عائشة أحمد*
في سباق لا ينتهي نحو القمة، باتَ المركزُ الأولُ في مجتمعاتنا ليس مجرد إنجاز، بل معبودًا تُقدَّم له التضحيات، حتى لو كانت أرواحًا تُجهدُ وتسيرُ في دروبٍ ليست دروبها، فقط لتنال لقب (الأول) ولو على حساب ذاتها
من منا لا يحب أن يكون المتصدر، فيما يحب ويشقى، أن يرى جهده وعرق جبينه يروى على سطور النجاح وسلم الأوائل، لكن الموضوع أخذ مجرى آخر، كما تحولت إلى أزمة فكرية واجتماعية تتغلغل في ثقافتنا الحديثة وأصبح تقديس الاول هو المقياس الوحيد للنجاح.
نعم، مجتمعاتنا أحيانًا لا تحتفل بجودة الفكرة، أو عمق التجربة، أو حتى جدوى المشروع، بل تحتفل فقط بـ “الريادة”، بالمجرد، بكونك أول من فعل.
“الأول” صار عبئًا لا وسامًا
فكرة “أن تكون الأول” تحوّلت من مصدر إلهام إلى عبء نفسي، تُلاحقك كما لو كانت الشرط الوحيد للجدارة، وكأنك إن لم تكن الأول، فأنت مجرد تكرار باهت، أو صوت في الزحام، أنت مجرد هامش لا يرى ولا يسمع ولا يترك أثرا بأي نوع من الاشكال.
وَهم مكلف جداً
لنفكر في الأمر قليلا. كم من مبدع تم تجاهله لأنه لم يكن “الأول”؟ وكم من شخصٍ ارتكب أخطاءً فادحة في محاولة أن يبتكر شيئًا لمجرد أنه لم يفعله أحد قبله، حتى لو كان لا يحب هذا الشيء أبداً، أو يفهمه، أو حتى يؤمن به، فقط لأن في نهاية السباق سيكتب اسمه “الأول في هذا المجال” حتى وإن كان لا يفقه فيه شيئاً
هل بالضرورة أن يكون الأول هو من يصنع التاريخ؟
هل تتذكّر دائمًا أول من اخترع شيئًا؟ أم أول من أتقنه؟ أم من جعله مفيدًا، وحيًّا، وقريبًا من الناس؟
الناس لا تنظر إلى الأوائل، بل إلى من أعطى القيمة والمعنى لما فعله، سواء كان الأول أو المئة، نعم أنت الأول، لكن أين أنت الآن؟ هل أنت الأفضل في ما تقدم وتعطي؟
الصدق مع النفس أولا هو مفتاح النجاح
أن تعمل في ما تُحب، لا في ما “لم يفعله أحد بعد”.
أن تصنع ما يُشبهك، لا ما سيمنحك لقب “أول من…”
أنت لست مطالبًا بأن تكون “أولًا”.
أنت مطالب بأن تكون حقيقيًا، نافعًا، وحيًّا في ما تصنع.
وقد تكون الشخص الألف، لكنك الأكثر تأثيرًا.
وقد لا تُذكر في قائمة “أول من…”، لكنّك ستكون في قلوب من لمسهم ما كتبت أو قدّمت.
تذكر بأنك لا تبحث عن الأسبقية، أنت تبحث عن الحقيقة، عن الكلمة التي تشبهك، عن الفكرة التي تسكنك وعن الأثر الذي لا يمحى
حتى لو كنت الأخير بين السائرين.
…………………
*كاتبة من الإمارات