بسمة الخطيب
أثناء عودة ندى إلى البيت، وقد شفاها المشي من الصداع، شعرتْ بأنّ الطريق مختلفة. لمست حضوراً غريباً، وتنسّمت رائحة بحر ودماء حيض دافئة رغم الكمامة. ثمّة من مرّ على هذه الأعشاب ومسح نداوتها، وترك أصدافاً مخروطيّة الشكل خلف خطواته.
عند عتبة الباب جلست امرأة مسندة رأسها إلى صرّة قماش قديمة وضعتها بين صدرها وركبتيها المثنيّتين.
“أهلاً”، قالت ندى بصوت بحّه الحداد والصمت الطويل.
رفعت المرأة المكمّمة الفم والأنف رأسها ووقفت بنشاط لا يوحي به مظهرها. تحرّك شيء داخل ملابسها أو صرّتها، أو ربّما شعرها. شيء له صوت الشاردات الخائفات من الظلمة والرياح. أرخت طرف منديلها عن أنفها وفمها وقالت بصوت منكسر: “أهلاً. أبحثُ عن حسينة”.
وضعت ندى دلوَي الحليب البقريّ الطازج على الأرض بارتباك، حتّى كادا أن يقعا. واجهت المرأةَ الغريبةَ جسداً لجسد. شعرت للحظة بأنّ إحداهما على الأقلّ قد تاهت من زمنها.
“أميرة، ابنة حسينة تقصدين. حسينة رحلت قبل سنوات عديدة”.
بدا وجه المرأة لطيفاً ومريحاً، وإن لم يساعد على تخمين عمرها. فقد كانت تبدو طفلة وشابّة وكهلة وعجوزاً في آن، وكأنّ عمرها كلّه، بكافّة مراحله، ممهور على وجهها.
أصرّت الغريبة: “بل هي حسينة”.
مسحت ندى قطرة مطر عن خدّها ونظرت إلى السماء، بينما انقلبت تعابير الغريبة من الثقة إلى الحيرة وقالت: “ربّما ابنتها”. ثمّ شرحت وهي تُحكِم ربط صرّتها: “الأسماء كلّها واحدة. أريد المرأة التي تجيد الحياكة”.
تابعت أصابعَ ندى وهي تتلقّى قطرتي مطر أخريين وسألتها: “أنتِ؟”
هزّت ندى رأسها بالنفي وقالت: “لا. ليس تماماً. تفضّلي إلى البيت، ستمطر”. طرقت الباب طرقتين. حين همّت بتكرار الأمر انتبهت من غفلتها. أخرجت المفتاح بارتباك وفتحت. أدخلت الغريبةَ ثمّ تبعتها مع دلوَي الحليب. وهي تغلق الباب ارتجّ قلبها.
“أمطار الربيع لا تُؤذي”، قالت الغريبة بصوت متهدّج كأنّه يمطر الحروف بتؤدة ومن دون أذيّة. تقدّمت بثقة نحو صالة البيت، وأدارت ظهرها لباب المشغل، حيث كان والدا ندى يمضيان جلّ وقتهما. قالت بصوت رقيق ومنكسر: “أحتاج إلى المساعدة. إنّه أمر مُلحّ”.
تعاطفت ندى مع المرأة الموشكة على البكاء. أشارت لها أن تجلس على الصوفا بينما جلست هي قبالتها. راحت الضيفة تحاول إخفاء عروق إحدى يديها بيدها الثانية الأكثر شباباً. وضعت رجليها تحت عباءتها ذات المخمل البخس الذي ظهرت أسفله حاشية غير مألوفة النسيج.
تكرّر الرنين الخافت.
قالت: “لي أمانة عند حسينة أو أميرة، أم لعلّها مهجة؟! لا يهمّ. المهمّ أنّها كُلّفت برتق مُزق نسيج، والحفاظ عليه من العثّ وانحلال قُطبه. أريد استرداد الأمانة”.
أخرجت من صرّتها قطعة قماش مطويّةً وفردتها، فإذا هي نسيج من الغرز البديعة البالغة الدقّة. قالت: “هذه أمارة. عيّنة”.
شهقت ندى وسرعان ما وثبت من مكانها لتلمس القماش بيديها قائلةً: “ما أروعه!”
“هو كذلك. شُغِل قطبةً قطبةً بدمع العيون ووهج النذور”.
جلست ندى قرب المرأة وسألت وهي تتابع تفحّص النسيج: “ما هو؟ حرير؟ أم قطن؟ أم كتّان؟”
“جميعها وقنّب. للأسف أتلف الزمن وهجها”، قالت وهي تلمس الخيوط وكأنّها تواسيها. ثمّ راحت بتلقائيّة تحكي عن الطريق الشاقّة التي قطعتها لتصل إلى هنا: “أتيتُ من بلاد بعيدة، مررتُ بحروب وأسوار وأسواق نخاسة وسجون وأوبئة، نهبتُ الأهوالَ نهباً. فدادين من الأهوال… آه! أوبأت البلاد كلّها، من أعلى الصدع إلى أدناه!”
قالت ندى متهرّبة من تلك الكلمات المُبهمة: “آسفة، جدّتي حسينة رحلت قبل سبعة عقود. قتلها زلزال عام 56”.
قاطعتها: “إذاً ابنتها أميرة”.
“رحلت أيضـ”… أوقفت الغصّةُ جملَتَها.
“إذاً أنتِ”، قالت المرأة بهدوء من يعرف كلّ شيء ولا يُبدي دهشةً لأيّ خبر، وكأنّه سبق أن تألّم وصُدِم على وقعه. وضعت يدها على يد ندى اليمنى، فسرى دفء حميم فيها، لم تشعر به منذ زمن.
طأطأت ندى رأسها ونزعت كمامتها ثمّ شعرت بجبينها ينحني فوق كتف المرأة ويرتاح هناك، فانفلتت ضفيرتها الرخوة الناعمة. تضوّعت من كتف المرأة روائح الزيتون في المعاصِر، وشموع الأديرة، والأبخرة المتصاعدة من الشرانق وهي تُغلى في المياه الساخنة تسبقها روائح أدخنة الكرخانات ورائحة اسطبل خيول وأعشاب ضفّة نهر ورذاذ زبد…
كادت ندى تغفو، أو لعلّها سهت بالفعل ورأت كلّ تلك الصور وشمّت روائحها في سهوها. ثمّ رفعت رأسها، لتعدّل جلستها. وضعت يدها بتعجّب على شعرها لتكتشف أنّ المرأة عقصت لها نصف ضفيرة مُحكَمة. ابتسمت المرأة وأشارت لندى أن تستدير لتكمل لها الضفيرة، فانصاعت بسرعة، وقالت وهي تلمس النسيج: “سأجده وأصلحه. تعلّمتُ شغل الصوف والخياطة في صغري. كنت أحوك في أوقات فراغي إلى أن”…
“إلى أن ماذا؟”
فكّرت ندى قليلاً ثمّ تابعت: “انشغلتُ بتنفيذ ما توجّب عليّ. ما طُلب منّي”.
“ماذا طُلب منكِ؟”
“تحقيق حلم أمّي أن أصير طبيبة، وحلم أبي أن أتزوّج”.
“وحلمك أنتِ؟”
أُحرجت ندى ولم تعثر على إجابة. نظرت إلى النسيج “العيّنة” وتخيّلت أحلامها تنبت بين زخارفه: أطفال يلهون بين بساتين خوخ وكرز، وشاطئ قريب يتردّد هدير أمواجه بين ضحكاتهم، وأرجوحة من سيقان الياسمين…
توقّف المطر في الخارج وانقشعت الغيوم بتثاقل. أحكمت المرأة عقد ذيل الضفيرة الرفيع وأرختها على ترقوة ندى اليسرى. التفتت الأخيرة مذهولة ونظرت مليّاً إلى عينيّ المرأة زيتيّتي اللون وما بدا من شعرها الحائر بين الفضّي والذهبيّ وحواشي منديلها المنمّقة.
وكأنّ ندى كانت تحت تأثير بخّور منوّم واستيقظت فجأة. سألت ضيفتَها بريبة: “ألم نتقابل سابقاً؟ أشعر بأنّني أعرفك”. حافظت المرأة على صمتها الهادئ. لم ترمش، لم يرتخِ جفناها العلويّان المشدودان. تلاحقت صور غامضة في رأس ندى المثقل بأوجاعه، وقالت بلهجة أكثر توتّراً: “من أنتِ؟ ما اسمكِ؟”
أخذت الغريبة النسيج ووضعته على رأس ندى، فتدلّى حول خدّيها المرصّعين بالنمش العسليّ الذي فاض من لون شعرها. أجابت بهدوء: “أخبرتكِ أنّ الاسم لا يهمّ. سأرحل قبل الظلام. الوادي لم يعد آمناً”.
تحوّل وجه المرأة إلى الوجه الأكثر ألفة. حاولت ندى أن تصرخ باسم أمّها، لكنّ ألماً شديداً صعق رأسها. غمرت أشعّة الشمس الضيفةَ، أشعّة قويّة أجبرت رموش ندى على الارتعاش. ما عادت ترى شيئاً من شدّة النور.**
انتشر الضباب في الوادي وغطّى كلّ شيء، حتّى الأرواح المنبوذة المتّهمة بالهوام فيه.
لفّ بخارٌ حليبيّ دافئ أطلالَ القصر والمرأةَ الغريبةَ وصرّتها، وربّت على عاتقها ألّا تخشى أمراً. رنّت أصداف مخفيّة في ثنايا ثوبها.
التفتت نحو عاتقها ولمحت بطرف لحظها خيال حفيدةِ حسينة خلف إحدى النوافذ المغبّشة. ستفقد أثرَها الآن، لكنّها ستهتدي إليها قريباً. ستعثر على دربها الشاقّ. يكفي أن تتبع أثر ذاك النسيج. هو أيضاً سيساعدها، سيقترب منها عدّة خطوات مع كلّ خطوة تخطوها نحوه.
قبل أن تدخل قصر الهجران، أرخت أذيال ثوبها التحتيّ لئلّا تخلّف خطواتُها أيّ أثر.
تلك حيلتها المثاليّة، تترك الأذيال تمحو كلّ شيء من دون حتّى أن تلتفت خلفها. حافظت على عهد قديم ألّا تلتفت إلى الوراء. لا تحتاج إلى أن تفعل، فكلّ مرّة تدخل القصر، وتقف قبالة نقش الإلهة تانيت تستعيد حياتها كلّها، وكأنّها تحدث لأوّل مرّة. القصر نفسه يفعل. ما إن يدثّره الضباب حتّى تُولد حكايته من جديد، منذ بدأ فكرة في رأس حاكم ما وحتّى حاضره.
يتشظّى صوتٌ قاسٍ من بعيد آمراً ببناء قصر الهجران: “شيّدوا قصر الهجران!”
يتردّد صدى الأمر حتّى يصل إلى وادٍ بعيد، مهجور. وسرعان ما يتتابع تاريخ القصر كذاكرة إنسان يفارق الحياة. يومذاك لم يكن الأنبياء الموحّدون قد ظهروا بعد، وكان البشر يخافون من الآلهة ويتضرّعون إليها ويسلّمون أمورهم لكهنة معابدها، لذا فإنّ باني القصر كان كاهناً، وليس ملكاً أو فرعوناً كما يتصوّر البعض. أياً كان اسمه، ثار غضبه إلى درجة جعلته يبني مكاناً بهذه القسوة. قِيل بسبب خيانة إحدى زوجاته، وحُكي عن أسباب أخرى. في المحصّلة، هجَّر الكاهن الساخط إلى القصر الخائناتِ والعاصيات والمتمرّدات والموبوءات.
كان الوادي مهجوراً ومع القصر صار موطن الهجر.
تخطّى الألمُ في القصر الاحتمالَ. القصر المنيع الذي نُحِت في صخر السفوح المطلّة على الوادي لم يحتمل القسوة التي رُميت تلك النسوة بها. الصخر نفسه رقّ لأنينهنّ الملتهب وأحزانهنّ العميقة، فسمح لأغانيهنّ أن تجوب الوادي وتسكنه حتّى بعد صمتهنّ.
زمنَ بناء قصر الهجران، لم يكن مقدّراً أن تُولد طفلة تصير قرباناً يسترضي النيل أو آلهةَ الخصب، أو تصير شهرزادَ فتُنقذ بنات جنسها من الإبادة، أو بلقيس لتُجنّب شعبها الحروب، أو بينولوبي لتحوك ثوب زفافها وتكرّه حمايةً لمُلك زوجها الغائب، أو امبراطورةً صينيّة تحتفظ بأسرار الحرير لتضمن لشعبها التفوّق والعظمة، أو حوّاء لتصنع من ورق التوت لباساً يستر العورات ويستجدي المغفرة، أو أميرة قروسطيّة تنام وغابتها ومملكتها ألف عام في انتظار يوم مقدّر، أو حتّى مريم لتنجب طفلاً يصير مسيحاً يحيي الموتى ويغفر للخاطئات ويُشفي المرضى ويحتمل عن البشر عذاباتهم. زمنَ قصر الهجران كانت النساء يزرعن ويغزلن ويحبُكن. كنّ يؤمّنّ الطعام واللباس من دون الحقّ في النطق أو الشكوى. لذا توافدت النسوة المُذنبات صاغرات إلى عقاب فريد: الإعدام هجراً.
لم يُوضع حرّاسٌ أو جنود أو حتّى حيوانات شرسة لحراسة القصر. أيّة أنفاس أخرى كانت لتكسر هيبة الهجر وتؤنس المهجورات. عُلّقت أيديهنّ وأرجلهنّ بقضبان القصر وأُقفِل بابه بشكل مُحكَم، ثمّ نجحت إحدى محظيّات الكاهن المقرّبات في إقناعه بتعيين واحدة من السجينات سادنةً للقصر من دون أن تملك أيّ مفاتيح، فقط لتدفن من تموت منهنّ في السرداب، بعد أن أبلغها البغّال- المخصيّ- عن فظاعة تحلّل جثث الميّتات.
كان البغّالُ الوحيدَ المسموح له بنقل السجينات وحمل المفتاح. حتّى بعد تعيين سادنة، بقي المفتاح معه، لكنّه راح يسلّم تلك المرأة المحظوظة بعض الخبز لتقوم بمهامها. مثلهنّ، كان يعرف أنّ عيون رجال الكاهن وسِباعه ترصده. يفتح الباب المصنوع من جذوع السنديان لتستلم سادنةُ القصر المرأةَ الجديدة المغطّاة الرأس، المكبّلة المعصمَين والكاحلَين. يسلّمها أيضاً لفافة، تدمغها بلون قرمزيّ يُصنع من حشرات تعيش في خشب السنديان نفسه، ثمّ تعيدها للرجل الذي يرجع دامعاً مع بغلته. ربّما بكى البغّال في كلّ مرّة أوصل امرأة إلى موتها. هو يعرف أنّها رحلتها الأخيرة، ليس لأنّ الكاهن لم يعفُ عن أيّ من تلك النساء، وليس لأنّ لا مجال للهرب من القصر، بل لأنّ صوت المرأة يقول هذا. كان يعود وحده، محمّلاً بحكاية حكتها المرأة التي أوصلها، أو خمّنها من وحي خبرته على هذه الطريق. مع رغيف الخبز، يُسمح له بأخذ سقاء ماءٍ فقط، فيتقاسم شربه معهنّ. الوحيدة التي لم يعرف قصّتها هي تلك السجينة الصمّاء البكماء التي تميّزت بجمال هادئ شفيف لا يكاد يُرى إلّا من قريب، وكأنّ ستارةً من حرير العناكب تحجبه. تلك لم تستطع أن تحكي أو تبكي، لكنّها ذرفت حليباً بلّل ثوبها. حين شمّ رائحة حليبها تذكّر أمّه لسبب ما. لقد حكت له عن “امرأة عجيبة” لا تهرم، صمّاء وبكماء، عرفتها في الصبا قبل أن تفرّ من الجوع والوباء في سواد الفرات، وقد حدَس بأنّها والسجينة البكماء المرأة نفسها.
*
نقلت أمّ البغّال عن أهل سواد الفرات، أنّ “المرأة العجيبة” طالما كانت هناك. لقد أتوا وعثروا عليها. إنّها كالثروة التي تتأسّس حولها كلّ معمورة. كنبعة الماء العذبة التي يُعثر عليها في نواة كلّ دسكرة وقرية.
وُجِدت جالسة تغزل صوف شاة ضحّت بها لنذر ما. حين تنزل امرأة في مكانٍ تنسج، وحين تنسج في مكانٍ يصير وطنَها.
قبل دهور شُوهِدت جدّة لها تغزل من جذور النبات شِباكاً لتصيد من خيرات النهر، لكنّه راح يشحّ ويلهث في جريانه ويبخل حتّى بالطمي والقصب.
أمّا هي فقد كانت هناك عند باب الدسكرة المهجورة، شعرها الغزير يشعّ من تحت طرحتها، معافاة سليمة، كبيوت العناكب، دليل سُكنى وسلام. لم تكن العناكب سوى صديقاتها، ويبدو أنّ تلك المرأة تعلّمت من العناكب عن الغزل والحياكة أكثر ممّا ورثته عن جدّاتها.
لا أحد يعرف، ولا هي نفسها، متى وُلِدت وأين.
حاول من عثروا عليها أن يفهموا حكايتها. حين لم تردّ عليهم أو تلتفت لنداءاتهم استنتجوا أنّها صمّاء وبكماء.
هذا الأمر أراحها. سبق أن رأت كم عانت الأخريات بسبب كلامهنّ، فانصاعت لحكمة المسنّات، فراحت تنذر صوماً عن الكلام بعد صوم، حتّى استطابت الأمر وأقنعت نفسها أنّها فقدت القدرة على النطق. لذا كان من السهل أن تُقنع الآخرين. بدوا سعداء وهم يستنتجون. ما أسعدهم أكثر هو أنّها لم تُعطهم حكاية عن نفسها، وهذا منحهم لذّة اختراع واحدة لها.
لا بدّ من أن يصنعوا لها حكاية واسماً وأمّاً وجدّات.
سمّوها “الغازلة” لأنّ هذا ما كانت تقوم به معظم الوقت. راحوا بدورهم يغزلون خيوط الحكايات حولها.
– ربّما تخلّى عنها أهلها في هذا المكان المهجور. صحبوها إلى هنا وانتظروا نومها ورحلوا.
– لا شكّ في أنّها أتت إثماً عظيماً لتلقى هذا المصير.
– فأين إذاً ثمرة إثمها؟
– أكلتها الوحوش.
– نعم. هذا يليق بالمأساة المرسومة على سحنتها.
– لعلّها مباركة، أو نصف إلهة، لتنجو وحدها بين الجميع.
حين عثروا على الأكواخ الطينيّة المقفلة بالتراب وراحوا يزيلونه عن المنافذ، اكتشفوا هياكل عظميّة لبشر من مختلف القامات.
كان من عادة البشر منذ دهور سحيقة أن يحوّلوا المساكن التي يُطعن* أهلها إلى قبور. يسدّون منافذها كي لا يخرج الوباء منها مع خروج الأرواح أو الحشرجات أو حتّى الاستغاثات لمن تبقّت فيه روح. كما كانت هذه الطريقة تمنع روائح الجثث من التسلّل إلى الحيوانات الضارية. ربّما نجت هذه الفتاة، أو أتت بعد موت الجميع. لكنّ بقاءها هنا، رغم قسوة المكان ووحشته، دليل على أنّها ابنته. تُنبت الأرضُ الألفةَ في قلوب البشر من حيث لا يدركون، وإلّا لبقيت أماكن كثيرة من دون أن تؤْهل، من دون أن يعود أهلها إليها في نهاية رحلة حياتهم. منعت تلك الطريقة الضواري من الفتك بالجثث، وأجبرتها على الابتعاد، إلّا واحدة من بنات آوى، كانت تتقاسم القليل من الطعام مع الصامدة الوحيدة.
بطريقة ما، كانت بنت البشر تلك تعثر على عظام حيوانات نافقة، فتروح تفتّت بعضها بصخرة قويّة، وتطهوها مع الماء وتحتسيها، ولا تنسى أن تترك لبنت آوى نصيبها.
حين اكتشفوا على نحرها وحمةً لها شكل الإلهة تانيت- التي تفرد ذراعيها وتجلب الخصوبة للأرض- توقّفوا عن محاولة معرفة أين كانت قبل هذا المكان، وأعلنوا أنّ هذا لا يُجدي ولا يعنيهم، بينما كانوا في سرّ كلّ منهم يطربون لرواية خرافيّة تقول إنّ إحدى خادمات معبد تانيت تعيش في الأرجاء، وُلِدت في لحظة مجهولة، وهي ما زالت حيّة.
أحبّ كثيرون هذه الرواية وتبنّوها. إنّها من ذاك النوع الذي لا يُقاوَم. حتّى بطلة الحكاية بدت ممتنّة لتلك التعويذة التي حمتها من القتل والإذلال. عرفت أنّها ستمضي إلى مصير إناث الضواري المحيطة بها، ستموت بعد أن تُنجب وتُرضع وتُساعد نساء أخريات، بينهنّ بناتها، على وضع أطفالهنّ وتعلّمهنّ عن الأمومة وإدرار الحليب والزراعة والغزل والحياكة وحيَل التغلّب على الجوع والحروب والأوبئة والأسى والهجر.
بعد انحسار الطاعون، وزّع الكهنة مواريث الموتى الكُثر، وبينها القرى والدساكر، تحديداً التي تموِّل المعابد، سواء بالمال أو المؤونة أو الخدم. أسرتان تولّتا أمر تلك القرية الخاوية على بيوتها الطينيّة ومزارع نخيلها الجافّة. تانك الأسرتان كانتا أكثر حظّاً من غيرهما، فقد ورثتا القريةَ وتلك الأنثى البكماء الملغِزة والمعجِزة.
أمر أخير أعجزهم: تفسير تماوج لون عينيها. لم يعرفوا ما تلك الدرجة من الخضرة في حدقتيها. لم تكن درجة، بل درجات. حين تلامس الشمسُ رموشَها تصير الخضرة أفتح وأفتح… لم يفهموا لأنّهم لم يروا، ولا هي رأت، شجر الزيتون الذي سيهب لونه لعيون نساء يعتنين به ويعشقنه عشقهنّ لرجالهنّ وحبّهنّ لأطفالهنّ، وسيحافظن على الهبة ويورثنها لحفيدات بعيدات تطايرن كحبوب الطلع على امتداد الصدع، بعد عصور من ولادته وإنجابه لطفله الصغير، الوادي.
………………….
* يطعن: يصاب أهلها بالطاعون
*روائية لبنانية .. الرواية تصدر قريبًا عن دار الآداب