مروان ياسين الدليمي
١ –
لَمْ أَكُنْ أَعْرِفُ مَتَى انْكَسَرَ الضَّوْءُ،
وَلَا كَيْفَ نَزَلَ الزَّمَنُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِي
مِثْلَ مَاءٍ مَسْكُوبٍ فِي قَلْبِ اللَّيْلِ.
كُلُّ شَيْءٍ غَادَرَ،
لَكِنْ لَمْ يَقُلْ وَدَاعًا،
الْأَبْوَابُ أُغْلِقَتْ كَأَنَّهَا لَمْ تُفْتَحْ أَبَدًا،
وَمَا كُنْتُ فِيهِ… لَمْ يَعُدْ.
كَأَنَّنَا كُنَّا فِي عَرْضٍ مَسْرَحِيٍّ،
انْتَهَى،
وَمَا بَقِيَ إِلَّا أَجْسَادُنَا الشَّفَّافَةُ،
تُلَوِّحُ مِنْ بَعِيدٍ،
تَبْحَثُ عَنْ مَعْنًى،
كَمَا يَبْحَثُ رَمَادٌ عَنِ النَّارِ الَّتِي أَنْجَبَتْهُ.
ظَنَنَّا أَنَّ الزَّمَنَ مِلْكُنَا،
لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَوْمًا لَنَا.
كَانَ يَمْشِي بِبُطْءٍ،
كَمَا يَمْشِي الْمَوْتُ عَلَى أَطْرَافِ الْأَحْلَامِ،
بِلَا صَوْتٍ،
بِلَا ظِلٍّ،
بِلَا تَرَاجُعٍ.
أَحْلَامُنَا الْقَدِيمَةُ؟
تَكَسَّرَتْ كَالْفَخَّارِ الْيَابِسِ
فِي زَاوِيَةٍ لَا تَزُورُهَا الْأَنْفَاسُ.
2-
وَالْآنَ؟
مَاذَا تَبَقَّى؟
فَرَاغَاتٌ تَتَّسِعُ،
تَبْتَلِعُنَا كُلَّ صَبَاحٍ بِبُطْءٍ نَاعِمٍ،
كَأَنَّنَا بُخَارُ أَعْمَارٍ
مَرَّ عَلَى مِرْآةٍ وَذَبُلَ.
أَرْوَاحُنَا،
تَتَجَوَّلُ فِي بُيُوتٍ لَمْ نَسْكُنْهَا،
فِي لَيَالٍ لَمْ نَحْلُمْهَا،
نُرَاقِبُ أَحْلَامَنَا مِنْ خَلْفِ الزُّجَاجِ،
كَمَا يُرَاقِبُ التَّائِهُ ظِلَّهُ
فِي مِرْآةٍ مُحَطَّمَةٍ.
كُلُّ شَيْءٍ…
يَتَحَوَّلُ إِلَى مَا لَا يُمَسُّ،
إِلَى صَدًى،
إِلَى صَمْتٍ يَمْشِي عَلَى عُكَّازِ ذَاكِرَةٍ مُتْعَبَةٍ.
تِلْكَ الْبِلَادُ الَّتِي رَسَمْنَاهَا عَلَى خَرَائِطِ النَّوْمِ،
بَقِيَتْ هُنَاكَ،
بَعِيدَةً مِثْلَ وُعُودٍ لَمْ تُصْغَ،
مِثْلَ طُفُولَةٍ لَمْ نَبْلُغْهَا.
الزَّمَنُ عَدُوٌّ لَا يَصِيحُ،
يَمُرُّ مِنْ أَمَامِنَا،
كَأَنَّنَا لَمْ نَكُنْ فِيهِ قَطُّ.
3 –
. نَقِفُ فِي مُنْتَصَفِ الطَّرِيقِ،
لَا نُدْرِكُ إِنْ كُنَّا بِدَايَةً أَمْ نِهَايَةً،
وَالنَّهْرُ يَنْزِلُ مِنَ الْجِبَالِ،
يَحْمِلُنَا مَعَهُ،
وَفِيهِ يَغْرَقُ كُلُّ مَا تَمَنَّيْنَاهُ.
جُرْحُ الزَّمَنِ يَتَّسِعُ،
كَفَمٍ مَفْتُوحٍ لِلسَّمَاءِ
يَبْتَلِعُنَا فِي صَمْتٍ.
نَنْظُرُ إِلَى أَيْدِينَا،
وَلَا شَيْءَ فِيهَا:
لَا وَقْتٌ،
لَا أَرْضٌ،
لَا أَسْمَاءُ.
أَصْبَحَتِ الْحَيَاةُ نُقْطَةً عَلَى حَرْفٍ قَدِيمٍ،
وَنَحْنُ نُحَاوِلُ قِرَاءَتَهَا
بِعُيُونٍ أَنْهَكَهَا الْعَتْمُ.
4 –
كُلَّمَا اسْتَدَرْنَا،
وَجَدْنَا ظِلَّنَا يُسَابِقُنَا،
يَتَسَاقَطُ مِثْلَ أَوْرَاقٍ خَرِيفِيَّةٍ
لَمْ تَعْرِفِ الرَّبِيعَ.
نَحْنُ بَقَايَا أَصْوَاتٍ
ضَاعَتْ فِي مَمَرَّاتِ اللَّيْلِ،
لَمْ يَسْمَعْهَا أَحَدٌ.
وَهَلْ رَأَيْتَ كَيْفَ تَتَحَوَّلُ اللَّحَظَاتُ
إِلَى غُبَارٍ يَتَطَايَرُ
مِنْ بَيْنِ ضُلُوعِنَا؟
نَسِيرُ عَلَى حَبْلٍ بَيْنَ الْأَمَلِ وَالْمَوْتِ،
وَكُلُّ خُطْوَةٍ،
تَأْخُذُ مِنَّا شَيْئًا،
تَتْرُكُنَا أَقَلَّ،
وَأَكْثَرَ فَرَاغًا.
5 –
وَمَعَ ذَلِكَ…
هُنَاكَ شَرَارَةٌ صَغِيرَةٌ،
تَشْتَعِلُ فِي الْعَتْمَةِ.
لَا تُنْقِذُ،
وَلَكِنَّهَا تَشْهَدُ.
تَشْهَدُ أَنَّنَا كُنَّا،
أَنَّنَا كَتَبْنَا أَسْمَاءَنَا
عَلَى جُدْرَانِ الزَّمَنِ
بِحِبْرٍ مِنْ جُرْحٍ عَنِيدٍ.
نَعَمْ، لَمْ نَصِلْ إِلَى الْبِلَادِ،
وَلَكِنَّنَا حَفِظْنَا أَسْمَاءَ أَنْهَارِهَا،
رَسَمْنَا سَمَاءَهَا زَرْقَاءَ،
تَضْحَكُ كَمَا لَوْ أَنَّهَا أُمٌّ قَدِيمَةٌ
تَنْتَظِرُنَا مُنْذُ بَدَايَةِ الْخَلِيقَةِ.
وَالْمَوْتُ،
نَعَمْ، يَقِفُ هُنَاكَ،
وَلَكِنَّنَا لَمْ نَرْكَعْ،
حَمَلْنَا رَمَادَ أَحْلَامِنَا،
وَدَخَلْنَا عَلَيْهِ وَاقِفِينَ.
نَحْنُ جِيلُ الْخَسَارَةِ،
وَلَكِنَّنَا أَيْضًا جِيلُ الْمَعْنَى،
جِيلُ الطِّينِ الَّذِي تَشَقَّقَ…
ثُمَّ نَهَضَ.
صَوْتُنَا لَمْ يُسْمَعْ،
وَلَكِنَّ الصَّدَى بَقِيَ،
يَدُورُ…
يَدُورُ فِي الْأَعْمَاقِ
كَجَرَسٍ قَدِيمٍ لَا يَزَالُ يَرِنُّ
لِيَقُولَ فَقَطْ:
“كُنَّا هُنَاكَ… وَكَانَ هَذَا، كُلَّ مَا نَمْلِكُهُ: أَنْ نَكُونَ.”