رواية”بورتريه لأبي العلا البشري” .. حين تُكسر الأُطُر

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ماجد سنـارة 

(قال إبراهيم عياد أن الناس مراوح..)

بداية خاطفة للرواية، مثيرة للشغف، وموقظة للفضول، خاصة وأنها تدور داخل مصحة للأمراض النفسية والعقلية، لأشخاص لفظتهم الحياة، وكان الموئل الوحيد لهم داخل جدران المصحة.

(عودة الصعاليك)

في عصور الجاهلية ظهرت جماعة الصعاليك، ليمثلوا حالة من التمرد على القبيلة والرفض لكل ما هو سائد من قواعد أخلاقية ومعايير مجتمعية، وربما كان لكل صعلوك منهجًا خاصًا للحياة، وأفرزت هذه الجماعة شعراء تركوا بصمة خالدة في تاريخ الشعر مثل: (عروة بن الورد، وتأبط شرًا)

وقد أعاد باهر بدوي إنتاج شخصيات مشابهة، طابعها الاختلاف والسير عكس التيار، في مجتمع يرفض كل من هو رافض لقواعده وأحكامه، وتكون المصحة بمثابة فرصة لاجتماع مجموعة من المختلفين المتمردين، سواء البطل زهران العاشق للرسم، أو الشاذلي الكاتب المسرحي، أو حتى المتمردين من حيث الفكر سواء دينيًا أو أيدلوجيًا كإبراهيم عياد، أو الذين لا يجدون لهم موطئ قدم في الحياة لإعلان ميولهم الجندرية دون التعرض للكراهية والرفض  مثل هاني نوفا، فالعالم في الخارج في ظل قبضة حديدية لا يتسامح مع صرخات الاعتراض، حتى وإن مجدها أمل دنقل في قصيدته “كلمات سبارتكوس الأخيرة”:

المجد للشيطان معبود الرياح

من قال “لا” في وجه من قالوا “نعم”

من علم الإنسان تمزيق العدم.

(العنف كبديل للفن)

العقدة الأولى التي رسخت في داخل البطل ارتبطت بمفهوم العنف والقسوة واحتقار الموهبة، فزهران تجلت موهبته الاستثنائية في الرسم، تدفق فيه الإلهام وأحس أن شغفه الأول والدافع الأصيل لوجوده يتخلص فيما يخلقه من عوالم بريشته، خاصة البورتريهات، لكن أزمته تكمن في عالم/ أسرة، لا يعترف/ لا تعترف إلا بالقوة والمال، يعيش صراعًا ضاريًا، خاصة وأنه يتمتع برهافة الفنان، فيجد الرفض من أبيه العاشق للسياسة وقنوات الأخبار، والأخ الذي سخر منه ووصفه بالفاشل مرات، فهو يسخر منه قائلًا: “خلي الرسم والجري ورا النسوان ينفعوك!”.

وزادت حدة السخرية وصفه في موقف آخر: “كل فرفور، ذنبه مغفور”.

على الرغم أن الأخ “عبد الله” انتقل بين أربع جامعات لثماني سنوات متتالية، رسوب متكرر وإدمان للحشيش..

الازدواجية تظهر وتتبدى من خلال التفريق في المعاملة، فعبد الله يأتي بالمال ومفرغ من المشاعر، ينتهج القسوة، ومع ذلك تقف الأسرة خلفه لأن المال يحكم بأحكامه، أما زهران ينعت بالمجنون، المريض الذي لا بد وأن يسجن في مصحة.

(المؤسسة كرمز للطغيان)

حين كتب باييخو الإسباني مسرحية المؤسسة، سلط الضوء على كون الإنسان يخضع للاستغلال والاستعباد تحت طائلة أي مؤسسة طالما انعدمت الرقابة، كإشارة لإعادة إحياء العبودية برداء أكثر حداثة ومواكبة للعصر، والمصحة كمؤسسة قامت بدور مشابه، فالذي يقود هذه المؤسسة جماعة يطلق عليهم “العصبجية”، كإشارة ونقد للمؤسسات الرأسمالية وما يتوارى خلفها من استغلال واستنزاف للإنسان، حتى وإن ارتدت أقنعة التسامح والمحبة والعدالة، فهؤلاء العصبجية يسرقون قوت النزلاء ورفاهيتهم، يضيقون عليهم أنفاسهم ويمنعوهم أحيانًا من ممارسة مواهبهم، وعلى الجميع أن يمتثل ويرضى بالبلاء على حد قول “عم نعيم” أحد العاملين بالمصحة، الذي قال في الرواية: “المؤمن يا ترس دايمًا في بلوة، وبلوتك أهون من بلوة غيرك”.

وفي هذه الجملة الحوارية نقد ذكي ينم عن وعي كبير، فتشبيه عم نعيم الدائم للنزلاء بالتروس ينفي عنهم صفة الآدمية، يجعلهم مجرد تروس في عجلة الإنتاج لخدمة النظام الرأسمالي، وخلط ذلك بكلمة مؤمن، كنوع من التسكين للإنسان والقضاء على تمرده وتعشيمه بعالم آخر أكثر مثالية، ليدمج باهر بدوي في جملة واحدة بين ثنائية الرأسمالية والدين والتزاوج بينهما تحت إطار سلطة سياسية مستبدة لاستغلال الضعفاء والفقراء.

(بلطجة الدول الكبرى وغطرسة المؤسسات)

خطان متوازيان، خط استعمار واستغلال الدول الكبرى لدول العالم الثالث، وخط استغلال المؤسسات للأفراد، في دائرة قسوة وعنف لا تنتهي، فالنزلاء يتعرضون لمحو تام لشخصياتهم وتعدي دائم على خصوصياتهم وذواتهم، فنجد التمرجي مثله كالشرطي يقول: “كل حاجة هنا حقي أشوفها، حتى لباسكم واللي تحت لباسكم”.

طمس مستمر للذات والأنا والشخصية، وفي الخفي نستمع لأصوات طبول الحرب، تحتل أمريكا العراق وتسيطر على بغداد..

“فالدول العظمى بلغت المجد فوق جثث العالم الثالث، ولم تزل جائعة للاستزادة بخيراته”.

فالمؤسسات والدول الكبرى ذئاب، تنهش لحم الضعيف/ الضحية حتى آخر قطعة ولا تشبع.

(اليأس والثورة)

ربما قامت غالبية الثورات على أساس اليأس، حين يشعر الإنسان أنه على وشك الهلاك، أن الوضع وصل لأكثر المراحل سوءًا، حينها تكون الثورة بمثابة صحوة أخيرة للتشبث بالحياة، فيقرر تحدي كل المخاطر ويرفع نفس الشعار الذي رفعه النزلاء: “سنحيا كلنا ولو اختفى المزيد من النزلاء.. سنحيا”

وهذا اليأس هو الذي دفع الثلاثي زهران وبهاء عصفور وهاني نوفا لمحاولة الهرب، وحتى بعد الفشل الذريع دفع الشاذلي لتأليف مسرحية يعلن فيها الثورة وفضح المؤسسة، حتى لا يلاقوا مصير إبراهيم عياد وكريم الريس المهووس برونالدينيو.

وفي ظل ذلك تتبين الشروخ في النظام، تظهر هشاشته، سواء في مرافقة سماح لسعد التايك وسيد مهجة، أو في علاقة الدكتور بوالدة جاسوسهم في المصحة، بالإضافة لعجز السلطة في مواجهة أي رد فعل رادع أمام الثورة المفاجئة.

(اللغة الناقمة الساخرة)

لعل اللغة من أبرز نقاط القوة في الرواية، فقد استخدم باهر لغة باهرة، جريئة وساخرة، خلق من الألفاظ القبيحة حين وظفها في سياق درامي جمالًا خاصًا..

لغة كاشفة ومعبرة وحاملة للسخط الإنساني وإن امتزجت بالسخرية.

لغة تعري وتمزق الأقنعة وتكشف الزيف وتصرخ في وجه التصنع والازدواجية لتكون بمثابة صفعة لكل مدعي المثاليات ومبرري الاستبداد والطغيان..

وفي النهاية، أقول مثلما قالوا: “لا تتردد في إطلاق صرختك المكتومة للعالم، فأنت، وهم، وأنا، لم نكن مجانين”.

فالجنان الحقيقي في العالم المسعور، والعيب دائمًا في النظام.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي مصري، 
الرواية صادرة عن دار الرواق 

مقالات من نفس القسم