًا للداخل الفلسطينى، كما باتت الروايات الفلسطينية الحديثة تتجنب البكائيات وتبعد أيضًا عن الحماسة المفرطة، لم تعد الصورة أبيض وأسود، بل بات الرمادى حاضرًا، وبدا الأدب أكثر تحليلًا للمجتمع العربي الفلسطينى حتى وإن لجأ للتخييل أو إلى إزاحة القضية من قلب الرواية إلى خلفيتها، فتصبح الرؤية أوسع وربما أوضح.
توالت أجيال من الشعراء والروائيين الفلسطينيين عبر السنوات، حتى ظهر فى العقدين الفائتين عدد من الأصوات الأدبية الفلسطينية الجديدة، من مواليد منتصف السبعينيات وما بعد، من جيل ما بعد الانتفاضة الأولى أو الثانية، وفرضوا وجودهم واختلافهم، سار كل منهم فى طريقه، يدشن عبره مشروعه الروائى بخصوصيته وفرديته، ولكنه يكمل جزءًا من صورة آخذة فى التكون دون اتفاق أو قصد.
تفصيل ثانوي:
فى الأسابيع الأولى من الحرب على عزة، انتشرت الأخبار عن الكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي وروايتها (تفصيل ثانوي)، والتى صدرت قبل أكثر من سبعة أعوام، كان من المفترض أن تُكرَّم الروائية فى معرض فرانكفورت للكتاب، إلا أن المسئولين عن المعرض تراجعوا فيما بعد السابع من أكتوبر، وأعلنوا فى تصريحاتهم أن بالرواية عبارات ورؤى غير مناسبة للعرض فى ظل هذه الظروف، وأنهم يقفون بشكل كامل فى صف إسرائيل، كما أكدوا حرصهم على إبراز الأصوات المعبرة عن السردية الإسرائيلية، وكأنها لا تملأ الدنيا صخبًا ليل نهار!
تنقسم الرواية إلى جزئين، الجزء الأول يدور فى 1949 فى مكان ما بصحراء النقب، حيث تستخدم الكاتبة ضمير الغائب فى السرد، وكأنه على لسان راوٍ عليم، غير أن السارد يتتبع خطوات أحد الضباط الإسرائيلين عن كثب، فنشعر أنه هو نفسه من يخط هذه السطور، كأنه يكتب يومياته مستخدمًا ضمير الغائب. تعرض الرواية خمسة أيام من حياة هذا الضابط وجنوده المعسكرين فى الصحراء التى وفدوا إليها حديثًا، تبدو حياة هؤلاء الجنود الغزاة رتيبة، رحلات يومية للبحث عن ضحايا جدد دون جدوى، إلى أن تتعقد الأمور عندما يلمحون مجموعة من العرب ويهاجمونهم، أطلق الصهاينة ضربات نار كثيفة فلم يتبق بالمكان أحياء إلا فتاة عربية وحيدة، أمر الضابط باصطحابها إلى المعسكر، وهناك تتوالى الجرائم الحيوانية، وتتعمّد الكاتبة أن تحكي فى هذا الفصل بإيقاع بطئ ولغة محايدة، تتتبع التفاصيل الدقيقة وتعيدها مرة تلو الأخرى، كل شئ يحدث فى هذه الصحراء يبدو مكررًا، يحدث ببرود وملل ورتابة، لا يُظهر أيّ من الجنود شعورًا إنسانيًا تجاه العرب أو الفتاة، باستثناء الضابط الذى يحاول للحظة أن يكون إنسانًا نبيلًا، غير أنه سريعًا ما يقع فريسة لانحطاطه، جميعهم يعامل الفتاة كحيوان بشري، هذا السرد الهادئ للمأساة يذكّرنى باللقاءات التى أقامها مخرج فيلم (الطنطورة) مع الجنود المتورطين فى مجازر 1948، حيث بدوا باللامبالاة نفسها، كذلك تتعمد الكاتبة أن تجعل جريمة اغتصاب الفتاة، أو اغتصاباتها المتتالية، تُروى بشكل غامض على لسان الراوي، ندرك ما يحدث ولكن دون تعمّق، دون اقتراب، دون تفصيل، دون أى مشاعر سوى النفور.
أما الجزء الثانى من الرواية فيدور فى مطلع القرن الحالي، أى بعد الحادثة السابقة بأكثر من خمسين عاما ويأتي على لسان فتاة عشرينية تعيش فى رام الله، تقرأ الفتاة عن الواقعة الأولى فى إحدى الصحف، وما يلفت نظرها أن تلك الحادثة جرت قبل يوم ميلادها بخمسة وعشرين عامًا بالضبط، فى التاريخ نفسه، هذه التفصيلة الثانوية سيطرت على أفكارها ودفعتها للتخلى عن حياتها الروتينية لتتورط فى مغامرة البحث عن تفاصيل القصة، وكأن الحادثة تخصها هى نفسها، أو تخص نسختها فى الجيل السابق. تندفع الفتاة فى رحلة من رام الله إلى مكان الحادث الذى صار مستوطنة نيريم على أطراف غزة.
فى هذا الجزء من الرواية نرى انعكاس لصورة الفتاة المُغتصَبة قبل نصف قرن فى صورة فتاة رام الله، كل منهما نسخة من الأخرى، ولدت الثانية فى التاريخ الذى رحلت فيه الأولى، وكأن مرآة تمتد بينهما عبر الزمن، مرآة بطول خمسين عامًا، كل منهما تتعرض لاغتصاب ما، وإن اختلف شكله، تتقاطع مصائرهما، وتسير كل منهما فى الطريق ذاته نحو نهاية واحدة.
فى أثناء رحلة الفتاة الثانية للبحث عن تفاصيل الحادث تحمل معها خريطتين، واحدة عصرية للبلاد فى وضعها بهذا الوقت والأخرى لفلسطين فى 1948، تكتشف عبر طريقها المبانى والأسواق والشوارع التى اختفت وأزيلت، القرى التى تم محوها، الذكريات التى دهست، آثار الرجال الذين تم إزاحتهم من أماكنهم، ترى عبر رحلتها الخرائط التى تغيرت، الأسوار الجديدة التى بنيت لتحجب القرى عن النظر، الطرق التى تتبدّل بسرعة لأسباب أمنية إسرائيلية. ترصد الكاتبة التغير الجغرافي الذى يجرى بشكل دائم ومستمر، إلا أن هذا التغير الجغرافى لا يصاحبه تغير إنسانى يذكر، الزمن يتغير والخريطة تتشوه يومًا بعد آخر إلا أن الجرح واحد والإجرام مستمر، ثمة أشياء لا تذبل وتنتقل من جيل إلى آخر، الإجرام والعنف الصهيونى لم يتبدل، الاغتصاب ذاته، رائحة الوقود التى تغطي كلًا من الفتاتين، الغبار الذى ينتشر فى مكان الجريمة، ونباح الكلب الذى لا يتوقف أبدًا.
جريمة فى رام الله:
فى العام نفسه الذى صدرت فيه (تفصيل ثانوي)، أى عام 2017، أصدر النائب العام الفلسطينى قرارا بمصادرة وحظر رواية (جريمة فى رام الله) للكاتب عبّاد يحيى واستدعائه للتحقيق، “وذلك لما ورد فيها من مصطلحات مخلّة بالحياء والأخلاق والآداب العامة”، مما أثار ضجة كبرى فى المجتمعات الثقافية الفلسطينية، امتدت أصداؤها إلى وسائل التواصل الاجتماعي والوسائط الإخبارية.
تبدأ الرواية بخبر مقتضب عن حادثة قتل غامضة وقعت فى حي الماسيون فى رام الله وراحت ضحيتها فتاة عشرينية، ودون توضيح لملابسات الحادث يقفز الكاتب إلى الماضي مستعرضا حياة ثلاثة شبان فلسطينيين من أبناء ما قد نسمّيه جيل ما بعد الانتفاضة الثانية، يتتبع الكاتب حياتهم، وعلى الرغم من تباينهم واختلاف شخصياتهم إلا أن ثمة ما يجمعهم سويًا، فهم تائهون، باحثون عن ذواتهم المضطربة، مشتتون فى طرق متشعبة، يعانون جميعًا من اغتراب داخل ما يُفترض أن يكون وطنهم، يبحثون عن الهروب من مجتمعهم وعائلاتهم، ينغمسون فى مغامرات جنسية أو فى حياة السكْر والخمر، أو فى قصص رومانسية حالمة، هربًا من مجتمع لا يقبلونه، ولكن دون أن يعرفوا وجهة جديدة.
تبدو الصورة التى يرسمها عبّاد يحيى لشباب هذا الجيل مخالفة لصورة الفلسطينى فى العديد من الروايات الأسبق زمنيًا، حيث يبني الكاتب روايته مرتكزًا على الحياة الشخصية المتخبطة لأبطاله الثلاثة، موضحًا الاضطراب والضياع الذى يجمع بينهم، والصراعات النفسية التى تجري داخل كل منهم، بينما تظهر الأحداث السياسية والمناوشات الدائرة بين الحركات الفلسطينية على خلفية الأحداث، وتأتي الانتقادات والآراء المتباينة بخصوص كل من (فتح وحماس) على لسان الشخصيات، وربما تكون هذه الانتقادات هى السبب الحقيقي للغضب الرسمى ومحاولة مصادرة الرواية.
يشير عبّاد يحيى إلى الأجيال الأكبر سنًا، العائلات والآباء، وأن انفصالًا ما يقع بينهم وبين هذا الجيل، بل ربما يشير إليه كنوع من التخلي أو التعامل الفوقي، انقطع الحبل الممدود بين الجيلين مما ساهم فى هذا التخبط الذى سيطر على حيواتهم وزاد من شعورهم بالاغتراب الذى يبدأ من الاحتلال ولا ينتهي عنده، وهذه هى الجريمة الحقيقية التى تجري وقائعها فى رام الله، أما جريمة القتل فتعددت التأويلات لما يرمز إليه الكاتب من خلال الفتاة التى تم قتلها، حيث ذهب البعض إلى أنها إشارة إلى القضية الفلسطينية أو إلى المجتمع الفلسطينى نفسه.
تعتبر (جريمة فى رام الله) رواية مهمة للنظر إلى الداخل الفلسطينى بعين مغايرة، إلا أنها عانت من التفاوت فى مستوى السرد بين الفصول، حيث بدت بعض الفصول أقل إقناعًا وإمتاعًا من فصول أخرى، وبدت بعض الشخصيات من لحم ودم، وأخرى من حبر وكلمات.
كتب عبّاد يحيى ثلاث روايات عن رام الله، أولها (رام الله الشقراء)، ثم هذه الرواية، وأعقبهما بسفر روائى كبير تحت اسم (رام الله)، تبدو الأخيرة مشروعًا ضخمًا، ليس على مستوى الحجم فقط، ولكن روائيًا وتأريخيًا أيضًا، فبمجرد قراءة صفحاتها الأولى، تلاحظ أن الروائى صار أكثر تمكنًا من قلمه وخياله، بات أكثر قدرة على التلاعب بالزمن والمزج بين الواقعى والمتخيل دون افتعال أو مبالغة غير مقنعة.
قناع بلون السماء:
فى عام 2024 ضمت القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية روايتين فلسطينيتين، (سماء القدس السابعة) لأسامة العيسى، و(قناع بلون السماء) لباسم خندقجى، فاز الأخير بالجائزة ولكنه لم يتمكن من استلامه بنفسه بسبب قضائه عقوبة حبسه في سجون إسرائيل. باسم واحد من جيل الروائيين ذاته، جيل الانتفاضتين، حيث ولد فى النصف الأول من الثمانينيات، نشأ وتعلم فى نابلس، ثم اندمج فى الانتفاضة الثانية وتوابعها فى مطلع هذا القرن.
أسر الجنود الإسرائيليون (باسم) منذ عشرين عامًا، قضاها كاملة داخل سجون الاحتلال، ومازال، حيث حكم عليه بالسجن مدى الحياة لثلاث مرات!، بتهمة تخطيط وتنفيذ عملية أودت بحياة ثلاثة إسرائيليين، إلا أنه أكمل دراسته داخل محبسه وأصدر عددًا من الروايات، آخرها تلك الرواية التى أنهاها فى عام 2021 داخل سجن جلبوع.
تستعرض الرواية فترة من حياة الشاب نور الشهدي، وهو ابنٌ لمناضل ومقاوم سابق، انخرط الأب فى حركات المقاومة فى أثناء الانتفاضة الأولى حتى وقع فى أسر الاحتلال وزُجَّ به إلى سجونه، وما إن أطلق سراحه حتى أصابه الإحباط من المجتمع الجديد وما آلت إليه الأمور بعد اتفاقية أوسلو، حيث تخلى رفاقه عن المقاومة واتجهوا إلى المكاتب، فانصرف الأب عن كل شئ، تفرّغ لبيع الشاي والقهوة وامتنع عن الكلام حتى غرق فى صمت أبديّ. يعيش نور مع أبيه وزوجة أبيه فى أحد المخيمات فى رام الله، غير أنه يمقت تلك الحياة، ويسمّيها بحياة الأزقّة، بينما يجد راحته النفسية عندما يتسلل ويعبر نحو القدس، فالمخيمات هى الأزقّة والقدس هى الجنة. سعى نور إلى الهرب من الخواء والصمت والالتباس اللواتى يجدها فى بيته ومجتمعه، “لفظَ الأزقّة وخيبة أبيه وأجواء رام الله المرتعشة والخاطفة” متطلعًا نحو القدس، نحو السماء.
ينشغل نور بكتابة رواية تاريخية عن مريم المجدلية وسيرتها الغامضة، يحاول أن يسبر أغوار الأناجيل والمدن العتيقة بحثا عن تصوره عنها ورؤيته لها، وفى طريقه إلى هذا الهدف يستغل ملامحه الشقراء غير العربية ويستعين ببطاقة هوية إسرائيلية، يجدها عن طريق المصادفة، باسم (أور)- نظير نور فى العبرية- ليتسلل إلى القدس ومستوطنات الشمال، وعبر هذه الرحلة يحتك نور بالمجتمع الصهيونى ويواجه أفكاره عن قرب. نور تائه ومحتار، “بين رام الله والقدس، بين أبيه وظلّه، بين نور وأور، بين الصمت والبوح، ولذا فهو يسعى إلى التحرر، لا يريد أن يموت على مراحل كأبيه.” وتدريجيا تتحول رحلة البحث عن المجدلية إلى رحلة بحث داخل نفسه، عن ذاته، حقيقته وهويته وأفكاره.
يتنقل الكاتب بسلاسة وإتقان بين رؤى نور عن مريم، وبين رحلته تحت القناع الصهيونى فى أعماق مستوطناتهم، مشيرًا فى أثناء الرحلة إلى عمليات التهجير والطمس والإبادة التى حدثت عبر السنين، فتلك المستوطنة بُنيت فوق أنقاض القرية الفلانية، وهذا الجبل أُقيم فوق مقابر جماعية لأهالى المنطقة العلانية، فى تتبع جغرافى لآثار التجريف والانتحال اللذين بدآ قبيل 48 ومازالا مستمرين حتى زمن الكتابة، حتى محاولة تهويد حي الشيخ جراح.
أثار ترشّح الرواية وفوزها بجائزة البوكر العربية الدوائر اليمينية في إسرائيل، حيث تم اقتياد باسم خندقجي إلى حبس انفرادي لمدة اثنيْ عشر يومًا، كما تم تكبيل قدميه ويديه لساعات طويلة، وتعرض لحملة تدعو إلى الانتقام منه بقيادة (بن غفير)، إلا أن هذا لم يُثنِ خندقجي عن مساره، وما إن هدأت أوضاعه داخل السجن حتى عاد لكتابة روايته التالية والتي صدرت في مطلع 2025.
سادن المحرقة :
استكمل خندقجي رحلته مع (أور) و(نور) في رواية (سادن المحرقة، قناع بلون السماء II) وأكمل كتابتها في معتقل هدريم بعدما نُقل إليه من سجن جلبوع، وهنا ينتقل باسم بقلمه وعينه وكل أدواته إلى الجانب الآخر من الصورة، إلى قلب تل أبيب، إلى (أور) الحقيقي، الذي تبث لنا الرواية صوته في لعبة فنية صعبة، فكيف يكتب الروائي عملًا كاملًا على لسان عدوه الذي يرى العالم بمنظور مناقض تمامًا لقناعات الكاتب؟ كيف يقوم بهذه المهمة دون أن يمنطق رؤية عدوه ويتبنّاها بشكل كامل من جانب، ودون أن يبدو ساذجًا في تسفيهها من جانب آخر؟ لعبة خطرة تتطلب مهارة وموازنة كي لا يفلت العمل إلى ما لا يرضاه الروائي، وهو ما نجح فيه باسم إلى حد كبير، تحديدًا في ثلثيْ الرواية الأول، قبل أن يلجأ في الأمتار الأخيرة منها إلى إضافة فقرات على لسان (نور) الفلسطيني، من خلال عرض فقرات من بودكاست يقدمه الأخير، وهي حيلة لمزيد من توضيح وجهات النظر وضمان ألا تختلط الأفكار على القارئ، غير أنني أرى أن هذا الجزء كان زائدًا وبلا داعٍ.
عرض لنا باسم بالكثير من التدقيق والانسيابية والتحليل سيرة (أور) على لسانه، حيث وضح لنا من خلال حكيه تارة ومن خلال مذكراته تارة أخرى اضطراباته النفسية وأزماته الأسرية وكوابيسه اليومية، كان هذا كافيًا لبلورة فكرة الكاتب وتصوره دون التباس، بالإضافة إلى شخصية (مريم) التي لجأ إليها (أور) لتُعلمه العربية، وباتت كابوسًا إضافيًا له، فهي دائمًا ما تواجهه برؤيتها الفلسطينية للواقع وللتاريخ بحدة وثبات وتحدٍ، ومن المفارقات أن مريم تطلعه على مقال عن حادثة النقب الوحشية التي ارتكبها الجنود الإسرائيليون في عام 1949، وهي الواقعة نفسها التي تعرضت لها عدنية شبلي في روايتها (تفصيل ثانوي).
يدافع أور شابيرا عن نفسه وعن قومه، سواء في مناقشاته مع مريم أو فيما يدور داخل عقله، متذكرًا محارق النازية ضد اليهود، والتي تبدو وكأنها مبرر لكل شيء وأي شيء، فهو حارس لهذه المحرقة وذكراها كما أنه حبيس داخلها في الوقت نفسه، إلى حد أنه قد يرتكب جريمة في حجمها أو أكبر متحججًا بما تعرض له أجداده قبل عقود.
في هذه الرواية يبرز سؤال أساسي، من يرتدي قناع من؟ هل حقًا (نور) هو من انتحل شخصية الجندي الاشكنازي السابق (أور) ليتسلل إلى القدس؟ أم أن (أور) هو من ينتحل شخصية (نور) العربي الفلسطيني، بل ينتحل حياته كلها، ينتحلها بالوراثة وعبر الأجيال والسنين، ربما يتعرض باسم لهذه الفكرة بشكل أكبر ويفصلها بمزيد من التحليل في الجزء الثالث المنتظر صدوره من تلك الثلاثية.
****
تعرض الروائيون الثلاثة لمحاولات تضييق من جهات مختلفة، سواء من الاحتلال أو الإدارات الغربية أو السلطة الفلسطينية نفسها، ولكنها أتت بنتائج عكسية وساهمت فى المزيد من الانتشار والمقروئية لتلك الروايات حتى وصلت إلى أغلب أقطار العالم العربي. وعلى الرغم من الاختلاف الأسلوبي بين الكتاب الثلاثة، إلا أن ثمة مشتركات تجمع بين هذه الروايات، فالشخصية الفلسطينية المعاصرة عندهم جميعا تشعر بالعزلة، بالانفصال عن محيطها، بالاغتراب وإن اختلفت طبيعته، مما يدفعهم إلى البحث عن طرق جديدة، وعن أنفسهم، سواء بالانتقال فى المكان أو فى الزمان، فبطلة عدنية شبلي ذهبت إلى الماضي ونبشت فيه، وكذلك فعل (نور)، أما أبطال يحيى عباد فقد حاولوا الهروب من الماضي بالقفز إلى المستقبل، والجميع غيروا أماكنهم ومدنهم فى أثناء رحلات بحثهم عن ذواتهم المضطربة والمنهكة والمنتهكة. كما أن عيون الروائيين الثلاثة لا تتوقف عن رصد التغيرات التى تحدث فى بلدهم المغتصب، سواء التغيرات الاجتماعية أو الجغرافية، سواء ما أصاب الخرائط من تلاعب أو ما انتاب النفوس من ارتباك. ليس الفلسطينى عند أى منهم بطلًا خارقًا للعادة، ليس سوبر مان، ولكنه لا يتوقف عن خوض الصعاب، مرغمًا أو مختارًا.
تعرض الروايات الأربع جوانب مختلفة ومتقاطعة من المأساة، دون ميلودرامية مفجعة، دون بكائيات، فهذه المأساة مغرقة فى واقعيتها، دون مبالغة أو تزيد، وهو مايزيد مأساويتها بشكل غير مباشر. تتفاوت الروايات فى فنيتها وفى تعمق نظرتها وفى اتساع رؤيتها، إلا أنها تجتمع فى النهاية لتكمل صورة حزينة لمجتمع يعانى من الاحتلال والتشرذم والاغتراب، ولكنها أيضًا لا تخلو من الأمل، أمل أنهم مازالوا يبحثون عن أرواحهم دون كلل، مازالوا يسجلون كل لقطة وكل موقف، مازالوا يحفظون كل لحظة فى تاريخهم وكل أثر على أرضهم، وكأنهم يستعدون ليوم ما يعيدون فيه رسم الخريطة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلاً عن أخبار الأدب المصرية ..يوليو 2025