أحمد رجب شلتوت
في روايته القصيرة البديعة «شارع بسادة»، لا يكتفي المبدع سيد الوكيل ببناء عالم سردي متماسك، بل ينحت نصّه من لحم اللغة، ويغزله من خيوط الذاكرة الجمعية، ويصنع سرده من تفاصيل الهامش، وما يميز هذه الرواية أنها لا تتوسل الحكاية بقدر ما تستدعيها عبر الحواس، فتصبح اللغة وسيلة ليس لإعادة تمثيل الواقع، بل لتفتيته، وتلوينه، وتكسيره، وإعادة تركيبه من جديد.
تثاؤب الجدة
يفتتح الكاتب روايته بلحظة زمنية محددة: “نحن في مساء الجمعة، في تمام الثامنة والنصف”، حيث تتهيأ الشخصيات – والعالم كله – لبداية نشرة الأخبار. هكذا نلاحظ أن الزمن لا يبدأ على النحو التقليدي، بل يبدأ حين تتثاءب الجدة، “في نفس اللحظة تتثاءب الجدة. ربما تكون قد نعست فعلاً، وخطفت حُلمًا أو حُلميْن قبل بضعة آيات. فقد حصلت على جرعة روحانية تمكّنها من الحلم بالملاك الذي يقبلها وهى نائمة” (ص 7)
هنا، لا نجد الزمن مجرد توقيت عام يُعلن على لسان المذيع، أو تشير إليه ساعة الجامعة، بل يتحوّل إلى زمن داخلي، تفتتحه حركة جسدية صغيرة، لكنها كثيفة الدلالة: التثاؤب. وكأن الجدة، التي بدا أنها “حصلت على جرعة روحانية”، هي من تملك المفاتيح السرية لبداية الحكاية؛ حكاية تُروى من قلب اللاوعي، الحلم، والحنين، تثاؤب الجدة في هذا السياق ليس فعلًا بيولوجيًا عرضيًا، بل حدث رمزي يؤسس للزمن السردي. لحظة ينتقل فيها السرد من الواقع إلى الحلم، من المعلن إلى المسكوت عنه، من النشرة الرسمية إلى النبوءة. في هذه اللحظة، يبدأ زمن الرواية الحقيقي: زمن الحكاية والهواجس والجنون الطفولي.
وهنا كذلك تبدو براعة الوكيل في تفكيك الزمن الكرونولوجي، وتقديم بديل سردي له، يمكن تسميته بـ”الزمن الإيحائي”، حيث لا تحكمنا دقات ساعة الجامعة، بل إيقاع داخلي يتردد في تنفس الجدة، في تثاؤبها، وفي ظهور الملاك الذي يقبّلها، وبهذا، يُعاد تعريف الزمن في الرواية لا كخط مستقيم، بل كجريان سيّال داخل الذاكرة والأحلام والندوب العاطفية. وكأن تثاؤب الجدة ليس فقط فعل بداية، بل هو ساعة روحية خفية تؤرخ بها الرواية نفسها.
اللغة وسرد الفتنة
تتكئ الرواية على لغة مكثفة، ذات نَفَس شعري عالٍ، لكنها لا تقع في غواية الزينة الفارغة. بل تحوّل الجملة إلى كائن ينبض بالشوق، والوحشة، والتوق إلى احتواء العالم، نقرأ: “الولد الذي يرسم الوجوه في حجرة مهجورة، كان مرصودًا للعشق، وممسوساً بالجمال”. هذه الجملة تفتح بابًا بين اللغة والتكوين النفسي والاجتماعي. فالرسم هنا ليس تعبيرًا عن موهبة، بل عن عزلة وافتقاد وحاجة للتماهي مع العالم.
واللغة هنا لا تقول فقط، بل تخلق عالماً بديلًا يعوّض عالماً خارجيًا مهتزًا. نحن أمام سرد لا يهدف إلى توصيل معلومة، بل إلى تجسيد تجربة، حيث تصبح المفردات والألوان والظلال أدوات عاطفية، توحي بما لا يُقال صراحة. وهكذا تتقاطع البلاغة مع أشكال الحرمان العاطفي والجسدي والاجتماعي. فكل عبارة مشبعة بدلالة ماكرة: أم لم تعد، غرفة مغلقة، خريطة خفية للحنين، شهوة مكبوتة تتخذ من الرسم أو الحلم طريقًا للتعبير.
بين الخطيئة والحنين
لا يظهر الجسد في الرواية بوصفه مادة بيولوجية فقط، بل نصًا ثقافيًا غامضًا. إنه موضع شهوة، وعار، وذكرى، وهو أيضًا مكان للتفاوض بين السلطة والرغبة، وفي مشهد مركزي يرسم الفتى جسد أمه: “رسم الولد وجه أمه. جعله جميلاً كما يظن، ووضع بجانب فمها حسنة. قال له الملاك: إنها ليست كذلك. قال الولد: ولكني أحبها كذلك”.
هنا لا يعود الجسد “موضوعًا” للرغبة فقط، بل “علامة” لافتقادها. الأنوثة لا تحضر ككائن حي، بل كصورة، كذكرى، كقيد لغوي يتمسك به الطفل حتى لا يسقط في هاوية النسيان أو الجنون، وهذا التوتر بين الأمومة والرغبة، بين القداسة والدنس، يُعاد إنتاجه في شخصيات مثل مارسا، سيدة آلاجا، وزينب سليمان. كلها أجساد مفعمة بالدلالات، تحمل آثار الطفولة والجنس والدين، وتعبّر عن ثقافة مزدوجة لا تعرف كيف تتصالح مع الجسد.
كذلك يحضر الجسد الأنثوي في الرواية بوصفه محورًا للخيال، ومتاهةً للشهوة، ومسرحًا للقمع. ما يحدث بين “علي” و”مارسا”، أو في جسد “زينب سليمان”، ليس فقط فعلًا سرديًا، بل ترجمة رمزية لصراع الذكر مع المقموع والمحرَّم: “قالت: انسَ أمك.. اعتبرها ماتت. أمي تجلس على ركبتيها؛ لينحسر الفستان قليلا”.
الجسد هنا مساحة مزدوجة: هو حنينيّ/أمومي، لكنه أيضًا شهوي/فاجع. وهذه الازدواجية في التشكيل الجسدي تعكس بوضوح التوتر في البنية الثقافية التي لا ترى المرأة إلا من زاويتين: القداسة أو الفجور.
نفق الغرباء
تمثل محطة القطار والنفق وحنطور رجب صورًا تكرارية تشير إلى عبور دائم: من الريف إلى المدينة، من الطفولة إلى النضج، من البراءة إلى الخطيئة. لكن هذه الفضاءات ليست حيادية، بل مشبعة بثقافة الخوف والعزل الطبقي:
“النفق خالٍ إلا من نار كفّت عن الطقطقة، وحنطور وحيد يقف بجوارها…”
النفق هنا ليس مجرد ممر، بل رحم بديل يعبر خلاله الغرباء بحثًا عن “مكانهم”. والغرباء هم دومًا محط السخرية والتمييز، و”الحاج وهدان” تجسيد لهذا الاغتراب المركّب، فهو غريب “عن بلده، عن اسمه، عن جسده”. الراوي لا يمنح النفق تسمية محايدة، بل يمنحه اسمًا مشبعًا بالرمز: “نفق الغرباء”. وهذا الاسم في ظاهره تحديد مكاني، لكنه في جوهره شفرة دلالية مفتوحة على التأويل. فالنفق هو مكان عبور، منحدر، خارج الضوء والاهتمام؛ لكن اقترانه بالغرباء يمنحه معنى يتجاوز مجرد الوصف، فمن هم الغرباء؟ إنهم، في الرواية، كل من لم يُعترف بانتمائه الكامل: القادمون من الريف، الهاربون من الذاكرة، المطرودون من حضن الجماعة، المهمّشون الذين يسكنون أطراف المعنى والخرائط. نفق الغرباء بهذا المعنى هو ليس فقط ممرًا تحت الأرض، بل مجاز وجودي لهوية مكسورة، هكذا يصبح نفق الغرباء مسرحًا للدهس، للاختفاء، للانتظار الأبدي، وفيه تُشعل نار لا تُدفئ، وتنتظر الحناطير أرواحًا عبرت ولا تعود، ويمشي الطفل داخله كمن يُعاد خلقه أو يُنسى إلى الأبد، هكذا، تتجاوز التسمية وظيفة الإشارة إلى موقع، لتصبح إعلانًا صامتًا عن مصير الشخوص: هم غرباء، وذاك نفقهم الذي يعادل رحمًا أرضيًا لا يلد ولكن يبتلع الحياة والموت معا.
مقاومة النسيان
تُقدّم الرواية حفنة من الشخصيات التي لا تجد مكانها في السرديات الكبرى: العربجي رجب، الحسونة، موظف السجل المدنى “أبو قليطة”، الطفل الذي يُنادى “ابن الحلوة”، الشيخ الأزهري المتهم بالتحرش، والقحبة العجوز التي تحولت إلى عرّافة، كل هؤلاء لا يُروى عنهم عادة، لكن الرواية تمنحهم بطولة من نوع خاص: “سيدة آلاجا… تجار المواشي الذين ضاجعوها واحداً واحداً، يجيئون من كل البلاد، يحطون رحلهم على المرفأ المهيأ للغرباء”.
بهذا المعنى، تُنقذ الرواية المهمشين من المحو، وتُقيم جماليات للهشاشة، للسخرية الموجعة، للذكريات الباهتة، وللأجساد التي تقاوم النسيان بالحكاية. تنطوي هذه الشخصيات على قيمة رمزية عميقة: فـ”سيدة” تحوّل نفسها من بغيّ إلى مؤرخة للذاكرة الحسية والمسكوت عنها، وتصبح قهوة الفنجان وأغانيها السوقية وسيلة لاستعادة ما طمره الزمن، والجمال هنا ليس في الشكل، بل في القدرة على الحكي والبقاء.