عثمان بن شقرون
من الصعب قراءة نصوص روبير فالزير دون أن يشعر القارئ بأنه لا يكتفي بدوره، بل يُستدرج تدريجيًا إلى حالة من الكشف الباطني، وكأن الكاتب يدعوه، همسًا، إلى خلع نعله والدخول إلى معبد سرّي لا تُفتح أبوابه بالكلمات، بل بالإحساسات الخفية. لقد رسم فالزير عبر مساره الأدبي والوجودي ملامح تجربة وجودية أقرب ما تكون إلى دروشة صوفية، لكنها دروشة بلا زاوية، بلا شيخ، وبلا طقوس محددة، وإنما بذات مكسورة تبحث عن الخلاص في الكتابة الصامتة، في الظلّ، وفي التفاصيل الصغيرة التي لا يلتفت إليها أحد.
من هذا المنظور، لا يُعد الهامش الذي ارتضاه فالزير عن وعيٍ واختيارٍ مجردَ موقعٍ اجتماعي أو أدبي، بل مقامًا روحيًا. لقد انسحب من صخب المركز مثل ناسك يزهد في الأضواء، ووجد في المشي، في المراسلات، وفي العمل اليدوي، وفي أشكال العزلة المتكررة، طرقًا للنجاة لا تقل في جوهرها عن «مقامات» المتصوفة.
وقد يكون من أعمق المفاتيح لفهم هذه التجربة، مفهوم «الجذبة» كما هو متداول في التصوف الشعبي المغربي. فالمجذوب هو ذاك الذي أصابته نفحة من العوالم العليا، فاختلط عليه العالم، وتحرّر من قيود العقل، وصار خطابه بالإشارة لا بالعبارة، رمزيًا لا منطقيًا. إنه في حالة سكر إلهي تجعله يتجوّل في الأرض كمن يبحث عن شيء مفقود أو يهرب من شيء غير مرئي. هكذا كان روبير فالزير رجلا يمشي باستمرار، يكتب من أطراف اللغة، يحوم حول المعنى دون أن يستقر فيه، كمن أصابته «جذبة» أدبية لا شفاء منها، بل يتحوّل هو نفسه إلى أثرٍ من آثارها.
إن الكتابة عن فالزير، أو ترجمته، ليست مجرد عمل أدبي أو لغوي، بل هي تجربة وجودية موازية. المترجم، شأنه شأن المريد، يدخل إلى عالم لا يكشف له أسراره إلا بالتدرّج والصبر، وعبر المحبة لا الحيلة. يقرأه قراءة وَلَهٍ لا قراءة تحليل، ويترجمه كمَن ينقّب في الرماد عن الجمر، أو كمن يزيح ستارة عن سرّ يختبئ في العتمة. فالترجمة هنا رياضة روحية، وتواطؤ مع المعنى المستبطن لا الظاهر.
لذلك، ففهم فهم روبير فالزير لا يتم عبر المناهج النقدية الجاهزة، سواء كانت تقليدية أو حداثية، لأن نصوصه تُبدي مقاومة صريحة لكل مقاربة تُفرض عليها من الخارج. كل نقد ينطلق من فرضية مُسبقة أو يُطبَّق بمنهج مدرسي (scolastique)، أي من داخل منظومة مغلقة تنزّل النظرية على النص كما يُنزَّل الحكم على القضيّة، لا يفعل سوى أن يُقيم جدارًا بينه وبين عوالم فالزير، بدل أن يفتح نافذة إليها. إن ما يُربك في أدب فالزير ليس غموضه، بل شفافيته المراوغة، وتقلّبه الوجداني، وإعراضه عن التمركز. لذلك فإن أي مقاربة لا تتصف بالتجرّد والانصات الصبور، وتنطلق من معايشة داخلية للنص، هي مقاربة مهددة بأن تبقى على العتبة. فالزير لا يُقرأ بنَفَس التحليل بل بوهج التلقّي، لا بعين التصنيف بل بعين التلمّس. النقد الذي لا يُجرّد نفسه من أدواته الصلبة ويتقدّم إليه بخفة المريد، سينكسر أمامه كما ينكسر المنطق أمام الحلم.
قراءة فالزير تحتاج إلى تواطؤ وجداني مع حالته. يحتاج إلى من يرى في صمته خطابًا، وفي عزلته مقامًا، وفي نزهاته ضربًا من السلوك الروحي. ولعل هذا هو ما يجعل من استحضار التصوف — لا بوصفه ديانة، بل بوصفه تجربة — ضرورة تأويلية. فمثلما تسعى التجربة الصوفية إلى الانمحاء في المطلق، فإن فالزير أيضًا حاول، عبر أشكال التلاشي الكتابي والوجودي، أن يكتب ذاته وهو يمحوها.
روبير فالزير لم يُطوَ بالنسيان، بل ظلّ حضوره ممتدًا في الزمن الأدبي، ليس عبر صوته الصريح، بل عبر أثره الخافت، المتسلل إلى لغة الكتابة الحديثة ومزاجها المتأمل. ما انتهى بوفاته هو حضوره الفيزيقي فقط، أما نصوصه فظلت تُبقيه حيًا في وجدان من يقرأه بإنصات. ليس من باب النوستالجيا أو التقديس، بل لأن أعماله تُقاوم الاستهلاك السريع، وتطالب قارئها بقدر من الصمت الداخلي. إن ما يجعل فالزير كاتبًا استثنائيًا هو قدرته على بناء نص لا يكتفي بأن يُفهم، بل يُطالِب بأن يُعاش، كما تُعاش التجربة الروحية: بالتدرج، وبالمكاشفة، لا بالتحليل الخارجي وحده.
في زمنٍ تصخب فيه الأنا وتتنازع الذوات على الظهور، يبدو روبير فالزير درسًا جماليًا وأخلاقيًا في الانسحاب، في نكران الذات، في الكتابة بصيغة التخفّي لا التفاخر. لم يكن يسعى إلى البروز، بل إلى الذوبان في اللغة، وإلى أن يمرّ كظلّ خفيف لا يُحدث ضجيجًا. ومثلما يُنسب إلى المجذوب أنه يرى ما لا يُرى، فإن فالزير، في نثره المتواضع، كان يلتقط بعين الدهشة ما تغافل عنه الآخرون: التفاصيل الصغيرة والحركات اليومية والأشياء التي تبدو عديمة القيمة لكنها تختزن كثافة الوجود.
إن فالزير هو كاتب «اللاشيء» العظيم، واللامرئي المُشبَع بالدلالات. كأنما يكتب لا ليشرح العالم، بل لينصت إليه وهو يهمس. ومن هنا، فإن إدراجه ضمن سياق تصوّفي لا يُعدّ إسقاطًا تعسفيًا، بل إضاءة تأويلية لمساره الصامت والعميق، والمستبطن، مسار من يمارس الكتابة كما يُمارَس الذكر: بتكرار خافت، وبحضورٍ داخليّ لا يحتاج إلى جمهور. وبذلك، يمكن القول إن فالزير لم يكن فقط كاتب الهامش، بل ناسكه؛ ولم يكن مترجَمه فقط منقولًا إلى لغة أخرى، بل مطروقًا بروح الترجمان/المريد الذي ذاق من النبع ذاته.
إن فالزير، بما يمثل من انصهار بين الكتابة والتصوف، يطرح أمامنا نموذجًا نادرًا للكتابة التي تتخطى حدود الكلمة لتصبح فعلًا روحيًا. وليس المهم فقط ما يُقال، بل كيف يُقال، وكيف يعيش القارئ هذه اللغة المتخفية بين السطور. ومن هنا، تبرز أهمية القراءة التي لا تهدف إلى مجرد الفهم أو التحليل، بل إلى الانصهار في التجربة النصية.
وهكذا، تتجاوز قراءتنا لفالزير الحضور الأدبي لتصبح مسارًا روحيًا يمسّ أعماق الذات، ويتطلب منا ممارسة تأملية، لا مجرد استهلاك فكري.