د. عمر محفوظ
الروايات التاريخية في مجملها. صنعة مزوقة، تخلط بين الماضي الميت والحاضر المعطوب، لكنها تحرص دومًا على أن تترك القارئ خاضعًا لذات الثوابت التي ورثها عن أجداده.
لكن رواية “البشموري” لسلوى بكر ليست من هذا الطراز. إنها ليست حكاية عن القرن التاسع الميلادي ولا عن العباسيين ولا عن الأقباط البشموريين الذين خرجوا على خليفة الزمان..
إنها — في حقيقتها — رواية عن نحن.. عن هذا الوطن الذي لا يعرف من تاريخه إلا ما يُملى عليه، ولا يرى من سلطاته إلا ما يُقال له عنها.
البشموري ليست رواية تاريخية.. بل وثيقة اتهام مفتوحة في وجه التاريخ الرسمي العربي كله، وتفكيك صارخ لفكرة “الوطن الثابت” الذي نرثه ونموت فيه دون أن نسأل: من كتبه؟ ومن رسم حدوده؟ ومن قرر أننا نحن؟
وهم الحكاية وأكذوبة الوطن
في البشموري، لا تجد شخصية بطولية تقليدية، ولا سردًا يقودك إلى النهاية المطمئنة التي تقول: “لقد انتصر الحق”.
بل ستجد ميخائيل البشموري، شخصية ملتبسة، مترددة، عاشقة وناقمة في الوقت ذاته، لا يدافع عن دينه بقدر ما يبحث عن نفسه، ولا يقاوم السلطة إلا لأنه يعرف أنها لا تعرفه.
هنا تفكك سلوى بكر أكذوبة الانتماء القهري، وتجعل من مفهوم الوطن مجرد قشرة وهمية، يستعملها الحاكم لفرض الطاعة، ويخدع بها الشعب ليستديم جلوسه على العرش.
بغداد كرمز.. والسلطة كطقس دموي
لم ترسم الكاتبة بغداد كمدينة الخلافة، ولا كعاصمة مجد الإسلام، بل كرمز لكل سلطة مركزية متجبرة، تستعبد الأطراف وتعيد تسميتهم حسب الهوى والمصلحة.
بغداد في البشموري هي قاهرة القاهرة، ومستبدة كل زمن، وهي لا تختلف عن أي عاصمة حديثة تصدر قرارها إلى الأطراف:
“أنتم لا وجود لكم إلا في ملفات الأمن ودفاتر الضرائب”.
ولهذا فالرواية تفكك فكرة أن السلطة حامية للوطن.
الوطن هنا يصبح مجرد ساحة للسلطة لا للمواطن، والراية مجرد خرقة يرفعها المنتصر ثم يهبط بها عند أول هزيمة.
الهامش الذي يصنع التاريخ
ما فعلته سلوى بكر بذكاء — وأحسبه غير متعمد لكنه وقع — أنها أعادت ترتيب معادلة الوجود الوطني.
فالذي يصنع الحكاية ليس الحاكم ولا المؤرخ، بل ذلك الهامش البشري المقموع، الذي يكتب سيرته سرًا ويُدفن بلا شاهد قبر.
ميخائيل البشموري وأهله من أهل الدلتا، يمثلون الهامش المكبوت الذي خرج ذات يوم على التاريخ الرسمي، فشُطب من دفاتره، ثم أعادته الكاتبة باعتراف صريح:
“ليس للوطن اسم واحد.. ولا وجه واحد.. ولا تاريخ واحد”.
لغة تحفر تحت جلد النص
الرواية مكتوبة بلغة مزدوجة الذكاء: ظاهرها هادئ، كلاسيكي محايد.. وباطنها يمارس حفريات تحت جلد الثوابت، فتقرأ جملة عادية لتكتشف بعدها أنها تحمل جريمة كاملة ضد فكرة الوطن المقدس.
هي لغة تفضحنا أكثر مما تحكي لنا، وتقول لنا — من بين السطور — إننا لا زلنا نُحكم من بغداد، وإن السيف لم يغمد، وإننا نعيد نفس الحكاية منذ قرون بلا وعي.
خلاصة القول: رواية تنزع القداسة عن الوطن، أظن أن البشموري ليست رواية تُقرأ للمتعة، ولا حتى للثقافة. بل هي رواية محرجة، تكشف أن الوطن فكرة مخترعة، والثوابت أكذوبة مرتبة، وأننا نقف على ضفاف نهر من الدم، وندّعي الطهر.
سلوى بكر كتبت هنا رواية تنزع القداسة عن الوطن، وتفضح أبجديات الوطنية الجوفاء التي تقوم على الطاعة والسكوت والتصفيق.وإن كانت لا تقولها صراحة، فكل سطر في البشموري يصرخ بها.
لهذا أرى أن الرواية، تجعل الوطن وهمًا.. والتاريخ كذبة.. والهوية خدعة.