سيرة متخيلة للنسيان

abd alrahman ibraheem
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن إبراهيم

(١)

حين استيقظ السيد “ن” من نومه ذات صباح على رؤية مشوشة، ظن لوهلة أنه قد فقد بصره.

ليست الرؤية وحدها كفيلة بإعادة النظر إليه بالقدر الذي ستعيد به ذاكرته المثقوبة حياته، فبينما يقوم السيد “ن” من نومه متأملًا أرجاء غرفته الخالية إلا من مكتبه وفراش على الأرض، سقطت مفكرة صغيرة من بين أحضانه النائمة، ليمد يده الضريرة ملتقطًا إياها، وبينما يضيق عينيه مستعيدًا مع كل حرف يخمنه شتات ذاكرته المفقودة، كانت الرؤية تبدو أكثر وضوحًا من ذي قبل، وبدا عنوان المفكرة مثل قصيدة حداد يومية، فليس هناك أمر أكثر فداحة من شخص يستيقظ كل صباح ليدرك مع تفاقم الوقت أنه قد نسي نفسه!

كان العنوان الذي يتوسط المفكرة هو “سيرتي الذاتية” وقد أشفق على نفسه من ركاكة روحه المبتذلة، فهو لا يكن كراهية لأحد أكثر من كُتّاب السير الذاتية، ومن مؤلفي قصص “المُحن” المستوحاة من أحداث حقيقية، فكلا الأمرين واحد، حياة الكاتب أيضًا مستوحاة من أحداث حقيقة إلا أنه في أسوأ الأحوال سيبرز فيها ما يريد قوله فقط، فمثلًا؛ لن يذكر أيامه التي عاشها على مضض من اضطراباته الأخلاقية، لن يذكر لحظات استمنائه في الفراغ، أو نظراته المتحرشة لأجساد المارة، أو تزيين أفكاره بما يلائم آراء الأغلبية في القضايا الأكثر حساسيه، فهم لا يختلفون عنه في شيء، ففي كل الأحوال، يصاب المرء بالشيخوخة في اللحظة التي يريد فيها الحديث عن نفسه.

(٢)

حين فتح الصفحة الأولى قرأ التالي: لا تنس حياتك في الدرج!

يبدو أن أسلوبه الرديء في التذكر أصبح لوثته الأبدية أكثر من النسيان، فيحين نريد أن نصل إلى سطع المعنى لا ينبغي على المرء أن يراوغ في الإتيان به عاريًا، تلك فضيلة هشه، لا يحتاج أن يصارع بها الوقت الذي ينفذ من حياته للوقوف متأملًا أمام صدى الأمس في أذنه وهو يتردد مثل وهم محقق، فهو يدرك جيدًا أنه حين يستيقظ من نومه ليس عليه معرفة من يكون على وجه التحديد، لأن المعرفة الحقيقة مقرونة دائمًا بما مضى، أما الآن فهو يصارع نسيانه.

سار متكاسلًا إلى مكتبه المتهالك، ثم مد يديه ليفتح درج المكتب ملتقطًا كومة أوراق ممتلئة لمسودة أولية لروايته الأخيره، كُتب عليها بخط يد مرتعشة “سيرة متخيلة للنسيان ” بدون أن يذكر اسمه، وحين بدأ في تقليب صفحاتها، وجد أن معظمها فارغةٍ معادا الربع الأول منها فقط، الذي سَطره بيديه دون أن يعلم متى بدأ في كتابتها رغم وجود تاريخ يعلو كل صفحة منفرده، كأن الزمن يسارع بقتلها على أعتاب موته، لقد أدرك السيد “ن” دون خشية، أن حياته على وشك أن تتلاشى رويدًا مع شيخوخته، وأن يديه المرتعشتين لم يصبهما العطب أبدًا لكنهما مع مرور الوقت فقدتا بوصلتهما.

لا يعلم متى بدأت ذاكرته في شيخوختها المبكرة، ولكنه حين أدركها في وقت ما، بدأ في كتابة روايته قبل نفادها من داخل عقله، فبعض الخطوط الأولية التي وضعها أثناء لحظات الكتابة المتقطعة، عثر عليها بعد فترة قصيرة كأنه يتعرف عليها لأول مرة، وقد برزت في ذهنه تلك الفكرة المرعبة، بعد عمر طويل، حين يصبح عقله خاويًا من الذكريات، ليعثر عليها في مكتبه، وليطالع اسم كاتبها لأول مرة وقد تحول إلى قارئ.

ظن السيد “ن” أن الكتابة ملاذ آمن للذاكرة، وأن هويته وإن محيت تمامًا، سيكون قادرًا على الإتيان بها عبر أبوابه المجهولة، فالكتابة بالنسبة له هي عملية قراءة ما يجهله بغض النظر عن ما فقده، فكل الذكريات ستأتي زاحفة تحت وطأة ما يتكشف أمامه من عوالم غامضة، فليست اللغة أحيانًا إلا بيت عنكبوت ينصبه المرء في ترحاله، وأنه حين يفقد بوصلته تمامًا، ليس عليه سوى أن ينصب نفسه داخل السياق، ففي تلك اللحظة أصبحت هويته وليدة الموت، وليس عليه سوى أن يحيك بالكلمات ما يلائم حدادها.

(٣)

كانت نافذة السيد “ن” تطل على أرض واسعه، تحيطها الأشجار على امتداد البصر، بقيت فيها المساحات الفارغة مثل موطنٍ آمنٍ للغرباء، يراقب من نافذته الفراغ المحبط الذي يطوقه كشرنقة أبدية، وفيما يتأمل سماءه التي اقتحمتها أسراب من الطائرات الورقية، كان هو يخشى السقوط.

فمع مرور الوقت أصبح أكثر ما يخشاه في حياته تلك الخفة، الخفة التي تفر من يديه دون أن يحكم قبضته عليها، لقد شعر طوال حياته وفي أغلب الأوقات المستقرة منها آمنًا دون أن يخون أي عضو من أعضاء جسده في أن يطعنه على حين غفلةٍ منها، ولقد أحس في بعض الصور الوهمية التي تراوده في بعض الأحيان بأن ذاكرته تبعث له عزاءٍ في عطبه، وكأن اعتذارها الواهي دليلًا على خيانة محققة، فبعجزة عن التفريق بين ما حدث ومالم يحدث، أصبح تسليمه للقدر أمر لا مفر منه أمام صرح من المعاني المبهمة.

في جلسات كتابته المتقطعة، ظل مجبرًا على مراجعة جميع الأجزاء السابقة التي كتبها بثقل روحه الهشه، وبقي الحذف بالنسبة له مثل جناية لا يرتضيها لعجوز قارب على عامه السبعين في ذروة صراعه مع الموت، فبعض المقاطع التي تنقصها صلة بالسياق كان يختبر فيها ارتجالاته النثرية على خطى الأقوال المأثورة، وقد ظن أن قارئه سيكون بمثابة ذكرى يتصادف معها في الطرقات، حتى وإن لم يسعفه الوقت لأن يكون حاضرًا.

لكنه نسي الكيفية التي ستصل بها الرواية إلى الناشر؟ وكيف سيصيغ روايته على اللاب توب في أشد لحظاته الحرجة مع شيخوخته، وتساءل للحظة عن وجود أبناء له ينشرونها تنفيذًا لوصيته؟ ونظر حوله متأملًا غرفته الخالية إلا من سريره، وتذكر أنه لم يحب أبدًا امرأة في حياته، ولم ينجب حتى أبناء غير شرعيين من عاشقة مجهولة، أو عاهرة تصيدته في الطرقات لتحمل طفله على إثر ليلة متعه عابره، وتخيل أن أبناءه تركهم في دار أيتام منسية، أو أنهم من تركوه وحيدًا في عزلته، وتذكر أنه لم يبكي يومًا، لأنه قاسي القلب، لذلك تركه أبناؤه وحيدًا دون رحمة، هو أب سيئ، وابن عاق بوالديه، وطفل زنا، ومجذوب في مدينة موحشة، لا يتذكر وجهه، ولم ينظر في المرآه طوال حياته، ثم استدار بحثًا عن مرآه، لكنه لم يجدها، فنظر إلى انعكاس زجاج نافذته، وبكى، بكى كطفل تائه في الطرقات، وكيتيم وحيد في الفراغ، وكعجوز ضاع في ذكراه.

مقالات من نفس القسم

ahmed ragab shaltout
تراب الحكايات
موقع الكتابة

وتمرق