رواية “وحيدة كغرفة مزدحمة” .. الحياة ندبة لا تشفى!

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
ليست رواية تقليدية، بل سلسلة من الرسائل المتكسّرة، كأنها اعتراف طويل عن كائن هش في عالم صلب

أفين حمو 

في روايتها الأولى “وحيدة كغرفة مزدخمة” الصادرة مؤخرًا عن دار الآداب، تكتب بدار سالم رواية تحمل بين صفحاتها ما يتجاوز الحكاية شخصية إلى ما هو أعمق،  إنه سردٌ داخلي لوجعٍ لا يجد له اسماً. ليست كل الروايات تُقرأ، بعضُها يُشبهك، وبعضها يُشبه من خذلك، وبعضها يذكّرك بمن كنت ستصبح، لولا تلك “النجاة” التي عبرت بك في اللحظة الأخيرة. هذه الرواية واحدة من تلك التي لا تمر عليك مرورًا عابرًا، بل تستقر، كأنها تفتح بينك وبين ذاتك حوارًا مؤجّلًا.

 تُقدّم الرواية شخصية “مجدل”، فتاة فلسطينية، صوتها لا يأتي عبر حوار تقليدي، بل عبر رسائل إلكترونية: رسائل كتبتها لكل الجهات التي لم تسمعها يومًا — جامعة، طبيب، مؤسسة، حبيب سابق، وأحيانًا كتبت لنفسها. رسائل تفيض بسخرية مرة، كأنها تحاول أن تُغطي على ألم داخلي لا يُروى بالكلمات. لا تُخبرك مجدل بكل شيء، لكنها تترك في كل رسالة صدًى كافيًا لتفهم ما لم يُكتب.

مجدل لا تُشبه أحدًا، وهذا ما يجعلها قريبة. تكتب عن طفولتها كما يتذكر الواحد منا ذكرياتٍ حاول أن ينساها ثم خسر المعركة. أمّ رحلت باكرًا، وجدّة صارت الحضن المؤقت، وأبٌ خرج من السجن ليجد بيتًا لم يعد يعرفه. وبين غياب الأم وزواج الأب من “سعاد”، تتكون ندبة لا تشفى، يُلخّصها هذا الاعتراف البسيط الذي لا يحتاج شرحًا:

مُشكلتي بأنَّها لم تستطع أن تُحبَّني، وأنَّ والدي لم يستطع أن يُحبَّها.

جملة كهذه لا تُقال إلا من عمق الجرح. ليست المشكلة فقط في من غادر، بل في الذين بقوا ولم يعرفوا كيف يحبّون. في الحبّ الذي لم يأتِ، في الاحتضان الذي تأخر أو لم يصل أصلًا.

تستخدم “مجدل” السخرية لا للضحك، بل للنجاة. تُضحكك الجمل، ثم تُربكك. في كل رسالة هناك محاولة للتوازن، كأنها تقول: “لا بأس، سأبدو بخير.” لكنها لا تكون كذلك. في واحدة من أكثر الرسائل رمزية، تتحدث عن خطأ مطبعي بسيط:

لم أنتبه إلى أنَّ اسم الشركة تحوَّل بقدرة واحدٍ أحد من الناجح للتعليم إلى النافح للتعليم.”

لكن الخطأ الحقيقي ليس في الكلمة، بل في الإحساس العميق بأنها غير مرئية، أنها لا تُرى، لا تُفهم، لا تُؤخذ على محمل الجد. وهذا ما كانت تعانيه مجدل طوال الوقت: الإحساس بأنها دائمًا أقل، دائمًا في الهامش.

ثم تأتي السياسة. لا بوصفها حدثًا خارجيًا، بل كشيء يخترق البيت، يدخل الغرف، ويعتقل الأب. في أحد المشاهد، يجتاح الجنود الإسرائيليون بيتهم، ولا تفعل مجدل شيئًا. لا تصرخ، لا تدافع. تقول ببساطة:

لم أكن بطلة، ولكنَّني لم أكن أدري أنَّني بذلك الجُبن سوى ذلك اليوم.”

هذا ليس استسلامًا، بل شجاعة من نوع آخر. شجاعة قول الحقيقة، دون اختراع بطولة لا وجود لها. لا تجمّل مجدل المشهد، لا تصنع من نفسها بطلة، فقط تقول: كنت خائفة. وهذا الاعتراف وحده يُحسب لها.

ثم يأتي الجسد، بما يحمله من ذاكرة مختلفة، جرح لا يتكلم بل يظهر. الرواية تتناول تجربة التحرش الذي تعرضت له مجدل من شقيق زوجة الأب، لا بشكل صادم أو فجّ، بل بما يُشبه التوقّف الطويل أمام المرآة:

لديَّ صورةٌ مختلفةٌ عن وجهي، وفي كلِّ مرَّةٍ أرى مرآةً أفزع من «هاي الجثَّة».”

المرآة هنا ليست زجاجًا، بل سطر محايد لا يكذب، يشهد على أن ما انكسر في الداخل لم يُرمم. وكأنّها كلّما حاولت أن ترى وجهها، واجهت الحقيقة التي لا تُحتمل: هذا الوجه لا يشبه من كانت تريده، ولا يشبه من كان يجب أن تكونه.

وعندما تحب، لا تُعلن الحب. تحب “هادي” بصمت، ثم تختفي حين يُعتقل، لا ترسل، لا تتكلم، لا تبرر. فقط تتساءل لاحقًا:

“من أين تأتي القسوة؟”

سؤال بسيط، لكنه يختزل الكثير. من أين تأتي هذه القدرة على الهروب بدل المواجهة؟ على الانسحاب بدل الحضور؟ وهل القسوة فينا أم أننا تعلّمناها من الذين لم يُحسنوا احتضاننا؟

حتى العلاقة مع الله تمر بمنعطف صعب بعد موت الجدة. لا تتحول مجدل إلى الإلحاد بغضب، بل كنوع من الحيرة، كخذلان آخر لم تجد له مبررًا. تقرأ عن الدين، تبحث، ثم تبتعد، ليس لأن الإيمان خذلها، بل لأن الأمل نفسه تراجع.

“بدون أُمٍّ لا تستطيع الحياة، وبدون أُمٍّ لا تستطيع الموت.”

هذه الجملة بالذات، تبدو كأنها خلاصة الرواية. ما يُحدث الكسر ليس دائمًا الفقد، بل غياب الشكل الأول من الأمان. ذلك الذي إن فُقِد في البداية، يصعب تعويضه لاحقًا.

في نهاية الرواية، تكتب مجدل رسالة إلى والدها، تتخيل فيها حياة أخرى، لو لم تكن هي. حياةً بملابس زاهية، بكُحلٍ أزرق، بوجه لا يخاف المرايا. لكنها تعود لتقول: لم أكن تلك الأخرى. أنا مجدل. بندوبها، بجُرحها، بضحكتها المختنقة.

لغة بدار سالم في هذه الرواية لا تحاول أن تُبهر القارئ، لكنها تُربكه. ليست لغة متعالية ولا مشبعة بالبلاغة، لكنها تختار كلماتها كمن يكتب من داخل الجرح، لا من خارجه. لا تلهو بالمجازات، بل تكتفي بالصدق، وهذا هو مكمن جمالها. هناك جُمل تمرّ عليك كأنها عادية، لكنها تباغتك لاحقًا، تطرق رأسك، وتُذكّرك بأن الألم لا يحتاج إلى زينة ليصير شعراً.

بدار سالم تكتب بلغة “مجدل” لا بلغتها ككاتبة، وهذا فارق كبير. لم تحاول أن تكون شاهدة خارجية على الألم، بل اختارت أن تكون صوته الداخلي. حتى السخرية في الرواية، تلك التي تضحكك للحظة، لا تأتي خفيفة، بل محمّلة بمرارة التجاوز القسري. كأن الكاتبة فهمت مبكرًا أن أجمل اللغات هي تلك التي لا تزاحم الشعور، بل تفسح له المجال.

وربما لهذا، لم تكن اللغة مجرّد وسيلة لنقل الحكاية، بل جزءاً من الحكاية نفسها. تحمل هشاشة “مجدل”، ارتباكها، محاولاتها للتماسك، وخوفها من أن تُرى على حقيقتها. فكل جملة، وإن بدت بسيطة، كانت تقول شيئًا عن صمتٍ سابق، عن وجع لم يُقال بالكامل.

“وحيدة كغرفة مزدحمة” ليست رواية تقليدية، بل سلسلة من الرسائل المتكسّرة، كأنها اعتراف طويل عن كائن هش في عالم صلب. رواية يمكن أن ترى نفسك فيها، حتى لو لم تكن مجدل. وربما هذا ما يجعلها قريبة: أنها لا تبحث عن الحل، بل عن من يفهم السؤال. كتبتها بدار سالم ببساطة نادرة، وشجاعة لا تُرى بسهولة. رواية لا تُقرأ بالعين فقط، بل بالقلب الموجوع. لندرك في النهاية أن الوحدة ليست في الغرف الفارغة، بل في الغرف المزدحمة التي لا يعرفك فيها أحد

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعرة وناقدة سورية 

مقالات من نفس القسم