“حبة بازلاء تنبت في كفي”.. جدلية الانعزال والنمو

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

آمال صبحي 

تنبت رواية دعاء إبراهيم “حبة بازلاء تنبت في كفي” كسرد لافت يستلهم أعماق الاستبطان النفسي وتداعي الأفكار، لا ليحاكي الواقع بل ليفتته ويعيد تركيبه من الداخل. تستكمل الكاتبة هنا مشروعها الذي بدأته سابقًا، لكنها في هذا العمل تخطو نحو مناطق أشد وعورة في استكشاف الذات المأزومة. تتشكل الرواية في بنية سردية دائرية فريدة، حيث الزمن يتخلى عن خطيته ليصبح تيارًا متداعيًا يحملنا عبر ذاكرة البطل، طبيب الأورام الذي يختار عتمة دولاب ملابسه ملاذًا من وطأة الواقع. هذه الدائرية ليست مجرد تكنيك، بل تتجسد في رمزية “حبة البازلاء” نفسها، التي تعمل كبؤرة للتداعيات والذكريات، وجسر يربط الماضي بالحاضر، الحقيقة بالوهم. تتعدد مستويات هذا البناء السردي وتتداخل طبقاته، فلا يسير السرد في خط مستقيم، بل يتفرع إلى حكايات متشابكة تنبثق الواحدة من الأخرى كدوائر متداخلة، انعكاسًا لتشظي البطل النفسي وخلقًا لفضاء سردي بالغ التعقيد والثراء.

من اللافت للنظر أن الكاتبة تتعمد تغييب الأسماء عن شخصياتها، مكتفية بتقديمها عبر وظائفها الاجتماعية المجردة: الأم، الأب، الزوجة، الخالة، الجدة. هذا التجهيل يمنحهم بعدًا رمزيًا يتجاوز الفردي إلى الكوني، محولًا إياهم إلى نماذج إنسانية قابلة للتكرار عبر الزمان والمكان، ما يعزز من شمولية الرؤية وعمقها الفلسفي. البطل/الراوي، طبيب الأورام الناجح ظاهريًا، يقدم نموذجًا للإنسان المعاصر المأزوم داخليًا، شخصية مركبة تعاني من عقد نفسية متشابكة، أبرزها علاقته المعقدة بوالدته وتوأمته الراحلة. يصبح الدولاب هنا ليس مجرد مكان اختباء، بل رحمًا بديلًا يعيد فيه اكتشاف ذاته الضائعة ويستعيد حكايات أمه التي شكلت وعيه وخياله. الأم، وإن غابت بجسدها، تحضر بقوة كمركز للحكايات والذكريات التي تحدد وعي البطل، وعلاقته بها تحمل أبعادًا أوديبية جلية، تتجلى في تعلقه المرضي بذكراها ونفوره من الأب والزوجة. أما الشخصيات الأخرى، الأب المتسلط المصاب بالوسواس القهري، الخالة المشوهة التي تعاني من فقدان أنفها، الجدة المصابة بالروماتويد، فتأتي محملة بأمراضها وعاهاتها النفسية والجسدية، لتشكل صورة مصغرة لعالم إنساني مشوه ومريض.

يتحول الدولاب في الرواية إلى فضاء مكاني رمزي بالغ الدلالة، ليس مجرد ملجأ للاختباء، بل رحمًا بديلًا يلوذ به البطل فرارًا من العالم الخارجي. إنه حيز للعزلة والتأمل العميق واستعادة خيوط الذاكرة المبعثرة، ومسرح للبحث عن الذات وإعادة تشكيلها. تتأرجح الفضاءات المكانية الأخرى بين القرية، مهد الأم والأسرة، والإسكندرية، المدينة الساحلية المنفتحة، لكن اختيار البطل للانغلاق في قلب المدينة المنفتحة يعكس عمق أزمته النفسية. تستثمر الرواية بذكاء الحكايات الشعبية والأساطير الموروثة، لكنها لا تعيد إنتاجها بشكل تقليدي، بل تفككها وتعيد قراءتها بمنظور معاصر يكشف عن تعقيد الواقع مقارنة ببساطة الثنائيات الأخلاقية في تلك الحكايات القديمة. هنا، لا يوجد خير مطلق وشر مطلق، بل كل شخصية تحمل في داخلها بذور الجاني والضحية في آن واحد.

تنطوي الرواية على أبعاد فلسفية ونفسية عميقة تستكشف جوهر الوجود الإنساني، وحتمية الموت، ووحشة العزلة. يحضر الموت بقوة في نسيج السرد، سواء بمفهومه الواقعي بفقدان الأجداد والأم والخالة والأب، أو بمفهومه المجازي كموت الروح والأحلام والعلاقات الإنسانية. تستخدم الكاتبة ببراعة تقنيات التحليل النفسي في بناء عالمها الروائي، ما يمنح الشخصيات عمقًا وتعقيدًا يكشف عن الطبقات المتعددة للوعي والذاكرة. العقد النفسية المتجذرة في روح البطل، كعقدة أوديب وشعوره بالذنب تجاه توأمته المتوفاة، تعمل كمحركات أساسية للسرد وتطور الأحداث. في نهاية المطاف، تقدم “حبة بازلاء تنبت في كفي” نموذجًا فريدًا للسرد النفسي المعاصر، الذي يتخذ من استبطان الذات بوابة لفهم العالم وتفكيكه. عبر بنية سردية دائرية معقدة، وشخصيات مجردة تحمل أبعادًا رمزية عميقة، وفضاء مكاني مشحون بالدلالات، تنجح الكاتبة في خلق عالم روائي متماسك يعكس أزمات الإنسان المعاصر وانكساراته النفسية. إن لجوء البطل إلى عتمة الدولاب ليس سوى استعارة بليغة لهروب الإنسان المعاصر إلى أعماق ذاته، بحثًا عن ملاذ أخير من عالم خارجي يبدو أكثر قسوة وتوحشًا. وربما كانت تلك “الحبة” التي تنبت في كفه رمزًا لأمل ضئيل ينمو في قلب الخراب، أو ربما كانت مجرد وهم آخر يضاف إلى قائمة الأوهام التي تحيط بنا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائية وناقدة سورية 

مقالات من نفس القسم