أحمد رجب شلتوت
يقدم الشاعر والكاتب “أحمد سراج” في كتابه “الذئب التائه” عددا من النصوص المسرحية المتميزة فنيا، والمتمايزة من حيث بنيتها وشخصيتها وإن تشابهت في رصدها لملامح القلق الوجودي للشخصيات التي تعاني التيه والانكسار، وأيضا في تجسيدها للصراع على السلطة أو معها. وسوف تكتفي هذه المقاربة بمناقشة النصين الأولين: “الذئب التائه” و”السيف الأعمى”، ومن خلالهما يبني الكاتب عالما مسرحيًا مفعما بالتوترات النفسية والاجتماعية، حيث الفرد مرآة لجماعة مكلومة، والماضي حمولة مأساوية لا تُنقذ الحاضر بل تزيده اختناقا.
مونودراما انهيار الذات
في “الذئب التائه”، نجد دياب بن غانم، فريسة لشعوره بالانكسار، فلم يقدّمه أحمد سراج كبطل تقليدي، بل باعتباره شخصية مأزومة، ويفتتح نصه بفقرة مساعدة للمخرج وممهدة لأزمة الشخصية، “(إظلام. عواءُ ذئابٍ متتابعٌ يأتي مِن بعيدٍ، ثم يتباعد عواء قطيع الذئاب إلى أن يسيطر عواء ذئب وحيد، يتحول أخيرا إلى ما يشبه الأنين ثم يظهر دياب)”، هكذا تبدأ المسرحية من ظلام للمسرح ولنفس دياب، يأتي بعد ذلك صوت العواء، وكأن الذئب الكامن في أعماق دياب هو من يتكلم أولا، أما تحول العواء إلى ما يشبه الأنين، فيعبر عن تحولات الشخصية، فالعواء صوت يأتي من الخارج، ينذر بالعدوان أو يستدعي بقية القطيع، أما الأنين فهو صوت من داخل نفس تشكو وجعها، وهذا الانتقال يكشف مسار دياب النفسي من صرخة الغضب إلى وجع الفقد، من الحيواني إلى الإنساني، من المنتصر إلى المنكسر. وكأن النص يقول إن الذي سيظهر ليس بطلاً، بل كائن موجوع، صوته الأخير ليس عواء، بل أنين، وهكذا يتحول دياب إلى رمز للذات التائهة.
وهكذا يمكن اعتبار “الذئب التائه” مونودراما نفسية بامتياز، فالنص من حيث بنيته ومضمونه وجمالياته يسعى إلى الغوص في أعماق الذات المضطربة، ودياب منفصل عن الجماعة، وأيضًا عن ذاته. وكذلك نجد اللغة المشحونة، الإيقاع المتوتر، والرموز البصرية (الضوء، العواء، السجن، الرمل) كلها تؤكد أن البطل الحقيقي للنص هو الانهيار النفسي. ويؤكد الكاتب على ذلك بتفكيكه للسيرة الهلالية، فبينما تمثل “الجازية” و”أبو زيد” و”الزناتي” رموزًا في الذاكرة الشعبية العربية، فإن سراج يعيد توظيفهم ليصنع صراعًا مضادًا للبطولة الأسطورية. حيث لا مجد في المعركة، ولا انتصار في القتل. فتظهر شخصية الجازية كمزيج معقّد من الحب والخذلان والأمومة والسلطة، البطل هنا ذئب لا يتعايش مع الجماعة ولا يستطيع مواجهتها. بينما يمثل أبو زيد والزناتي صورتين أبويتين تلاحقانه كمصير لا فكاك منه.
مأساة السلطة والنبوءة
أما في “السيف الأعمى” فتتعدد الفضاءات والشخصيات، حيث الملك مرعوب إثر نبوءة تقول إن من سوف يسلبه الحكم سيولد ليلة توليه العرش، تبدأ المسرحية بجريمة قتل غامضة، وتتبناها هند، التي تربّي طفلين أحدهما مجهول النسب، بينما الطفل الذي تربّيه دون أن نعرف إن كان ابنًا لجابر أو لزوجها المختفي، – يمثل رمزًا للتغيير المرتقب، الطفل هنا هو “السيف الأعمى” عشوائي الضربات. هنا يختار الكاتب الشكل المسرحي التقليدي (المتعدد الشخصيات والفصول) فهو الأنسب لتناول العلاقات والمصائر المتشابكة. كما أن تعدد الشخصيات يظهر تنوع الأصوات: الحاكم، المحكوم، الضحية، العراف، الأبناء، مما يعكس واقعًا مركبًا لا تستطيع المونودراما التعبير عنه.
وعلى الرغم من الاختلافات الشكلية بين النصين، فإنهما يشتركان في نقدهما للسلطة المطلقة، وفي الكشف عن عوارها وينذران بقرب سقوطها، فمثلا “دياب” في النص الأول و”جابر” في الثاني كلاهما أسير صورة لذاتٍ بطولية، لكنها مسحوقة تحت ثقل الماضي، كذلك يشتركان في انهيار اليقين، وفي التناقض بين القول والفعل، الواقع والمأمول، وأيضا النصان مفعم بالفقد، وهو فهما ليس مجرد حالة شعورية بل هو محرّك درامي. كذلك يقع النصان تحت وطأة الغياب: الأب، الحبيب، الوطن.
مفارقة التوصيف
اهتم الكاتب بتوصيف عنواني المسرحيتين بقصد تقويض رمزين تقليديين للبطولة والسلطة: الذئب والسيف. فالأول تائه، والثاني أعمى. وكأن الكاتب يعلن من البداية أن البطولة والمعنى لم يعودا صافيين، بل مضطربين، مشوشين، مسلوبي الاتجاه والبصيرة، فالذئب التائه فاقد المسار والانتماء. ودياب لم يعد ذئبًا قادرًا على افتراس واقعه، بل صار كائنًا ضائعًا بين القبيلة والذات، بين المجد والخذلان. هكذا يتحول رمز القوة إلى رمز للضياع. والسيف أداة حسم وعدالة، لكنه هنا أعمى، لا يرى موضع ضربته، لا يميز بين الظالم والمظلوم. الملك يستخدمه لحماية نفسه وعرشه من نبوءة تخيفه.
تأويل الإهداء
لم يكن إهداء الكتاب نصًا هامشيًا، بل يبدو وكأنه مفتاح لمغاليق النصوص:
“إلى المَحبة التي تُطمئن العالم، هي أولاً وأخيرًا.. منقذنا من التيه وإلى إيزيس التي لا تكف عن جمعنا وإحيائنا وتطهيرنا”
ففي “الذئب التائه”، يبدو غياب المحبة هو ما أدى إلى تيه دياب. فلو كان قد احتُضن، واحتُوي، لربما لم يتحول إلى ذئب. والمحبة هنا ليست عاطفة شخصية، بل مبدأ أخلاقي مضاد للفقد والنبذ والعنف، أما في “السيف الأعمى”، فإن هند تجسّد صورة إيزيس، فهي تجمع الأبناء، تربي، تصبر، تحب، وتحاول ترميم ما تمزق. وإيزيس ليست فقط رمزًا أسطوريًا، بل هي أيضًا صورة المرأة القادرة على إعادة التكوين.
هكذا يتحول الإهداء إلى قراءة موازية، تختصر رسالة النصين: إذا كان التيه قدرًا في عالم بلا محبة، فإن الخلاص ليس في القتال، بل في أن تعود إيزيس وتجمعنا من جديد.