في زاوية ما من هذا العالم، كانت ليلى القبّاني تدوّن في قصص لا تمشي في الطرق المعبّدة، بل تخطّ خريطتها على الجدران الخربة، في تجاويف الصدور. كاتبة لا تبحث عن ضوء مبهر، بل تفتش عن جذوة تحت الرماد، تمسّها بحروفها حتى تشتعل القصة.
في مجموعتها القصصية “ما يوقظ الرماد” الصادرة عن دار العين في القاهرة، نقرأ (22) قصة تقبض على العابر، لكنها لا تكتفي به. تفتح لنا بابًا على أرواح مشروخة.
ما يدهش ويلفت النظر منذ البداية أن أسلوب ليلى القبّاني هي أقرب إلى نَفَس الرواية منه إلى اللمحة الخاطفة للقصة القصيرة، لكن مع ذلك لا تفلت القصة من يدها. تبني عالمًا بحساسية روائية، ثم تغلقه بإحكام القصة القصيرة، القفلة، الصمت، أو حتى سؤال يترك القارئ معلقًا بين اليقين والهاوية.
في قصتها الأولى من المجموعة “ورقة زرقاء مخبأة” تقسّم الكاتبة القصة إلى خمسة مشاهد، كل مشهد يكشف طبقة جديدة من شخصية البطل، ويقلب ورقة كانت مخبأة في درج القلب. المشهد الأول يدور في الحاضرأب مشوّش، زوج غير مبالٍ، رجل ضاق به المكان والناس. تقول الشخصية:
“خُيّل لي مراتٍ عديدة أنه يعلم شيئًا عن سري الصغير الذي انتهى قبل سنواتٍ عديدة.“
المشهد الثاني هو نبض القصة الحقيقي. هنا تدخل حنان، تدخل في صورة فتاة حافية تمضغ الفريسكا على البحر، نصف وقحة، نصف رقيقة، تخترق وحدة الراوي وتمنحه لحظةَ تماسّ نادرة مع الحياة. لكن العلاقة لا تسير وفق قواعد السرد الرومانسي. فحنان، الأرملة التي تحمل داخلها موتًا سابقًا، تدخل حياته بعفوية مفرطة، لكنها أيضًا تغادره بذات السرعة، تاركة خلفها سؤالًا لا إجابة له:
“لم أعرف أي شيء عنها بعد ذلك… لا أعرف حتى إن قررت الاحتفاظ بالطفل.”
في تواطؤ جسدي صامت، بين رجل أنهكه الزواج وامرأة مرّت كنسمة، تتحول اللقاءات الجسدية إلى نقطة وجودية. تكتب ليلى القباني هذا الجانب بحذر، دون ابتذال، لكنها لا تخجل من رسم تفاصيل المشهد الحسي كجزء من التكوين النفسي العميق للشخصية.
ورغم أن “حنان” كانت الحلم، فإن الواقعة مع المرأة الثانية الزواج العرفي، الابتزاز، الاصطدام بالحقيقة تعيد الشخصية إلى “العقاب المناسب”.
ليست الحياة مع داليا مثالية، لكنها أقل ضررًا. يقول:“رغم أننا فقدنا منذ زمنٍ شعورنا بالشغف، فإنها امرأة مريحة في كل شيء.”
المفارقة أن المريح لا يُوقظ الرماد، بل يُراكمه.
في مشهد الختام، نصل إلى العنوان: “ورقة زرقاء مخبأة”. لكنها ليست ورقة واحدة، بل أكثر: شهادة، رقم هاتف، قطعة من ذاكرة، وحتى سيجارة.
“أفتح الصندوق وأُخرج العلبة، بها سيجارتان. أبتسم وأذهب إلى البلكونة.”
فهو لا يدخن السيجارة فحسب، بل يدخن الذكرى. يبتلعها بصمت، دون أن يقول لأحد أن اسمه “عادل”، وأنه، منذ زمن طويل، لم يكن أبًا ولا زوجًا فقط بل كان رجلاً يعرف طعم الحنان.
في قصة “عندما قام إبراهيم” نجد حكاية عن الأخ المصاب بإعاقة عقلية، والطفلة التي ترى فيه سؤالًا بلا إجابة. تتغير نظرتها للعالم حين ترى أمها تسلمه إلى مشرط طبيب، لا لتُعالجه، بل لتطوّعه كما ترى.
“أنا حلمت إن إبراهيم مشي يا تيتة… حلمت إنه قام واتكلم، وباس راسك وراس أمي…” تقول الطفلة، قبل أن تصحو على موته.
لا يُصوَّر المرض كعار أو عبء، بل كاختبار إنساني للجميع. القصة ليست عن إبراهيم، بل عن أختٍ لم يعد قلبها يحتمل. عن أمٍّ هزمها القهر، فاستسلمت. عن حزنٍ يُربى في البيوت كأنه الابن الأكبر.
أما في “ضريح تيبياك” حيث هذه واحدة من أكثر قصص المجموعة تعقيدًا وتماسكًا. نجد العجوز المكسيكي الذي يبكي في حانة، ويروي للسائح حكايته مع العذراء «جواديلوبي» التي ظهرت له على تلٍّ مقفر.
“الأزهار لا تزال معي… لا تموت… إنها المعجزة” لكن القصة لا تقف عند هذه الحكاية، بل تنتقل بسلاسة بين صوت الراوي، وصوت السائح، وصوت العامل الصغير.
هذه القصة تصلح أن تُدرّس في كيف يمكن لرمز ديني أن يتحول إلى استعارة كونية. «تيبياك» ليست مكانًا، بل لحظة يقين. وليلى القباني لا تسخر من المعجزة، ولا تحتفي بها، بل تتركها معلّقة، مثل إيماننا المتردد.
في قصة ” أماديوس” التي تبدو كخُطبة داخلية ممتدة، تجلس امرأة أمام النافذة، في زحام أخبار الحروب، وأصوات القهوة، وعناكب المطبخ، وأرواح المؤلفين المنسيين. “أردتُ أن أكون أنا صوتك، ولو لمرة واحدة… لمَ لم تخترني؟“
تقول وهي تنظر لموزارت، تتابع نشرات الحرب، وتلوم الله ولكن بشجاعة منكسرة
“– لديَّ كل ما تريد. أنت أعلم بما صنعت. لمَ لا تدعني أحاول؟ أهذا ما جئتُ لأجله؟ أن أشاهد؟!“
تبدو الذات هنا وكأنها لا تريد أن تُشفى، بل أن تُفهم. تَطرح القصةُ سؤالًا موجعًا هل نُترك مع الحروب الداخلية لأننا من دولٍ “غير متحضّرة”؟ لأن الشمس لطّختنا، ففقدنا استحقاق العناية الإلهية؟
في قصة “مائةٌ وعشرون جنيهًا”تحكي عن امرأة خرجت من البيت ، لا تملك سوى 120 جنيهًا، خبأتها في جيبين منفصلين. تصطدم برجل عجوز، يده ترتجف على ثمرة تين شوكي سقطت. تمد له يدها بالورقة النقدية.
“أنا آسفة، مقصدتش… هات غيرها”. تفعل ذلك، رغم أنها لا تملك سواها، ثم تركب الميكروباص لتكتشف أنها بلا “باقي”.
قصة مكتوبة بعينٍ سينمائية، دون تفلسف، لكنها تنزف. تُشبه الحياة حين تضحك لنا للحظة، ثم تذكّرنا بمن نكون. القصة لا تصرخ، بل تبتسم رغم الدموع، وتمضي.
تكتب ليلى القباني بلغة مشبعة بالشعور دون أن تتورّط في الزخرفة. لغتها ليست حيادية، بل تختار كلماتها بوعي روائي. وهي لا تتكئ على المفاجأة، بل على الانسياب البطيء للنَفَس، وعلى “العيون التي تلمح ما لا يُقال”. تكتب كما لو أنها تقصّ من داخل الحلم، لكنها لا تترك القارئ نائمًا.
في قصة “تحقيق ” إحدى القصص المؤلمة في المجموعة إذ تاخذ مأساة الاحتلال من زاوية نفسية مخيفة . التحقيق ليس مع مقاوم بل مع طفل لا يتذكر أو لعله يتذكر أكثر مما يحتمل تقول شخصية الطفل في التحقيق:
“أنا لا أذكر… رأسي يؤلمني… أريد أمي… لا، لا أريدها… لا تحضرها هنا… الشجر… يبكي… الشجر حزين مثلي“.
ليس ثمة خطاب مباشر عن الاحتلال أو السجون،هذه قصة وطن يسأل لماذا قاومت ؟ وكأن المقاومة ليست ردا طبيعا على القهر .
تكتب ليلى القباني بجُمل قصيرة مشحونة، فيها قدر كبير من الشجن، ولكن دون أن تغرق في التراجيديا. لغتها صافية، تبتعد عن التزويق، لكنها تُمعن في الإيلام الصامت. شخصياتها تتحدث وكأنها تعتذر من القارئ، أو من نفسها.
الزمن عندها مُبعثر، كأنه بقايا انفجار الأحلام تأتي قبل الموت، والموت يُروى قبل الحياة، والحب لا يتأخر، لكنه لا يُنقذ. أما الرماد، فهو ليس ما تبقى، بل ما يبدأ منه كل شيء.
في “ما يوقظ الرماد” نحن أمام كاتبة لا تكتب من مسافة، بل تمشي مع شخصياتها داخل الحريق. لا تبحث ليلى القباني عن بطولة، ولا تنسج حكايا للتعزية، بل تكشف القشرة، وتترك الوجع يتنفس. مجموعة فيها ما يشبه الخشوع، وما يشبه الثورة، وما يشبه الجرح الطويل الذي لا يندمل، لكنه لا يتوقف عن الكلام.
هذه القصص ليست للعابرين، بل لأولئك الذين حين يحبّون، يوزّعون أوراقهم في المكان، لا ليقرأها أحد، بل ليتذكّروا أنهم عاشوا. وفي عالمٍ يكدّس فيه البشر الرماد فوق الرماد، تأتي هذه القصص لتقول: ليس الرماد هو النهاية ما يُوقظه هو البدء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المجموعة صادرة عن دار العين 2025