عباس بيضون.. غريبٌ يُقيم في اللغة

abbas baidoun
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سامح قاسم

ثمة شعراء يكتبون كما تُضاء عتمة الغرف الخافتة، لا ليُعلنوا النور، بل ليكشفوا ما تراكم في الظلال من هواجس وأصوات ومشاعر لا تجد لها شكلًا في العلن. عباس بيضون واحد من أولئك الشعراء الذين يتكئون على اللغة لا كوسيلة، بل كبيتٍ من زجاج شفاف، يسكنه الخوف والأمل والرغبة والخذلان، ويطلّ من نوافذه على هشاشة العالم.

في كل ما كتب، من الشعر إلى الرواية إلى المقال الصحفي، ثمّة نَفَس خفيّ، نَفَس يشبه من يتحدّث إلى نفسه في آخر الليل، لا ليفهم، بل ليبقى في دائرة الحيرة التي تمنحه ملامحه الحقيقية. بيضون لا يكتب ليطمئن، بل ليعمّق القلق، لا ليهدي القارئ إلى إجابات، بل ليقوده بحنانٍ غامض نحو الأسئلة الأكثر خفاءً. وهو حين يفعل ذلك، لا يصيح، بل يهمس، وأحيانًا لا يهمس، بل يصمت، فيجعل من الفراغ جزءًا من النص، ومن البياض جزءًا من الحكاية.

ليس في شعره ضجيج اللغة العالية ولا استعراض المفردات الغريبة. بل ثمّة رقة متناهية تشبه تلك اللحظة التي تلامس فيها يد الطفل وجه أمه لأول مرة. الكلمات عند بيضون تمشي بتؤدة، كمن يخاف أن يوقظ جرحًا قديمًا، أو أن يوقظ نفسه من حلم كان يفضّله على اليقظة. لكنها، مع رقتها، تخترق. كالسهم المغطّى بالريش الناعم، تصل إلى العمق لا لأنها قاسية، بل لأنها صادقة في توجّسها، صادقة في ارتباكها، صادقة في عدم يقينها.

شعر بيضون لا يُلقي القبض على لحظة جمال، بل يتتبع آثار الجمال الذي مرّ ومضى، وترك خلفه ظلًا مرتجفًا. القصيدة عنده ليست نهاية، بل أثرٌ. ليست بناءً، بل تناثر. وليست سيرة مكتملة، بل شذرات من سير تتقاطع وتتنافر وتتناثر على ورقٍ هش، لا يمكن للريح إلا أن تشتته في الاتجاهات الأربعة.

ليس منفى عباس بيضون منفى جغرافيًا، بل منفى شعري. هو الغريب حتى وهو في وطنه، الغريب حتى وهو بين أهله وأصدقائه، الغريب حتى وهو يكتب. وكتابته لا تُخفف هذا الإحساس بالغربة، بل تعمّقه، لأنها تفضح هشاشة كل انتماء، وتكشف كيف أن اللغة نفسها، اللغة التي نلوذ بها لنثبت وجودنا، هي بدورها أرض رخوة، لا يمكن الركون إليها بالكامل.

هو ابن الجنوب اللبناني، لكنه لا يكتب الجنوب كمكان، بل كجرح. هو من جيلٍ حمل أعباء الهزيمة، لكنه لم يكتب عن الهزيمة كحدث، بل كغيمة ثقيلة تقيم فوق الرؤوس ولا تمطر. ومن هنا، جاء شعره لا سياسيًا بالمعنى المباشر، بل سياسيًا بالمعنى الأكثر خطورة: أن تكون الشهادة على الانكسار فردية، أن يتحول ما هو شخصي إلى تعبير عن هشاشة جمعيّة، أن يكون صوت الذات هو الناطق بصمت الجميع.

في قصائد عباس بيضون، ليس الحزن انفعالًا مؤقتًا، بل هو هوية. وليس الألم جرحًا يريد أن يلتئم، بل ندبة نعتادها، ونتلمّسها كلما أردنا أن نتأكد أننا ما زلنا أحياء. شعره لا يبحث عن عزاء، بل يعرض فشل العزاء، ويُجيد الإنصات لذلك الفراغ الذي يتركه الغياب. وفي هذه الإنصات، يكمن سرّه الشعري: أنه يعرف كيف يكتب الصمت، كيف يصوغ الفراغ، كيف يعطي للاشيء حضورًا مهيبًا.

الحب عنده ليس عناقًا، بل غيابًا. والرغبة ليست نارًا، بل رمادًا دافئًا نتحسسه كي لا ننسى أن شيئًا ما كان يشتعل هنا. والموت ليس نهاية، بل سؤالٌ معلّق في صدر القصيدة، لا يريد إجابة، فقط يريد أن يُسمع.

في رواياته، لم يتخلّ بيضون عن صوته الشعري. السرد عنده ليس خطًا مستقيمًا، بل التواءات روحية تنسج حياةً من شظايا. لا يصوغ الحكاية كما تُروى في العادة، بل كما تُتذكّر: مشوّشة، مبعثرة، مرقّطة بنقاط صمتٍ سوداء لا تُشرح، بل تُلمح. شخصياته لا تروي فقط ما حدث، بل تروي كيف جُرحت حين حدث، وكيف عاشت بعد الجرح، وكيف بقي الجرح هو الحكاية.

في “تحليل دم”، و”مرايا فرانكشتاين”، و”الشيخ الأحمر”، وغيرهم، نجد دائمًا شخصية تقف في منتصف الطريق: لا تعود إلى الوراء، ولا تتقدم إلى الأمام. تُشبه إلى حد بعيد صوت الشاعر نفسه، الذي لا يقف في الماضي ولا في الحاضر، بل في تلك اللحظة التي لا تُحتمل: لحظة الوعي الكامل بالعبث.

عباس بيضون لا يكتب لينجو، بل يكتب لأن لا نجاة. وهذا الإدراك القاسي لا يمنعه من الاستمرار، بل يجعله أكثر إصرارًا على أن يترك لنا أثرًا: قصيدة، سطرًا، لمسة، قلقًا. كأنّه يقول: إن كنا لن ننجو، فلنكتب إذًا ما يجعل الفناء أقل صمتًا، وأكثر إنسانية.

بياض صفحات بيضون ليس حياديًا. هو بياض مثقوب، تهبّ منه ريح خفيفة، ريح ناعمة تذكّرنا بأننا لسنا وحدنا، وأن أحدًا آخر مرّ من هنا، ومشى، وتعثّر، وترك وراءه قصيدة على الأرض.

لا يمكن تلخيص عباس بيضون. لأنه لا يقول كل شيء، ولا يريد. بل يكتب ليُبقي بعض المعنى في الظل، بعض الشعور معلقًا في سقف الحنجرة، بعض الحكاية بلا نهاية. وهذا، ربما، هو ما يجعل أدبه حميمًا بقدر ما هو غريب، هشًا بقدر ما هو عميق، بسيطًا بقدر ما هو لا يُفهم.

إنه شاعرٌ يعرف أن كل جملة صادقة هي جملة ناقصة، وكل حبٍّ كبير هو حبٌّ مؤلم، وكل وطنٍ عميق هو وطنٌ مفجوع. ولهذا، سيظلّ بيضون يكتب. لا لأن الكتابة تُشفي، بل لأنها، ببساطة، الطريقة الوحيدة لنقول للألم: أنا أراك.

مقالات من نفس القسم