د. أشرف الصباغ
رواية “نعمة” للكاتب مدحت غبريال، الصادرة عن دار “المحروسة”- 2025، ليست من ذلك النوع المراوغ من الروايات ذات الحجم المتوسط (300 صفحة). لكنها رواية تقتحم “الموضوع” مباشرة عبر طرح مجموعة عادية للغاية من النماذج والأنماط البشرية التي تنتمي في معظمها إلى شرائح مختلفة من الطبقة الوسطى المصرية. هذه النماذج البشرية المتنوعة تبحث عن إجابات لأسئلة كثيرة تخصها شخصيا، وتخص حياتها المرتبكة والمنتهكة، بينها من يدرك العلاقة بين السبب والنتيجة، وبينها من استسلم للأمر الواقع، وأصبح يرى أن الوقت أصبح متأخرًا جدا، وعليه أن يقضي ما تبقى من حياته كيفما اتفق. وبينها أيضا من أدرك سر موازين القوى فراح يتحايل على الحياة عبر الوظيفة تارة، وعبر المهنة تارة أخرى، وعبر دهاليز السياسة تارة ثالثة.
في هذه الرواية لا يمكن إغفال الراوي الذي يقوم بعدة أدوار. فهو الراوي المحايد للغاية حينما يلزم الأمر. وهو أيضا الراوي الفضولي الذي يتلصص ليس على الشخصيات، وإنما على وعيها الداخلي. وفجأة وبدون سابق إنذار يتحول إلى ضمير عام ماكر ومراوغ يشرح بسخرية ما يجري داخل هذه الشخصية أو تلك، أو يحاكم الوضع العام، أو يعلن غضبه وحنقه على هذا أو ذاك من الشخوص التي تتحرك في عشوائية. وفي أحيان أخرى، يعلن الراوي عن فشله في فهم هؤلاء الناس الذين يتحركون وكأنهم أبطال يحركهم القدر في مأساة إغريقية. وعندما تصل الأمور إلى حد العبث، نجده يرتدي وعي هذه الشخصية أو تلك ويتحدث بمنطقها وخطابها ودوافعها. وفي كل الحالات، نحن أمام راوٍ خفيف الظل، يتسم بالذكاء، والسخرية، وقلة الحياء عندما يفشل في إيجاد أي معادل موضوعي أو لغوي للتعبير عن الموقف، فيستخدم كلمات بذيئة للغاية لوصف هذا المشهد أو ذاك، أو ما يدور في رأس هذه الشخصية أو تلك. وربما تكون بذاءة الكلمات والألفاظ والتعبيرات هي السياق العام الذي يعبر بقوة عن أحداث الرواية، ويكشف عن مدى انحطاط الواقع الذي أصبح من المستحيل وصفه بأقل من ذلك.
ومن فرط السخرية والألم، من الممكن بسهولة شديدة أن نلمح المفارقة في أسماء شخصيات الرواية، وهي إن كانت حيلة قديمة، فهي تلعب هنا دورًا محوريا يعمق من السخرية والتهكم، ويكشف عن عملية تزييف عام يكشف حجم الانهيار الذي أصاب المجتمع طوال ما يقرب من سبعين عاما، على الرغم من أن أحداث الرواية تدور خلال عدة أسابيع أو أشهر، بعد سنوات من أحداث 25 يناير 2011. تلك الأحداث التي ولدت أو انجبت أو أسفرت عن نماذج بشرية محطمة، وإن كان بعضها بدأ الانهيار والاستسلام قبل ذلك بعشرين وأربعين وستين عاما. لكن ما فعلته أحداث 2011، وما خلفته وراءها، ساهم في المزيد من الانهيار وفقدان الأمل، وكشف عن مكامن العوار الحقيقية التي “يطرمخ” عليها الجميع. فنحن لدينا إخوة ثلاثة هم صالح وفاضل وكامل، ولدينا الابن الدكتور صادق، والسياسي ورجل الأعمال أمين، وحنان زوجة كامل.. كلها أسماء أشخاص يفعلون عكس معناها ودلالاتها تماما. أما نعمة ودينا الصحفيتان “العاهرتان”، ونور (ابنة كامل وحنان، وأخت صادق)، فهي أسماء ربما امتلك دلالات ومعاني مرتبطة بآمال وطموحات ما، وربما صارت عادية للغاية ولا تملك أي دلالة سوى معناها اللغوي لا أكثر.
رواية “نعمة” عن حدود الموت وحدود الحياة من دون أي مراوغات، لأننا لسنا أمام أحداث افتراضية أو عبثية، أو خيال جامح في جزيرة معزولة، وإسقاطات ومجازات تاريخية ولغوية. بل أمام أحداث يومية بسيطة تبدو طبيعية للغاية، ولا تستحق حتى التمعن فيها أو الاهتمام بها، لأنها ببساطة حياتنا التي اعتدناها وتعودنا عليها، وصار كل ما يجري فيها من طبائع الأمور: الموت والحياة والتحرش والاغتصاب والموت الجماعي في الميكروباصات.. المرأة التي تعمل صحفية نهارا وعاهرة ليلا، وزنا المحارم، والفساد السياسي، والتسول، والانتهازية.. والأحلام الضائعة، والاختيارات الخطأ، والأثمان الباهظة التي يتم دفعها مقابل التفكير أو التمرد. لكن هنا لا محاكمات ولا أحكام، وإنما سخرية غاضبة، وتوصيفات بذيئة تليق بالمرحلة وبمنظومة علاقاتها. لا كشف ولا فضح، لأن كل الأحداث عادية وطبيعية ولا تثير القلق أو الغضب، لأن الجميع يتحايل على الحياة، وعلى الأخرين، وعلى نفسه، لكي يكمل ما مُنِحَ له من سنوات يجب أن يعيشها كيفما اتفق.
ولكن ماذا لو أصيب أحدهم بمرض “السرطان” وقرر أن يتمرد ويثور، بل ويختار لنفسه حياته ولو حتى للشهور أو السنوات القليلة المتبقية من هذه الحياة اللعينة؟ وماذا لو اكتشفت إحداهن أن المسألة ليست بالبساطة التي كانت تتخيلها، وأن أحداث 2011 تحولت إلى نقمة وطريق جديد للمزيد من الانهيار، بعد أن كانت تمثل الأمل والخلاص، وبداية الطريق نحو النور، أي “نور”. هنا تبدأ المبارزة الحياتية والوجودية بين كامل وابنته نور من جهة وبين هذا العالم الذي أصبح مثقلا بالقبح والدناءة والجنون من جهة أخرى. السؤال الأول ظهر منذ بداية الرواية بشأن كامل المتوسط في كل شيء، وبشأن حياته عديمة اللون والطعم والرائحة، والتي بلا أي معنى أو طموحات، وزادها مرض السرطان قسوة وجفافا وتفاهة. لكن أهمية السؤال ودلالته اتضحتا فقط في منتصف الرواية بالضبط، عندما ظهر السؤال الثاني بخصوص “نور” ابنة كامل. هنا بدأت المصائر تختلف نسبيا، واتضح أننا أمام رواية تقليدية تماما من حيث البناء، ومن حيث توزيع الأدوار، وخصوصا دور الراوي. وفي هذين الأمرين تحديدا تكمن أهمية هذه الرواية التي تطرح عددا من المصائر البشرية من دون أحكام مسبقة، بل ومن دون حتى أفكار عن مساراتها المتوقعة. اكتفت فقط بطرح مصائر مفتوحة على فضاءات متعددة، لنكتشف تدريجا المعاني المناسبة للعهر، وللفساد، وللقسوة، وللجنون، وللنطاعة، وللكذب، وللتزييف. ونكتشف أيضا أننا نعيش في عالم من التعريفات والدلالات المزيفة. وبالتالي، فنحن لسنا أمام عمل أدبي يطرح نماذج ذات مصائر معروفة أو متوقعة، استنادا إلى علم النفس أو الجريمة، أو ارتكازا إلى الأحكام المسبقة بشأن الخير والشر، أو انطلاقا من مفاهيم محددة حول السلوك الإنساني العام. على العكس تماما، نحن أمام عمل مفتوح، كل خطوة فيه تمنحنا متعة مرفقة ببعض الألم والاكتشاف، وتضع أيدينا على جوانب خفية من تلك الأرواح الهشة التي لا يمكن لأحد أن يعرف كيف تحتمل هذا العالم، ومن أين تأتي بكل تلك القوة على الصبر على احتمال الحياة نفسها.
رواية “نعمة” لمدحت غبريال، رواية فضفاضة تحتمل الكثير من القراءات، لأنها رواية مهمة عن أيام صعبة في حياة أفراد عاشوا الحلم، ثم فقدوا الأمل، ليعثروا في النهاية على أنفسهم بطرق ما مختلفة ومتباينة ولو حتى لليلة واحدة أو ليوم واحد.
نهاية الرواية مكللة بالشجن وأشباح المثالية، وبالخوف من هشاشة الواقع وتقلب الأحوال. لكن لا بدائل أخرى أفضل من اللحظة وما يجري فيها، لا احتمالات ولا اختيارات بديلة يمكنها أن تزيل هذه الهشاشة أو تقلص من قوتها. إن مشهد الشقة أو “الكمونة” الجديدة يبدو مثاليا وهشا، بقدر هشاشة الحلم المهدد بالموت أو الفشل، بل وبأي احتمالات أخرى غير متوقعة. ومع ذلك لا نهاية مثالية على الإطلاق في هذه الرواية كما يبدو عليه الأمر في فصليها الأخيرين، لأنه لا بدائل ولا احتمالات أخرى. الأمر على العكس تماما، حيث الشجن والخوف وهشاشة الوجود. ومع ذلك فهي لحظة جديرة بأن تُعاش حتى لو انهار كل شيء بعدها.
إن التحولات الإنسانية التي جرت لكامل، لم تكن لتحدث لو ظل كما كان، تافهًا ووسطيًا، وضعيفًا، ومستباحًا ومترددًا. كان من الصعب أن يكتشف في داخله كل تلك المشاعر والأحاسيس تجاه زوجته “حنان” القاسية المتسلطة، أو نحو أخيه فاضل السلفي السابق الذي تهشمت أفكاره- أوهامه في السجن وبين أنياب الحياة نفسها. قد تكون الحرية الداخلية التي حصل عليها كامل، وسارع إلى تسييلها في شكل حرية خارجية على مستوى الفعل، هي السبب في إزالة الغبار عن مشاعره وأحاسيسه. ففي نهاية الرواية يظهر أحد أهم أوجه تلك الحرية وأكثرها نصوعًا ووهجًا: أن يعود الإنسان إلى إنسانيته، أن يبدأ عقله المعطل بالاستيقاظ، وتبدأ حواسه البشرية المعطلة بالعمل بشكل طبيعي، فيبدأ بفهم العالم، وبتفهم من حوله، وبإدراك الدوافع الإنسانية التي يمكنها أن تفسر أفعال الناس وتصرفاتهم، وتظهر الدوافع الكامنة وراء مخاوفهم وتهافتهم على السلطة أو فرض السيطرة وممارسة التسلط والاستبداد حتى في أبسط وأحط أشكالهما. غير أن تلك الحرية تمنعه من الاستهانة بهم وإدانتهم والحكم عليهم، تجعله أكثر تفهمًا، وربما أكثر تعاطفًا على نحو ما مع كائنات لم تعثر بعد على الطريق.
لم يغير كامل وابنته نور أي شيء في الواقع، ولم يسعَ أي منهما إلى تغيير الآخر، أو حتى تغيير الآخرين. كل ما في الأمر أنهما أدركا على نحو ما أن الفرصة الوحيدة أمامهما هي الحفاظ على مناطق النور في روحيهما، ربما لكي يستدل الآخرون من خلالها إلى الطريق. ومع ذلك لا ضمانات لاستمرار أي شيء، ولا حسم لمصير أحد، بمن فيهم “نعمة” نفسها التي يبدو وللوهلة الأولى أن مصيرها قد حول وجهته أخيرًا نحو النور والحياة والشعور بالإنسانية والكرامة. لا ضمانات حتى بأن يكون اليوم التالي أكثر استقرارًا، لأن لا أحد يعرف ما سيأتي غدا في ظل مجتمع موتور، فاقد العقل، يتحايل بالدين على الدين نفسه، ويلجأ إلى الله آخر من وراء الله الذي يستخدمه للتحايل على نفسه وعلى الحياة، وعلى الآخرين، حتى تختلط الآلهة وتتحول إلى مصدر للاسترزاق والإضرار بالنفس وبالآخرين. لا ضمانات لأي شيء، لأن لا أحد يمكنه أن يعرف نفسه حتى النهاية، ولا أحد يمكنه أن يعرف كيف سيتصرف الآخرون، لتظل المصائر معلقة، ومرهونة بعوامل ومتغيرات أخرى كثيرة، لا تحتاج إلى عقد محاكمات وإصدار أحكام، بقدر ما تحتاج إلى تفهم، ومزيد من الحرية الإنسانية البسيطة.
“نعمة”- رواية عن الحياة، والفشل والإحباط وفقدان الأمل، عن هشاشة الإنسان وحيرته وارتباكه أمام التحولات البسيطة والكبيرة، تحت وطأة الفقر والعوز والتوق إلى الخلاص. وهي أيضا رواية عن تحول المصائر من النقيض إلى النقيض في لحظات خرافية لا يمكن الإمساك بها أو معرفة نتائج ما يجري فيها. ولكن لأنها رواية تشرع أبوابها ونوافذها نحو فضاءات إضافية واسعة، تحولت بدورها إلى فضاء أوسع يحمل بداخله كل البدائل والاحتمالات، ويفتح المزيد من الأبواب والطرق أمام بشر لا يريدون أكثر من حقوقهم البسيطة في الحياة والسعادة والأمل.