د. عفاف عبد المعطي
بعدما يفرغ القارئ من رواية “بالحبر الطائر” للكاتبة عزة رشاد- الصادرة عن دار كتب خان للنشر 2025- لابد أن يفطن إلى مقولة الكاتبة والإعلامية الأشهر أوبرا وينفري: ” يس من الضروري أن تدون افكارك الخاصة كل يوم ولكن يجب أن تتأكد من كتابة هذه الأفكار”*.
تجسد تلك المقولة رواية عزة رشاد، من خلال مجموعة أدوات التواصل الاجتماعي تطلق عليها د. نعيمة (4N)، وهي أول واحدة من ضمن أربع نساء، إذ ترد نعيمة كشذرات وفواصل في الرواية في أولها حين يتحدث ابنها ناجي عن أبيه حسام إدريس الذي يقول له: “الحرية قصتي قبل أي شيء” ثم بحثه عنها لاختفائها ليجدها أصيبت في حادث وتعالج بالمستشفي، وتتواصل الصديقات الأربع المنتشرات فى أرجاء العالم عبر أدوات التواصل الاجتماعي ويطلقن عبارة وشعارا “نتعولم معا” إشارة إلى استخدام مصطلح العولمة Globalization، أو تسريع حركة التبادلات للبشر والسلع والخدمات والممارسات الثقافية؛ فتحكي كل منهن قصتها بداية من نعيمة أو الليدي نعيمة التى تشخص قصة كفاح كبيرة في الإسكندرية تنتهي حكايتها بأن تتبني القطط نتيجة إهمال ابنها وزوجها لها، ثم تختفي إثر حادث فيظهر زوجها ناجي وبعد عمل المحضر اللازم يدخل ابنها إلى الكمبيوتر الخاص بها فيفاجأ بأن أمه الست الدكتورة نعيمة مثل أبيه الكاتب الذي يلجأ الي المخدرات والحشيش كموتيفات للكتابة، ثم تدلف إلى عالم النساء أولهن نوجا (نجوي محمد عبد الغفار) التي تعيش في منهاتن بالولايات المتحدة الامريكية والتي تتعرض للزهايمر وتعالج عند الطبيبة النفسية (د. مارلين جونز) فتحكي عن عالمها النفسي المتعلق بجدتها سندس وزوجها عبدالرحمن وتفاجأ بأن عبد الرحمن سبقه زوج آخر. جدتها سندس التي انكمشت وصارت عجوزا في السبعين التي تحكي وتحكي عن الصبي بنداري الذي اختفي في المغارة ولم يتم فك سحره حتى قرأت سندس عليه القرآن كاملا، وبطن فكيهة المنتفخ المرأة التي جمعت لها العشب والجراد وغلته وقامت بغليه وأكلته حتى شفيت، ولا تنتهي حكايات سندس لنوجا في مانتهاتن.. تعرض نوجا لحياتها المضطربة فى الغرب حيث اضطهاد العرب بعد 11/9 واجتياح العراق، وفي كل مكان حكاية ولمحة تعود إلى نظرية بافلاوف وهي استدعاء الصور المرتبطة فتستدرج حياتها السابقة فجارها الصيني الذي يعد التوابل الحريفة التي تذكرها ببلدها (منية عاصم) الذي يلبس كل أحفاده كيسا في يديه لتفصيص الشطة التي تصنع الجبنة القديمة ثم ترام الاسكندرية ومجموعة 4N وهروبهم من الكمساري وتتداعي النكات والأغاني ومجتمع الجامعة والحب الاول وشعارات الطلبة “لا ليبرالية بدون ليبراليين” وأحلام تغيير العالم ثم تدلف بنا إلى حبها الأول حسام شرف الدين وزملاء الندوة الذين يتكلمون عن الأنثى كسلعة وتقضية وقت وفي كل الحالات تلجأ إلى الفوران والعودة بالذاكرة إلى منية عاصم، وتستخدم تقنية التوقعات إذ تستعرض كاريكاتير الوزير الملظلظ الذي يقول “أنا مين” فيتم الرد عليه بعبارة “أنت دسم”، ثم تستعرض حالة الزهايمر التي انتابتها واستعراض الطبيبة مارلين للحالة التي تجعلها تكتب عن زوجها عبدالرحمن وابنتها التي تحب مواطنا أمريكياً وتريد الانتقال للإقامة معه ثم يرفض الأب. وفي معرض تصديها للأزمة نكتشف أن قبل عبدالرحمن كان يوجد جوزيف ولا نعرف ماذا كان تم بينهما زواجا شرعيا أم علاقة، وهنا تتبدّي نظرية المرايا فتعترف نوجا أنها قد صدر لها وجوها عديدة وحين ضاعت ابنتها كمن يضيع في المولد ووصلت إلى مرحلة الزهايمر تقرر العودة الي الاسكندرية.
السيدة الثالثة نادين (سلطانة الطرب الكلاسيكي) فى باريس عام 2019 تقيم في مونبارس في ضواحي باريس لديها زوج وولد وبنتان وقد اتخذت الكويت محطة بعد رحيلها من الاسكندرية ثم إلى فرنسا، ويعتبر الغناء هو فتنتها المراوغة ومن الأغاني التي ترددها “ياللي ملكت المال والجاه” رجاء عبده، “يامالكا قلبي، إن راح منك ياعين” إلخ وتنتهي حياتها إلى أم فاشلة وابن منحرف وزواج في مهب الريح، كيف حدث ذلك.
أحبت شهاب وتزوجته وحررته مع الطبيب النفسي من عقدة ممارسة الجنس مع سيدة قريبة له كانت أكبر منه سنا، وحين سافرت إلى باريس انصهرت في الجالية العربية في باريس وشاركت في المظاهرات ورفعت لافتة (صرت محجبة في باريس) أي أنها ارتدت الحجاب في باريس وكانت هذه المظاهرات بعد واقعة شارل ايبدو، وهل الحجاب حرية أم شارة دينية، هنا تظهر إحدى شروط العولمة التي تصنع القوانين من أجل مصلحتها وليس من اجل قواعد الدولة المدنية وقيم الحضارة الأوروبية ثم تعود إلى حكاياتها عن الإسكندرية ومماحكة خياطتها للسيدة الحامل التي تقول لها “تسلم اللي نفخ النفخة العظيمة”؛ وذلك يمثل احتفائها بالجسد نعمة الله الكبري.
تنصهر في مجتمع الجالية العربية وأغلب الجارات محجبات وتتعرف إلى أم باسم زوجة أبو باسم زعيم الجالية الذي يجمع أصواتهم من أجل الانتخابات وتحكي بغزارة عن هذا المجتمع المندمج بالعربي الفرنسي الذي يعيش في فرنسا بقِيم الأصولية الإسلامية ونقاشاتها معهم ثم تعرج إلى صديقتها الفرنسية “لوفير” التي تؤمن بمبادئ الدولة المدنية والحضارة، وفي النهاية يكتشف زوجها أن ابنهما مدمن، يضربه الأب فيشكوه الابن الي الشرطة ويقرر الزوج أن تعود نادين بابنتيها إلى الإسكندرية.
رابع النسوة “نسمة ضرغام” (أجمل شخصية مكتوبة فى رواية بالحبر السري) أو تحية إلى لندن حيث يتساءل القارئ لماذا جاءت إلى لندن؟ عندما تعيش هي الأخرى حالة العولمة فهي نسمة بنت حاتم ضرغام التي عاشت أيضا في الإسكندرية ثم رحلت إلى لندن لأن عندها متلازمة ترينر اللاتي يتسم أصحابها بقصر القامة وغالبا عدم الإنجاب وانتقالها من الاسكندرية عن طريق الخال الذي رأف بحالها لأنها كانت ستتزوج رجلا انجب ثلاثة أبناء ويريد أن يتزوجها لتربي اولاده كخادمة، تنزح إلى لندن حيث تعيش كموظفة في إحدى الجمعيات التي ترعي حالتها وحالات آخرين في مثل حالتها وتسأل ربها يوما لماذا تخليت عني؟
ثم تتعرف على عامر الباكستاني مقطوع الذراع الذى لجأ إلى لندن ليعمل فى نفس المؤسسة التي ترعاها، الوحيد الذي رآها جميلة، تحابا وتزوجا وعاشا معا ثم انفصلا بعد أن اكتشفت أنه زوج ولديه أبناء ومن بعده تتعرف علي برنار الثائر الذي يرفع شعار ضد العولمة ويسير في المظاهرات ولكن يتضح أنه مثلي فيقيم معها وصديقه مدة من الزمن تتعرض حينها للازدراء من الجيران العرب ثم تنتقل للإقامة في مسكن خاص بالفنانين هنا يتبدي الصراع ضد العولمة.
تكمل الكاتبة عزة رشاد في روايتها تجارب كاتبات محليا أو عربيا او عالميا جسدن ألم الأنثي سواء الناتج عن التعنت والسير ضد التيار الاجتماعي والعِرقي، فهناك توني موريسون أو (كلوى ارديليا ووفرد) صاحبة نوبل 1993. أوعن القهر الذكورى الذي تفشي فى كتابات الرائدة نوال السعداوى ثم خليفاتها على سبيل المثال لا الحصر سلوى بكر وحنان الشيخ وسحر خليفة وانعام كجة جي صاحبة كتاب السيرة الأشهر “لورانا” الذى جسدت العلاقة الأزلية بين تزاوج الغرب بالشرق عبر المراسلة البريطانية الأشهر لورانا هيلز الذى تزوجت من الرسام العراقي الرائد جواد سليم وكعادة كل القصص المماثلة باءت العلاقة بالإخفاق، وهناك كتابات الرجل الأشهر عن المرأة مثلما كرس احسان عبد القدوس قلمه محليا أو كما كتب Michael Cunningham – Divid Hare رائعتهما The Hours عن حياة الكاتبة الانجليزية الأروع فرجينيا وولف وروايتها الأجمل والأشهر “مدام دالوي”.
لكن رواية بالحبر السري للكاتبة عزة رشاد، بعنوانها الدال كاشفة لكتابة المسكوت عنه خِفية، تجسد تجارب المرأة خاصة الناتجة عن غفلتها وقلة الخبرة فى مناحى الحياة وطبائع البشر المختلفة وصراعها الأزلي مع الذكر ومن ثم علاقتهما الفريدة الأكثر سلبا والنادرة ايجابا معا وتحديها للقوالب النمطية الاجتماعية بما قد يمكنها من التغيير المجتمعى الذى عادة ما نجد النسوة يُخفقن وكأنهن يحاولن تفجير قنبلة اجتماعية موقوتة لكن هيهات.
……………………….
*أوبرا وينفري “مذكرات امرأة حكيمة” دار حروف للنشر، الكويت 2020