ألقيت يمين الطلاق على زوجتي. حزمت حقيبة سفر بعد أن حشوتها بملابسي دون تنسيق. خرجت من باب الشقة بعدما تركت قُبلة على خد طفلتي النائمة. أما المرأة التي كانت زوجتي منذ دقائق فقد وقفت في منتصف الصالة صامتة تحملق في اللاشئ بلا حراك كتمثال في متحف. صفقت الباب خلفي فلفحني صقيع الشارع. أوقفت تاكسي بأصابع يد مرصرصة. دسست حقيبة ملابسي في شنطة السيارة. انتخبت المقعد الخلفي تحاشيا لحوار محتمل مع سائق يريد تزجية بعض الوقت. حددت له وجهتي بدقة لا تستلزم مزيدًا من الشرح والإيضاح، ولأني أفهم رسائل لغة الجسد وتأثيرها في الآخرين، طأطأت عقب ذلك رأسي إلى صدري كمظلة مُغلقة لا تريد أن تنفتح لأحد. بعد أن اطمأنت أفكاري لبلوغ غايتي، في تجنب ثرثرة غير مرغوب فيها، في وقت أشد ما يكون المرء فيه حوجة إلى صمت بليغ وتأمل عميق لشريط حياته الزوجية التي انتهت للتو.
بينما كان هذا الشريط يمر بسرعة تتناسب مع سرعة مرور سيارة الأجرة عبر الشوارع لمحت ذلك الإعلان المتكرر عبر سور طويل لقطعة أرض فضاء غير مخصصة للبيع أو للإيجار. الإعلان من خمس كلمات: نوفر لك شريك الحياة المناسب. وأسفل الجملة، هناك رقم هاتف للتواصل، ابتسمت في سخرية داخلية حتى لا يلمحها السائق فيجدها فرصة سانحة للحديث، كان يمكن أن يتوقف الأمر عند هذا الحد لكن إشارة المرور التي أجبرته على الوقوف قبالة هذا الإعلان جعلت الأمر لا يبدو محض صدفة، ولأني أؤمن بالعلامات أخذت أختلس النظر إلى الرقم الموجود على السور، ثم أخرجت هاتفي وتظاهرت بالتصفح بينما كنت أحفظ الرقم على الموبايل.
عند الوجهة التي حددتها توقف السائق، فمنحته الأجرة بشيء من الزهو لكوني تغلبت عليه وأفلحت في صد كلماته طوال الطريق كحارس مرمى ماهر يمنع خصمه من إحراز الأهداف في شباكه، ولأني أعرف أني كنت بحاجة لأي انتصار هذه الليلة سررت بالفوز عليه، وقبل أن أدلف إلى مدخل بيت أمي ناداني قائد السيارة قائلا وهو يشير إلى مؤخرة سيارته: شنطتك. ألقاها كتعويذة سحرية بنبرة يملؤها شعور بشماتة من استطاع أن يقلب موازين المباراة التي بينه وبيني في آخر دقيقة. سحبت حقيبتي والغيظ يملؤني، خاصة أني أدركت من نظرته أنه انتظر حتى أهبط من السيارة وأتحرك بعيدا ليعلن انتصاره. انطلق بسيارته مسرعا كأن إطاراتها تزغرد وتصخب بانتصار صاحبها.
تخيلتني أتناول تلك الإطارات وألوكها كطعام سيء قدمته لي زوجتي بإصرارها على الطلاق، وجاء السائق ليقدم لي مزيد من طعام الإطارات ذات المذاق المطاطي، كدت أتقيأ، تماسكت ورسمت على وجهي ابتسامة سلام قبل أن تستقبلني أمي بحضن مليء بالتساؤل وعيناها على حقيبة ملابسي، ولأن قلب الأم غير قلب السائق لم ترغب أمي بسؤال يجدد شعوري بالهزيمة، بل قالت متخطية الأمر كله: أحضر لك العشاء؟ هززت رأسي بالنفي، وقلت: سأنزل لأشتري سجائر، لم تمانع. رغم طيبة قلبها فصمتها وعدم تعليقها هزمني أيضا بهدف جاء عن طريق نيران صديقة.
اخترت كشك سجائر بعيدا عن البيت حتى لا يتعرفني صاحبه، بعد عدة سجائر ضاع طعم المطاط من فمي وامتلأت خياشيمي بالتبغ والقطران والزفت. أخرجت هاتفي وطلبت رقم موفر شريك الحياة المناسب، فرد صاحبه بآلية من يتوقع اتصال في كل وقت محييا بالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته كاملة، فرددت التحية بمثلها ففي الحقيقة لم يترك لي المجال لأرد بأحسن منها، اعتبرت هذا الموقف تعادلا لا انتصار فيه ولا هزيمة، وجعلني ذلك أتفاءل قليلا فهذه أول نقطة تعادل أحرزها اليوم في ليلة كلها هزائم.
شجعني قرب مكتبه من بيت أمي على الذهاب إليه مباشرة عقب إنهاء المكالمة، كنت أبحث عن تسجيل هدف بأي طريقة حتى لو كان هدفًا من تسلل واضح، لذلك تسللت إلى مكتبه خشية أن يقابلني بواب يسألني ويعرف سبب صعودي الذي آراه مخجلا، فلا يصح لرجل حداثي مثلي مطلّق لتوه أن يبحث عن زوجة بهذه الطريقة القديمة.
مكتبه جزء من بيته، وبيته جزء من مكتبه، يمكن أن أوجز القول بشعار إعلاني: اثنين في واحد، المكتب البيت. صاحبه بدا كلوحة سريالية، مدخل الشقة يتصدرها مكتب خشبي خلفه كرسي حلاق وفوقه عبارة: مودة ورحمة، مكتوبة على ورقة إيه فور بفونت أندلسي بحجم لا يقل عن ثلاثين، من الواضح أن هيئتي وملامح الاستغراب التي لم أنجح في إخفائها جعلته يوضح أنه اضطر لذلك حتى لا يتم التعامل معه كشركة ونشاط تجاري، وهو في الحقيقة لا نشاط تجاري ولا يحزنون، هو عمل شبه خيري ولا يأخذ مقابله إلا ثمن الاستمارة، التي قدمها لي في التو واللحظة من ملف يمتلئ باستمارات مكتوب عليه: رجال، سحبه من جوار ملف مكتوب عليه: حريم. في تلك اللحظة خرجت جريا طفلة صغيرة ذات بشرة سمراء قادمة من أحد الغرف في حين تتعقبها طفلة شقراء تماثلها عمرا، وتقبض عليها صائحة في سعادة: مسكتك.
يبتسم الرجل ويخبرني وهو يشير للبنتين والورقة المعلقة فوق كرسي الحلاق: مودة ورحمة.. بناتي، ويضيف أنه لذلك سمى مكتب الزواج الخاص به مودة ورحمة حتى يتفادى أي إجراء حكومي ضده، فهذا ليس اسم مكتب لتيسير الزواج وإنما اسم ابنتيه.
لم أتوقع خيرا، لكن الأمر بالنسبة لي كان لعبة، أعرف أني أحتاج لملهاة حقيقية تغطي على مأساة حياتي الزوجية التي انتهت للتو.
انهمكت في ملأ الاستمارة التي تمتلئ بالأسئلة شديدة الخصوصية فهناك سؤال عن الشكل المفضل في أجساد النساء وإن كان السؤال تم صياغته بطريقة موحية غير مصرحة بطريقة هل تحب شكل الكمثرى أم شكل التفاحة؟ هل تفضل ذات الشعر القصير أم الطويل؟ أسود أم أشقر؟ ناعم أم مموج؟ يبدو إنه لاحظ ارتباكي، فقال والابتسامة تعلو شفتيه: لا حياء في الزواج، انهمكت في الاختيار، واخترت ساعتها أقرب أنواع الفواكه لقلبي بغض النظر هل تشبه جسد المرأة الذي أفضله أم لا تشبهه.
من خلف ستارة تحجب الصالة عن باقي الغرف خرجت امرأة صغيرة ذات ملامح ريفية تحمل صينية عليها كوبين من الشاي، وضعتها في حياء وقالت: اتفضل، فأشار إليها قائلا: زوجتي أم مودة، فهززت رأسي مرحبا، ولما وجدني لا أقرب الشاي، قال: اشرب، ثم نادى بسكوت الشاي، فخرجت امرأة بملامح أصغر من سابقتها تحمل طبقا به قطع من البسكويت غير متناسقة الأشكال والأحجام وقالت: اتفضل. قدمها لي قائلا: أم رحمة، فهززت رأسي بالتحية، قدم لي الرجل الطبق وقال مفتخرا: بسكوت أم رحمة صناعة منزلية. نحيت الطبق جانبا، وتظاهرت بالانهماك في حل ألغاز استمارة شريك الحياة، نظر في ساعته، فشعرت كأني تلميذ بلجنة امتحان وهو المراقب الذي يترقب انتهاء وقت الاختبار ليسحب ورقة الإجابة في الموعد المحدد. بعدها قام فجأة وغادر مقعد الحلاق، وهو يخبرني بأنه سيغيب دقيقتين، اختفى خلف الستارة التي تفصل الصالة عن باقي الغرف والتي لاحظت لأول مرة أنها عبارة عن لافتة سابقة لمرشح انتخابي جُز نصف عنقه متدليا في الجزء الأسفل من الستارة فبدا جثة رجل مقطوع الرأس.
لا أعرف ما السبب الذي جعلني أسحب ملف النساء وأتحرك متسللا ناحية باب الخروج، ربما كنت أود أن أعرف ما الذي تريده المرأة من الرجل، خاصة أني لم أعرف: لماذا طلبت زوجتي الطلاق وأصرت عليه؟
في الشارع كنت أغذّ السير وأنا أتلفت ورائي حاملا تحت إبطي نساء كثيرات يبحثن عن شريك الحياة المناسب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صدرت مؤخرًا عن دار العين