في حضرة اللغة: تأملات في فجر النطق الإنساني

adnan alwarshy
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عدنان الورشي
في ركنٍ من أركان عزلتي، حيث السكون سيد اللحظة، وحيث يلتقي الخيال بالدهشة، كثيرًا ما يطرق ذهني سؤال قديم متجدد، كأنه يسكنني منذ الأزل: كيف بدأ الإنسان يهمس بالعالم؟ كيف تفتّحت زهرة اللغة الأولى على لسانه، وانبجس من صمته صوتٌ صار فيما بعد نهرًا من كلمات لا ينضب؟ اللغة… هذا الإعجاز الإنساني العصيّ على التفسير التام، ذلك الجسر الذي عبرت عليه الحضارات من غياهب البدائية إلى مجد التمدّن، كيف بدأت؟ ومن أين انبثقت؟ هل وُلدت فجأة من فم رجل بدائي صرخ خوفًا أو فرحًا؟ أم أنها تسللت ببطء من حناجر الأوائل، نغمةً إثر نغمة، حتى غدت أبجديةً وسجلاً وصوتًا يحمل ذاكرة الإنسان إلى ما بعد موته؟ أتساءل، وكل حرف في جسدي يهتز بدهشة الباحث: ما أول لغة نطق بها الإنسان؟ أكانت السومرية التي دوَّن بها العراقي القديم أسطورته على ألواح الطين؟ أم الأكادية التي نقش بها ملوك بابل مراسيمهم؟ أم لعلها لغة لم تُدوَّن قط، فابتلعها النسيان كما يبتلع البحر أثر الخطى على الرمل؟ تنهض أمامي صورةٌ خيالية لرجل بدائي، واقفٍ أمام نارٍ مشتعلة، يحاول أن يسمّيها. لعلّه قال “نار” بلغةٍ لم نعرفها، فكانت تلك الكلمة شرارة البدء. ومن يومها، أخذت اللغة تنمو كما ينمو الغيم في حضن السماء، تتشكل، تتفتق، تتلون، حتى أصبح لكل أمة لسان، ولكل شعب نبرة، ولكل فرد صوته الذي لا يُشبهه سواه. أما الحروف، تلك المعجزة التي ألجمت الزمان، فجعلت الصوت مرئيًا، والفكرة نقشًا خالدًا، فمن ذا الذي اخترعها؟ يُقال إن الفينيقيين كانوا الأوائل، وإنهم أهدوا البشرية أبجديتها الأولى، والتي منها تفرعت الأشجار الهجائية الأخرى: اليونانية، العبرية، اللاتينية، ثم العربية التي احتضنت القرآن فصارت لغةً لا يطالها الفناء. في كل مرة تأخذني هذه الأسئلة إلى غياهب المجهول، أدرك أن اللغة ليست مجرد وسيلة تواصل، بل كيانٌ حي، نابض، يتنفس مع الإنسان ويكبر معه، يسكن ذاكرته ووجدانه، ويعبّر عن روحه وملامحه. إنها أعظم اختراعات العقل البشري، بل لعلها ليست اختراعًا بقدر ما هي هبة، نفخةٌ من سرّ الخلق، تسري في أوتار الحنجرة وتصبغ الوجود بألوان المعنى. اللغة بداية الوعي، ومهد الحضارة، وخلاصة الرحلة من الصمت إلى القصيدة. فمن كان أول المتكلمين؟ لا ندري. لكننا نعلم أن أول من تكلم… كان أول من صار إنسانًا…
……………..
* كاتب يمني وأكاديمي

مقالات من نفس القسم