إلى صديقى الشاب: أوهام وحقائق الفن والكتابة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أسعد سليم

يعد كتاب “إلى صديقى الشاب: أوهام وحقائق الفن والكتابة” للناقد المصرى محمود عبد الشكور، الصادر عن منشورات إبييدى بالقاهرة عام 2025، عملا فكريا وإبداعيا يخاطب الشباب الطموحين إلى فهم أعمق وأدق لعوالم الفن والأدب والنقد. يعتبر الكتاب كدليل إرشادى للحائرين وسط ضبابية المفاهيم الخاصة بالفنون، حيث يسعى عبد الشكور إلى تفكيك الأوهام الشائعة، وتقديم رؤية واضحة ومبسطة للأسس الجمالية التي تشكل النواة المركزية للفن والإبداع، من خلال نهج يمزج بين التأملات والخبرات الشخصية، التحليلات الفنية والنقدية، وكذلك الواقع العملى الذى عاشه الكاتب. لقد نجح الكتاب في صياغة نص يتجاوز حدود النقد التقليدي ليصبح دعوة ملهمة للشباب لاستكشاف الفنون ومحاولة الدخول إلى دهاليزها وكواليسها بتروى وعمق، معتمدا على تجربته كشاب سابق كان يبحث عن الحقائق ويطمح لاستنباط المعانى المختلفة وسط ركام من الأوهام.

يفتتح المؤلف كتابه بتساؤلات جوهرية حول طبيعة الفن والأدب والنقد، متسائلا عن توقعات الجماهير من هذه المجالات: هل المطلوب من الفن أن يكون رسالة أخلاقية تحمل قيمًا رفيعة؟ أم أنه وسيلة للمتعة والترفيه؟ أم أن البعض يتوقع منه أن يكون توثيقا للتاريخ أو مرآة للواقع؟ يرى الكاتب أن القيم الجمالية التي هي أساس الفن، غالبا ما يتم تجاهلها، وأن الفن أصبح عرضة لتفسيرات متباينة تشكلها رغبات الجماهير. هذا الغموض هو الذى دفع عبد الشكور لكتابة هذا العمل، موجها إياه للشباب الصاعد الذى يواجه أمواجا متلاطمة من التناقضات الفكرية. يسعى الكتاب إلى التذكير بالأسس الجمالية التي هي محل إجماع، وتفنيد الكثير من الأوهام المرتبطة بالعملية الإبداعية، مع تقديم كل ذلك بأسلوب مبسط يدخل إلى عقول وقلوب الشباب.

يشارك الكاتب مع القراء تجربته الشخصية مع مجموعة من الأعمال الأدبية والفنية التي شكلت وعيه وصقلت ذائقته الأولية. فمن “ألف ليلة وليلة” التي فتحت أمامه أبواب السرد العجائبى، إلى “الحرافيش” لنجيب محفوظ التي أبانت عن تعقيدات الإنسان المركبة وتشكيلها للمجتمع، وصولاً إلى “رباعيات” صلاح جاهين التي مزجت الشعر بالفلسفة، وغيرها الكثير والكثير من الأعمال الخالدة. يقدم المؤلف لمحات عن تأثير تلك الأعمال على فهمه للفن والحياة. إن هذه القائمة ليست مجرد سرد لمجموعة من الكتب المفضلة، بل تمثل دعوة للشباب للانفتاح على أعمال متنوعة، سواء كانت أدبا كلاسيكيا أو معاصرا، عربيا أو عالميا. يؤكد عبد الشكور بين ثنايا أفكاره أن القراءة المتنوعة هي مفتاح تهذيب النفوس وتوسيع آفاق الرؤية، مشجعا الجميع على استكشاف الأعمال الفنية المتنوعة من رواية، شعر، مسرح، سينما.

يعتبر الكاتب أن العملية الإبداعية لابد وأن تكون حرة، لا تخضع لقوانين صلبة، حيث يصف الكتابة بالمغامرة الفكرية التي تبدأ بمجرد فكرة، والتي تحتاج إلى وقت وتأمل حتى تنضج، ثم تتطور عبر القراءة المستمرة والممارسة الدؤوبة. يتحدث عن متعة الكتابة كعملية تتفرغ فيها الأفكار، وقد تؤدى إلى ولادة أفكار جديدة لم تكن في الحسبان. يرفض فكرة وجود قواعد ثابتة للكتابة، مؤكدا أنها ليست استرجاع للماضى، بل أداة لفهم الحاضر واستشراف المستقبل بعين خبيرة. يشارك القراء لحظات السعادة التي يشعر بها عندما يصادف نصا كتبه في الماضى، وكيف تثير هذه المصادفة مشاعره بالإنجاز والسعادة. لكنه يحذر من الأوهام المرتبطة باللغة، مشيرا إلى أن الفنون المختلفة، من الأدب والشعر إلى الفنون التشكيلية والسينما، تبحث باستمرار عن لغتها الخاصة لتجنب التكرار والمألوف، داعيا الكتاب إلى ابتكار أساليب سردية جديدة تعبر عن معانيهم الخاصة بسلاسة ويسر.

يعتبر عبد الشكور الفن والأدب كالمحيط الشاسع الذى يستوعب الجميع بمآربهم المختلفة، سواء كانوا يبحثون عن المتعة، التأمل، أو الإلهام، ويدعو إلى قبول تنوع القراءة والكتابة، مستشهدا بشعبية الكاتب الراحل أحمد خالد توفيق في الأوساط الشبابية، منتقدا الهجوم على تلك النوعية من الأعمال الأدبية بحجة بساطتها، معتبرا أنها قد تمثل بوابة للقارئ تنقله تدريجيا إلى أعمال أكثر عمقا، مثل الانتقال من “المغامرون الخمسة” إلى روايات وعالم نجيب محفوظ. مؤكدا أن الإبداع يتطلب فهما عميقا لثلاثة محاور: الإنسان بتعدد طباعه وسلوكه، الفنون بشكل عام كوسيلة لتهذيب النفس، وأخيرا التخصص الفني الذى يمارسه المبدع.

أحد المحاور المركزية في الكتاب هو التمييز بين الصدق الأخلاقى والصدق الفني.

يوضح عبد الشكور أن الصدق الأخلاقى، المطلوب في الوثائق الرسمية أو محاضر الشرطة، يعتمد على نقل الواقع بدقة متناهية دون تغيير أو حذف. أما الصدق الفني، فيتيح للمبدع حرية التلاعب بالأحداث، الشخصيات، والتوقيتات، بل وحتى اختلاق عناصر وأحداث جديدة، دون الاتهام بالكذب، لأن هدفه هو خلق عمل إبداعى وليس عملا توثيقيا. يستشهد بثلاثية نجيب محفوظ كمثال للصدق الفني، حيث نجح محفوظ في جعل القراء يأمنون ويصدقون أن أحداثها حقيقية، رغم أنها كذب فنى جميل يعتمد على الخيال والإبداع. هذا التمييز والوضوح يفتح الباب لفهم أعمق لطبيعة الفن، الذى لا يسعى لنقل الواقع كما هو، بل لخلق واقع جديد من خلال عدسة المبدع.

يولي عبد الشكور أهمية كبيرة للنقد كأداة أساسية لفهم الفنون واستخلاص جوهرها، حيث يرى أن الناقد يحتاج إلى صقل موهبته بالقراءة المستمرة، المشاهدة الواعية، والاطلاع الثقافي الواسع. النقد، في رأيه، ليس مجرد تقييم للعمل الفني، بل عملية تحليلية تكشف عن المعاني العميقة وتساعد الجمهور على تذوق الفن بشكل أفضل. يناقش تنوع الجمهور واختلاف توقعاتهم، مشددا على ضرورة مراعاة هذا التنوع دون التخلي عن الحد الأدنى من الرؤية الجمالية. كما يشارك تجربته الشخصية في الحوار مع الجمهور، موضحا كيف أثرت هذه النقاشات في تغيير وجهات نظره، خاصة فيما يتعلق باللاشعور في العمل الفني، حيث قد يستخلص الجمهور معان لم يقصدها المبدع، وهو ما يعكس عبقرية الفن.

يتناول الكتاب السينما كمجال إبداعي رئيسي، مفنّدا الأوهام المرتبطة بحرق نهايات الأفلام عند التناول النقدى. يرى عبد الشكور أن الفيلم ليس مجرد حكاية أو حدوتة، بل عمل بصري متكامل يعتمد على الصورة، الحوار، والإخراج، مقترحا تأجيل قراءة النقد إلى ما بعد المشاهدة. كما يناقش تحويل الروايات إلى أفلام، مؤكدا أن السينما تتمتع بحرية إبداعية مستقلة عن النص الأدبي، ويستشهد برؤية نجيب محفوظ، الذي اعتبر نفسه مسؤولا عن رواياته فقط، وليس عن الأفلام المستندة إليها، مشيرا إلى أن صناع الفيلم لهم الحق في تقديم رؤيتهم الخاصة، حتى لو اختلفت عن النص الأصلي.

في سياق كتابة السيناريو، ينصح عبد الشكور المخرجين الشبان بعدم الانقياد وراء مصطلح سينما المؤلف، والانجرار وراء ضرورة كتابة سيناريو أعمالهم بأنفسهم، وتحديدا إذا افتقدوا للموهبة في كتابة السيناريو. إن عملهم كمخرجين يتطلب ويشترط عليهم فهم السيناريو بكل مستوياته السطحية والعميقة، حتى يتمكنوا من إبراز ذلك كله في الصورة البصرية النهائية، لكنه لا يلزمهم بالضرورة كتابة السيناريو بأنفسهم. إن الفيلم السينمائى يشبه العمارة والتي لا يمكن إنشاءها بدون القواعد والأساسات اللازمة التي ستحمل المبنى، كذلك هو السيناريو، العمود الفقرى الأساسى بالنسبة للعمل السينمائى، لذلك لابد من صياغته بمهارة وحرفية وإبداع تام.

بينما يحاول الكاتب إزالة اللبس حول المصطلح المثير للجدل وهو الرواية التاريخية، حيث يعتبر أنهما كلمتان مختلفتان تنتميان لواقعين غير متشابهين، فالتاريخ لا يؤخذ سوى من المؤرخين، وإذا أخطأ المؤرخ في واقعة تاريخية ما سواء بقصد أو عن غير قصد فهو ملام، لأنه انحرف عن الحقائق التاريخية فيما يشبه التزوير والتضليل. بينما عندما يتناول الروائى أو المبدع عموما المسائل التاريخية فإنه ليس مطلوبا منه نقلها بحذافيرها، والالتزام بالصدق الأخلاقى، لا، إنه فقط يستلهم من ذلك التاريخ، ويصبغه بصبغة معاصرة، تظهر رؤاه وأفكاره حول تلك الحقبة التاريخية، وليس من الصائب مساءلته حول تزييف التاريخ أو ادعاء وقائع جديدة.

يدعو محمود عبد الشكور في كتايه “إلى صديقى الشاب” إلى تذوق الفنون بمختلف أشكالها، مؤكدا أن الجمال يتجاوز المنطق، وأن الهدف الأسمى للفن هو إثراء الروح وتوسيع الوعى والأفق. يحث القراء على الاطلاع والمعرفة قبل إبداء الرأي، مشددا على أهمية التكوين الثقافي الفردى لتقديم نقد موضوعى. يرى أن الفكرة وحدها لا قيمة لها مهما بدت خالدة في بدايتها، فهى لن تخلد حقا إلا إذا تحولت إلى عمل فنى متكامل، كما أن العلاقة بين النص والمؤلف ليست مطلقة، حيث يكتسب النص حياة مستقلة من خلال تفسيرات الجمهور المتنوعة.

يتمتع محمود عبد الشكور بروح شابة تسعى دائما إلى المحبة والسلام والتنوير، وهو ما انعكس في كل كتاباته، ينثر بذور الحب والمعرفة، ويزرع الأمل في النفوس، ينحنى للجمال ويخشع للإبداع، ويقدم للجميع دعوة للاستمتاع بالحياة والفن والأدب. فكونوا معه، لأنه صادق، ولأنكم تستحقون.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب مصري 

مقالات من نفس القسم