روائي بلا نسخ

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 بولص آدم  

1        

الطرود الغائبة

 كان يمكن للأشياء أن تصل.

صندوق كارتوني بنيّ.. عليه آثار أصابع، رائحة ورقٍ طُبع في قارة أخرى، … لكن لا شيء وصل.

لا أحد يعرف كيف تُخطئ الكتبُ طريقها إلى صاحبها. وكيف يُصبح المؤلف آخر من يرى ما كتب. هذا إذا..

   قضى المؤلف أيامه مشدودًا كوتر، يصارع صمت الطرود الغائبة كما يصارع حلمًا يتكرر بلقطات مرتجفة. كل تفصيله في غرفته صارت امتدادًا للانتظار: الطاولة لم تعد قطعة أثاث، بل كائناً يتنفس ببطء تحت عبء الغياب، الساعة توقفت عن قياس الزمن، راحت ترسم دوائر هادئة على جدار الذاكرة، كما لو أنها تحصي أعمار الأرواح التي مرّت ذات مساءٍ دون أن تترك أثرًا. والجدران؟ أشبه بجلد حلمٍ قديم تشقق من فرط الصمت، تُعرض عليه ملامحه كأنها لقطة باهتة من فيلمٍ لم يكتمل.

  أحيانًا يسمع نقرًا خفيفًا على النافذة.. جملة قديمة، تعود كزائر يعرف الطريق، تطالبه بإعادة كتابتها، لا بصياغة أجمل، بل بنغمة أصدق، كأنها تذكّره أن بعض الكلمات لا تُكتب دفعة واحدة، بل تعود كلما نسي لماذا بدأ.

 

  أخيراً، حدثت المعجزة: نشرت دار نشر بعيدة ـ بعيدة إلى درجة أن الشمس تشرق هناك متأخرة قليلاً، كتبه. صدرت الروايات، توفرت على المواقع، طارت أغلفتها في منصات التواصل، وامتلأت بها مكتبات لا يعرفها.

  إلا مكتبته هو.

  خمس سنوات كتب فيهما روايتين لا ليمجد نفسه، بل ليقيم دليلًا ضد النسيان. الكلمات كانت قاربًا مائيًا يمخر عزلته، لا أكثر. لكن القارب علق في طين المراسلات: رسائل ناعمة من الناشر، أرقام تتبّع بلا اتجاه، زمن يسيل من ثقوب النظام اللوجستي. يتفقد بريده كما يتفقد مريض نبضًا في معصمه، يطالع تحديثات الشحنة وكأنها نبوءات خائبة: “في الطريق”، “عطل مفاجئ”، “نأسف على التأخير”. كل تحديث يعمّق الفراغ أكثر. في مخيلته، الطرد صار كيانا شبحيًا: إما طافحًا بالأملاح على حافة ميناء نائم، أو مقروءًا بعيون باردة ثم مرميًا في حاوية بلا عنوان. الروايتان خرجتا من يده، لكن لم تصلا إليه، وكأن هناك شقًا زمنيًا ابتلعهما.

 هذا كاتبنا… صاحب الكتب الأكثر غياباً في الشرق الأوسط!

كان أصدقاؤه يرسلون له صور كتبه من مدن بعيدة لم تطأها قدماه:

ستوكهولم، تونس، أمستردام، بيروت…

وهو هنا… في شقته الصغيرة التي تشبهه في الغربة… ينتظر طرقة باب… طرداً بريدياً…. ولأن الانتظار الطويل يتحول مع الوقت إلى عادة… ثم إلى جزء من الأثاث… صنع رفّاً بيده. رفّ بسيط، خشب أبيض مائل للصفار، علقه على الحائط بمسمارين قديمين. قال لنفسه يومها: “هنا… هنا ستقف رواياتي مثل الجنود العائدين.”

مرّت شهور.

مرّت سنوات.

الرف ظلّ واقفاً، نظيفاً، فارغاً، كأنه يسخر منه بصمته.

كلما جاءه إشعار جديد على هاتفه العجوز، قلبه يخفق للحظة…

ثم يقرأ:

“رأيت كتابك في مكتبة عامة…”

“وقفت طويلاً أمام غلاف روايتك…”

“اشتريت كتابك اليوم…”

وهو… هنا… بلا غلاف، بلا ورق، بلا حتى إشارة شحن كاملة في هاتفه المتعب.

مرّة، في ذروة السخرية السوداء، قال لذلك الصعلوك الذي يزوره أحياناً:

ـ “يا… يبدو أن كتبي تعرف العالم أكثر مني.”

والصعلوك، وهو يشعل سيجارة رديئة:

ـ “مؤلف بلا نسخة؟ … تشبه موسيقي بلا وتر… أو عاشق بلا عطر.”

وتمر ليالٍ يطيل النظر فيها للرفّ كأنه ينتظر معجزة. حتى جاءت تلك الليلة… ليلة فارغة كغيرها. وقف أمام الرفّ طويلاً. ثم مدّ يده ببطء، وكتب على ورقة صغيرة:

“هذا الرفّ… محجوز لكتاب لم يأتِ.”

وضعها على الرف. ثم ابتسم. ابتسامة رجل يعرف أنه صار أخفّ من الكتب.

أخفّ حتى من الورق. رفع رأسه قليلاً كأنه يكلّم أحداً لا يُرى، وقال كمن يعلن شيئاً للعالم كله:

ـ “ربما أكتب الرواية الثالثة… الرواية التي لا تُطبع أبداً… لكنها لا تضيع.”

ثم أطفأ النور.

وترك الرفّ يلمع وحده… في قلب العتمة.

  ليلة ما، وبينما عقله يذوب في خدر النوم الخفيف، انبثقت نَوَّار من ضوء خافت لمصباح، جلست قربه بلا صوت، كأنها حاشية مكتوبة بخطٍ سري:

“أنا هنا، لأنك كتبتني، لا لأنهم أرسلوني.”

سَرو، ببنطاله البالي وقميصه الملطخ بالحبر، مرّ من الجدار، وقال دون أن يفتح فمه: “نحن لا نموت بنسيان الناشر… نموت حين تتوقف عن استدعائنا.”

نَرجِس، بخطى خفيفة تشبه فقرة لا تُقرأ إلا في المنام، وضعت كوبًا من الشاي على حافة الطاولة، وتكلمت كمن يُصغي لصوت نفسه: “الكتب التي لا تصل، قد تكون هي الأصدق. لأن لا أحد لمسها سوى قلبك.”

ثم حضرت زيزفون، تحمل صينية نحاسية فيها خبز يابس، ودمعة تتلألأ في عين واحدة: “انتظر، كما انتظرتُ حفيدي الذي لم يرجع من الكهف الكبير.”

وأطلت ياسمين، بوجهها المنحوت من الحزن، تحمل صورة طفل دُفن على عجل بعد أن انهالت القذائف على قرية بالكاد تذكرها الخرائط: “اكتب، يا ولدي، علّ القصص تعيد ما لم تُبقه الحرب.” وامرأة مجهولة، في عبورٍ شتوي، ظهرت من زاوية المشهد كضوء قطار بعيد، تهمس: “أخاف من اندلاع الحريق في قاعة الانتظار لمحطة قطار موصومة باللعنة أكثر من الحرب نفسها. الأغاني تُنقذني، أحيانًا.”

   ابتسم المؤلف، لا لهؤلاء، بل لنفسه كما تظهر في مرآة مُعتمة: مزدوج، غائب، حي بنصفه، ونصفه الآخر في انتظار بريدي أبدي.

  ومع ذلك، يكتب. لا لأن هناك أملًا، بل لأن كل توقف يشبه موتًا صغيرًا بلا نعي، وبلا جنازة. ولأن الشخصيات حين لا تُكتب، تبدأ بنسيانه هو.

  مرت أشهر أخرى، وتآكل الانتظار. دخل المؤلف في فترة من اليأس الصامت، كأن لا شيء سيصل أبدًا. حتى بدأت شركة شحن “نقل غائم” ترسل تحديثات متناقضة:

“الشحنة في طريقها”، ثم في اليوم التالي: “العنوان غير مكتمل”، وبعدها بأسبوع: “الشحنة أُعيدت إلى المرسل”، ثم فجأة: “الشحنة عبرت الحدود”.

  التحديثات بدت ككابوس آلي. صار يقرأها كما يقرأ شيفرة سرية في رواية بوليسية لا يعرف أن كان هو القاتل أم الضحية. كل رسالة بريدية كانت تترك في فمه مذاق رماد، كأن سطرًا من الماضي احترق على لسانه. وفي داخله، ثمة يقين خافت يتشكل: “الروايتان قد لا تصلان أبدًا”. لكن الكلمة التي كُتبت لا تُلغى. ولعل اللآملموس أكثر بقاءً من الورق.

 في لحظة صمت، خاطب نفسه:

– وماذا لو لم تصل أبدًا؟

– سأكتبها من جديد.

– وهل تحتمل أن تكتبها ولا تراها مطبوعة؟

– أكتب كي لا أختفي.

– ألن تنكسر؟

– ربما. لكنني أفضّل الكسر على الصمت.

– إذًا اكتب؟

– نعم… لأني إن صمتُّ، لن أسمع نفسي حتى في الأحلام.

لكن الصوت الآخر داخله لم يسكت:

– أنا ظلك، وأنا عقلك، الذي ربط المعنى بالخسارة كلما حاولت أن تصدق العالم”.

– ” وأنا قلبك، الذي تعب من الانتظار لكنه يواصل، فقط لأن هناك فكرة لم تُكتب بعد”.

– “وأنا الطفل الذي كتب أول جملة على دفتر مهترئ وقال: “هذه معجزتي الصغيرة”.

– “وأنا الكاتب الذي تعب، الذي قال: ليتني كنت قارئًا فقط”.

– “وأنا الذي يرى الكتب كأجنحة، حتى لو لم تُطبع”.

– “وأنا الذي يخشى أن تموت الشخصيات لأن أحدًا لم يفتح كتابها”.

أجابهم جميعًا بصوت خافت:

– أنتم أنا…

– وبدونكم، لن يكون للكلمات ظل.

– فلنكتب، لا لنُنشر، بل لنبقى أحياء حتى ونحن نُنسى.

– لنبني قوارب من خيال، ونرميها في نهر لا نعرف إن كان سيصل.

– فالكتابة، حين لا تصل، تصير صلاة من نوعٍ آخر.

ربما لم تصل الكتب. ربما ستظل الطرود تتوه في غبار الموانئ ومخازن التوزيع.

لكن شيئًا ما وصل، أقرب من الورق، وأبقى من الحبر. لقد وصل أثر الكتابة.

في كل سطر لم يُقرأ، وُجد صدًى داخلي لا يمكن محوه. وفي كل جملة لم تلمس يد القارئ، كان الكاتب يلمس بها ظلاله، يعيد تركيب وحدته، ويصوغ حضورًا جديدًا لا يحتاج ختمًا بريديًا. ربما الكتاب الحقيقي، هو الذي نكتبه دون أن يصل.

هو الذي يبقينا متيقظين، شاعريين، ومكشوفين أمام العالم.

  وربما…

 نحن لا نكتب لننشر، بل لنحيا…

   2

مكالمة بلا تغطية

  يسير وحيداً وسط مدينة باردة. يقترب من صندوق بريد أحمر كندبة قديمة في زاوية شارع. يفتحه… لا شيء.

صوته الداخلي، هامس: “يقال إن الكتب تحمل أصحابها بعيدًا… إلاي أنا، تركتني على الرصيف”. يعيد إغلاق الصندوق كمن يُغلق جفنه على حلمٍ خائب. في جيبه، هاتفٌ شبه منسي. يهتز فجأة، كأنه استيقظ من سبات الشتاء.

– [المُتّصِل فائز]؟

– [هو]: حيّ، نسبيًا.

– [فائز]: توقعتُ أن تكون نُقلت إلى أحد الأديرة لكتابة المخطوط الثالث.

– [هو]: لا، ما زلت أبحث عن الطبعة الأولى من كتابي الثاني. ولم أصل إلى الدير بعد.

– [فائز]: ولم تصل كتبك أيضًا.

ضحكة خفيفة، كأنها خارجة من رئتي شبحٍ متعب.

– [فائز]: حدثني، أيها العرّاف، ألم تقل إن الناشر وعدك بطبعة فاخرة من روايتك؟

– [هو]: فاخرة؟ لقد طبعها على ورق يبدو أنه أتى من صناديق بيتزا. أظنني شممت رائحة جبن محترق وأنا أقلب الصفحة الرابعة.

يتوقف فائز عند محطة ترام. لا ترام في الأفق. فقط برد يتسلل حتى العظام، وأرصفة تلمع كأنها تقرأ أفكاره.

– [فائز]: أخبروني أن النسخ خرجت من المستودع. ثم قالوا إنها “تعثرت في العبور الحدودي”.

– [هو]: لست وحدي إذا في مونودراما الطرود الغائبة، تعثرت؟ ماذا كانت؟ شاعرة ترتدي كعباً عالياً؟

– [فائز]: لا، مجرد كتب. لكن على ما يبدو، تحتاج جواز سفر وشهادة حسن سلوك لتصل إلى صاحبها.

– [هو]: أعرف شركة الشحن تلك. يُقال إنها تعتمد على خرائط رسمها قبطان مخمور في القرن السابع عشر.

ضحكة طويلة، تتلوها نوبة سعال.

– [فائز]: بل لعلهم يوصلون الكتب عبر حمام زاجل تعلم الطيران من كُتيب فكاهي.

– [هو]: أو يوظفون غيمة لتوزيع الطرود، لكن الغيمة اكتئبت وتبخرت في الطريق.

– [فائز]: سأرسل لهم رسالة: “أرجو أن تحظى نسخي بحياة سعيدة في البرزخ اللوجستي. إن فتحتَها أيها الغريب، اقرأها بصوتٍ عالٍ — كنتُ أكتبها لي.”

صمت. يتسلل عبر الاتصال كريح تنفخ ستائر الماضي.

 

– [هو]: هل تعرف، أحيانًا أشعر أن الناشر مجرد فكرة شريرة تجسدت كي ترى كيف نصمد دون أمل.

– [فائز]: وأحيانًا أشعر أنني أنا نفسي مجرّد نسخة لم تُطبع بعد.

– [هو]: أنا وأنت، روايتان تم رفضهما من العالم، لكننا لا نزال نحكي.

– [فائز]: وهذا يكفي، أليس كذلك؟

– [هو]: يكفينا أن نسخر. هذا أرقى أنواع المقاومة الأدبية.

 

تمرّ امرأة على دراجة، تتجاوز فائز، وتُسقط عن غير قصد مغلفًا صغيرًا.

ينحني ليلتقطه. لا اسمه عليه. لا عنوان. يفتحه – فارغ.

– [هو]: ماذا هناك؟

– [فائز]: رسالة لم تُكتب بعد… تمامًا كنسخي.

– [هو]: حين تصل، بلغها السلام. وقل لها إن صاحبها لا يزال يكتب، ولو على جلد الغياب.

فائز يبتسم، ويمضي.

 عاد بسمين إلى غرفته كمن يدخل كتابًا لم يُكمل كتابته. الباب يئن، الستائر شاحبة، والحاسوب المحمول يضيء بضوءٍ خافت كعينٍ نصف مفتوحة.

رائحة قهوة باردة تنتظره من البارحة. يرتدي معطفه كمن لا ينوي البقاء طويلاً — لكن لا مكان آخر للذهاب. يجلس، يفتح الحاسوب. رسالة إلكترونية جديدة.

“تحديث الشحنة: نسخ روايتك الثانية غادرت مستودع الترانزيت الفرعي رقم 4-ب.”

يتنهد.

يحدق في الشاشة. الكلمات ترمش… لا، تنتفض. الصوت الإلكتروني المعتاد للواجهة يتحول فجأة إلى صوت امرأة عجوز، متقطّع:

– (الصوت): النسخ… تائهة، يا بسمين… النسخ تعبت.

يرمش.

يتراجع قليلاً.

تظهر أيقونة جديدة: مغلف رقمي يتحول إلى نافذة مفتوحة. ومن النافذة…

تهب رياح، ليست من هذا العالم.

– (الصوت): كتبك لم تصل، لكن ظلّها تسلل إلى هذه الغرفة.

ينهض. الغرفة تتنفس. الجدران تتمدد، والمكتب يختلج كأنه سيهمس بشيء.

فجأة، يُسمع صوت ارتطام ناعم قرب الباب. ينهض، يفتحه: ظرف بني، بلا اسم.

يفتحه. لا كتاب، لا ورق. لكن يخرج من الظرف هواء دافئ… ويبدأ يتصاعد منه دخانٌ خفيفٌ على شكل كلمات. الكلمات تنسج جملة على الحائط: “الرواية وصلت إليّ، يا بسمين… كنتُ أنا القارئ المجهول”. يرتبك.

– (بسمين، متمتمًا): من… أنت؟

تتغير الكتابة:

“أنا الصدى. الصدى الذي يُولد حين لا يقرأ أحد.”

يُطفئ الحاسوب. ثم… يسمع ضحكة خفيفة. إنها ضحكته، لكن بنبرة قديمة، نسيها. كأنها خرجت من رواية كتبها ذات يوم ونسي أنه كتبها.

يضع الظرف على الطاولة، بعناية كمن يضع رماد عزيزٍ مات دون وداع.

الصمت يعود. لكنه هذه المرة، صمتٌ ممتلئ. الكتب لم تصل. لكن شيئًا منها استقر في هواء الغرفة.

– (بسمين، هامسًا): ما يصل أحيانًا… لا يحتاج مظروفًا.

 بسمين، رغم كل الخيبة، يبدأ بكتابة رواية ثالثة. لكن الكتابة ليست عادية… الكلمات لا تبقى حبرًا. وها هي إحدى الشخصيات التي يعرفها جيدًا، كتبها بيده، لكنها الآن تتحرّك أمامه.

  كان الليل ثقيلاً، كأنه مرسوم بالحبر نفسه الذي لم يُطبع بعد. بسمين لم ينم.

جلس إلى طاولته، تلك التي لم تعد تكتظ بالأوراق، بل تراقبه كمرآة. أمسك القلم، لا لأن لديه فكرة، بل لأن الكتابة وحدها تعيده إلى التنفّس.

– (بسمين، يهمس): سأكتب رواية لا تنتظر النشر. رواية لا تحتاج طابع بريد.

رواية لا تبحث عن قارئ… بل تخلق القارئ.

كتب الجملة الأولى: “في الغرفة ظلٌ لا يشبه شيئًا… لكنه يعرف كل شيء.”

ثم كتب الثانية.

والثالثة.

وبعد خمس صفحات… ارتجفت الغرفة. خيط من الضوء خرج من الفقرة السادسة.

توسّع، تدفّق، تموّج كستارة في ريحٍ ناعسة. وفجأة…

دخلت بيافرا. نعم، بيافرا من الرواية الأولى. ذات الرداء الرمادي. نفس العينين اللتين تخبئان نغمة غناء لم تولد بعد.

– (بيافرا، تبتسم بخفة): تأخرتُ قليلاً، كانت الطرق بين الصفحات مغلقة.

   حدّق بها، لا يعرف هل يضحك، أم ينهار.

– (بسمين): أنتِ؟ … كيف…؟

– (بيافرا، بهدوء): كلما كتبتَ، كنتَ تفتح نافذة. لكن الليلة، كتبت …

   اقتربت، جلست على طرف المكتب.

– (بيافرا): أنتَ تحاول أن تكتب رواية ثالثة؟

– (بسمين): أحاول أن أكتب شيئًا لا يضيع.

– (بيافرا، بعينين ناعستين): إذًا لا تكتبني كذكرى، اكتبني كنبض.

وفجأة، خرج صوت خافت من ناحية الرف. الصعلوك الفيلسوف، يتسلّل بين الكتب كمن اعتاد الاختباء.

– (الصعلوك، ساخرًا): ها نحن نعود إليك، يا من لا تصله كتبه، ليكتبنا من جديد.

– (بسمين): أنتم لستم على الورق بعد… هذه رواية ثالثة لم تبدأ!

– (الصعلوك، يضحك): بل بدأت منذ أول تنهيدةٍ لم تكتبها.

يمر ظلُ شجرة عبر الستارة. الريح تهدأ. والمكتب يضيء بنورٍ لا مصدر له.

– (بيافرا): اكتب، بسمين. حتى لو لم يُطبع، حتى لو لم يصل. اكتب لأننا نولد بك. مدّ يده نحو الورقة.

وبدأ يكتب أول جملة في روايته الثالثة.

“كان الكاتب يظن أنه وحيد، حتى جاءت كلماته لتحادثه.”

 في البدء، كانت بيافرا. ظل وردةٍ برية نبتت بين الحروف، وعينان فيهما طيف مغنية نسيت أن تتوقف عن البكاء. ثم خرج الصعلوك خشخاش، كان يحمل على كتفيه قميصًا مرقعًا، وفي عينيه دهشة الفلاسفة الجوالين.

ابتسم حين رأى بيافرا جالسة:

– (الصعلوك): جميل أن نلتقي خارج الرواية، هنا في غرفة الكاتب الذي لا يملك كتبه.

– (بيافرا، تمسح الغبار عن بيانو وهمي): لا تنسَ أننا نعيش فيه، لا على الورق.

التفت بسمين إليهما بدهشة تملؤها الألفة، وكأنه يعرف أن الخيال لا يحتاج لجواز سفر. صوت الباب يُفتح ببطء… يدخل صفصاف، بملامح حكيمة، بخطى تشبه صلاة، وفي يده عكاز يشبه غصن شجرةٍ عجوز.

– (صفصاف): أردتُ فقط أن أطمئن أنك تكتبنا من جديد.

الروايتان السابقتان ضاعتا، لكننا ما زلنا نحفظ صوتك. وبينما كان الخيال يُغني في الغرفة، رنّ الهاتف. بسمين حدّق فيه كما لو أنه شيء من زمن ميت.

لكنه رفع السماعة.

– (صوت أنثوي، آلي، ناعم لكن بارد): السيد بسمين؟

– (بسمين): نعم؟

– (الصوت): نحن من دار “كُتب في الغياب”. أردنا فقط أن نُعلمك أننا قرأنا روايتك الثالثة.

سكت بسمين، نظر إلى الورقة التي لم تكتمل بعد.

– (بسمين): لكنها لم تُكتب بعد.

– (الصوت): بالضبط. ولهذا أحببناها. هي الرواية التي لا تحتاج أن تُكتب، لأنها تعاش. نقترح نشرها كما هي، بياضًا ناطقًا. العالم بحاجة إلى صمتك.

ثم انقطع الاتصال. الجميع صمتوا. بيافرا وضعت يدها على كتف بسمين.

– (بيافرا): يبدو أن خيبتك تُنبت لغة لا تُباع.

– (الصعلوك): وأنت، تكتبنا لتعرف كيف تعود إلى نفسك.

– (صفصاف): لا تخف من النسيان، فالأثر لا يحتاج حبرًا.

  بسمين أخذ نفسًا عميقًا، وأغمض عينيه. ثم كتب الجملة التالية: “في كل كتاب لا يصل، يولد كتاب داخلي… لا يُنسى.”

   3

معرض الكتب التي لم تُطبع بعد

  في صباح رمادي، جلس بسمين عند نافذته القديمة، وضع الورقة على الطاولة، كتب سطرًا، ثم آخر، ثم ابتسم ابتسامة هادئة، متواطئة مع الصمت.

الكتابة حدثت، رغم كل شيء.

لم تصل الروايات القديمة، لا بأس.

الآن، هو يكتب شيئًا لا ينتظر أحدًا.

  وبينما يدوّن جملة ثالثة، أصوات خفيفة خرجت من الورقة، كأن الحروف بدأت تتنفس. وفجأة… كُسر شيء ما في جدار الزمان.

 وجد نفسه واقفًا وسط صالة ضخمة، دائرية، تشبه قبة سماوية. لا سقف لها، بل سماء من الورق العائم. في الداخل، أرفف لا تنتهي، عليها كتبٌ بلا عناوين.

أغلفة بألوان حلمية، وصفحات تُقلبها رياح خفيفة. مكتوب على لافتة شفافة:

   “معرض الكتب التي لم تُطبع بعد”

 أحد الحراس، يرتدي معطفًا مصنوعًا من صفحات مخطوطة، تقدّم منه:

– (الحارس): مرحبًا، سيد بسمين. كنا ننتظرك. كل من يكتب دون أن يتسلّم كتابه، له جناحٌ هنا.

 

  اقتاده الحارس بين الممرات. فتح بابًا زجاجيًا صغيرًا. وفي الداخل، رأى بسمين رفًا مخصّصًا له. كانت هناك: روايته الأولى، الثانية، والثالثة. لكن بشكل مختلف.

كانت الروايات تتوهج. تحمل أصواتًا، وروائح أماكن كتبها فيها، كل رواية كانت أشبه بكائن حي. اقترب من واحدة، فتحت نفسها، كأنها تشتاق إليه.

– (الحارس): الكتب الحقيقية لا تحتاج طباعة، بل اعترافًا بها. بعض الكتّاب يأتون فقط حين يموتون. أنت وصلت قبل الوقت، لأنك كتبت بيقظة.

أغمض بسمين عينيه للحظة. ثم سمع صوته الداخلي: “ربما لا تُباع هذه الكتب،

لكنها تُحيا”. حين فتح عينيه، عاد إلى غرفته. ورقته لا تزال هناك، لكن فوقها الآن، وُجدت ثلاث طبعات وهمية تحمل أسماء الأشجار والزهور. كل شيء كما هو، لكن في عينيه… كان هناك ضوء جديد.

في معرض الكتب التي لم تُطبع بعد. أرض المعرض لم تكن أرضًا بالمعنى المألوف. كانت كأنها مصقولة من ورق لم يُقصّ بعد، تلمع تحت خطوات الزوّار الذين لا وجوه لهم، وكل جناح يعرض كتبًا بعناوين لم تُكتب بعد. وبينما يمشي بسمين بينهم، يهمس لنفسه: “كم كتابًا لم يُكتب بعد، وكم قارئًا ينتظر شيئًا لن يصل.”

لوحة معلّقة فوقه بخط ناعم: “قسم المخطوطات المتخيّلة”

ثم أخرى: “روايات فُقدت قبل الطباعة”

ثم…

“إصدارات دار بعيدون للنشر – جناح الذكريات الممحوة.”

وهناك، رآه. الناشر وعدون. كان واقفًا قرب منصة زجاجية تعرض غلافًا باهتًا لرواية “ضوء يتيم في مدينة من ورق”.

روايته المفقودة.

بسمين تقدّم، لكنه لمح الحركة السريعة.

اختفى وعدون كأنه لم يكن.

لم يُفاجَأ بسمين كثيرًا. بل تابع، وكأنه تعوّد على اختفاء من وعدوه. لكن المفاجأة كانت في اللحظة التالية. امرأة ترتدي وشاحًا يشبه غلافًا أوليًا، ناولته ظرفًا أبيضاً صغيرًا. قالت بابتسامة لا تُقرأ: “مبروك يا بسمين… لقد فزت.”

– “بماذا؟”

“بجائزة أفضل رواية لم تُكتب بعد.”

ضحك، وظنها دعابة… حتى فتَح الظرف، ووجد شهادة مختومة بختم دار غير مرئي، تحمل اسمه، وعنوانًا لم يخطر له بعد: “الرواية الثالثة: الغياب يقيم هنا.”

تجمد في مكانه. كيف عرفوا؟ هو لم يخبر أحدًا. بالكاد بدأ كتابتها. بالكاد…

في تلك اللحظة، لمح ظلّ ” بيافرا” الشخصية المتأثرة بالمطربة العالمية أديفا. تمرّ في الخلفية، تهمس بصوت غنائي خافت: “لا، لن أندم…”

ثم تبعتها دفلى وهي تهمس: “كل كتابة لا تُنشر، تولد هنا.”

كل شيء في المعرض بدا كما لو كان ينتظره. كل شيء… إلا الكتاب نفسه.

جلس على مقعد ورقيّ الشكل، ورأسه ممتلئ بأسئلة لا جدوى من طرحها.

ربما، فكّر، كل كتابة تبدأ حين يُساء فهمها. وربما كل كاتب حقيقي… لا يصل.

     4

   الغرفة التي تكتب وحدها

  عاد بسمين إلى غرفته كما يعود من حلم لا يملك تفسيره. الباب يُفتح من تلقاء نفسه، كأن الغرفة تعرف توقيت خيبته بدقة. وضع الظرف الأبيض على الطاولة.

  لم يفتحه مرة ثانية. لا حاجة لذلك. كان كمن يحاول ألا يُصدّق أنه ربح جائزة عن رواية لم يكتبها. وكأنها صفعة مغلفة بالتصفيق. جلس أمام أوراقه المبعثرة.

 لم يُكمل الرواية الثالثة بعد. لكنه بدأ يشعر أنها تكتبه، لا العكس.

النافذة تُصدر صريرًا خفيفًا. الستائر تتحرك كأن الهواء يتنفس من الداخل.

ثم… رنّ الهاتف. رقم غير مسجّل. لكن الاسم ظهر على الشاشة، واضحًا، كأنه خرج من رواية قديمة: ” أديفا”.

تردّد لحظة، ثم أجاب.

أديفا (صوتها مزيج بين الغناء والهمس):

– “بسمين… لقد كتبنا كثيرًا، دون أن نُطبع.”

بسمين (بصوت متعب، شبه ساخر):

– “والآن نُكرَّم على ما لم يُكتب، يا للمفارقة.”

أديفا: – “أتعرف؟ لقد قرأت الرواية الثالثة، وهي لا تزال على وشك البدء.”

بسمين: – “هل كانت جيّدة؟”

أديفا: – “كانت حقيقية.”

بسمين: – “لكن… لم أكتبها بعد.”

أديفا (بابتسامة ناعمة تُشبه نغمة موسيقى):

– “لا بأس… ربما الكتابة الحقيقية، تحدث حين يتأخر الورق.”

بسمين: – “هل أنتِ حقًا هنا؟”

أديفا: – “أنا؟ أنا كنت هنا منذ أن كتبت أول جملة، ومنذ أن لم تصلك روايتك الأولى.”

ثم صمت.

الخط انقطع. لكن الغرفة لم تعد كما كانت. في الزاوية، كانت ورقة بيضاء تنبض بخفة. كتب عليها بخط ليس بخطه: “الفصل الأول: لن تصل.”

ابتسم بسمين. لم يُكمل المكالمة. لكن شيئًا منها استقر في قلبه، كأن الكلمات اختارت أن تبدأ من هذه اللحظة. اللحظة التي يصبح فيها الغياب، حضورًا.

الساعة الثالثة فجرًا. ضوء خافت يتسلل من النافذة، لكن كل شيء ينهض من الداخل لا من الخارج. بسمين ممدد على الأريكة، والهاتف مقلوب على صدره، ما يزال خط فائز مفتوحًا. همس غير مفهوم… يشبه صوت الريح في أذن مغلقة.

الضوء يرتجف. يتحوّل الجدار الأبيض إلى صفحة… ثم إلى شاشة… ثم إلى مسرح.

  امرأة تخرج من الجدار. خفيفة، كأنها ضوء مُصفّى. ترتدي معطفًا بلون رماد اللافندر. وجهها لا يشبه أحدًا، لكنه مألوف. حين تفتح فمها، يصدر صوت يشبه البيانو المكسور على عربة قديمة. بيافرا.

بيافرا (بهدوء متهكم): نسيتني، بسمين.

بسمين (يجلس ببطء، لا يُفاجأ): لم أنسك… أنتِ من ذهبتِ مع الرواية.

بيافرا (تخطو): لم أذهب. أُغلقت الصفحات، فاختنقنا داخلها.

بسمين: وأين أنتنّ الآن؟

بيافرا (بإيماءة مبهمة): في روايتك الثالثة. التي لم تكتبها، لكنها كتبت نفسها.

بسمين: هذا هراء.

بيافرا (تقترب): كالجوائز التي اختفت؟ أم الطرود التي تدور حولك منذ ثلاث سنوات كأقمار بلا جاذبية؟

(صمت)

بسمين: هل جئتِ لتأخذي شيئًا؟ لتعاتبي؟

بيافرا (تنحني نحوه): جئتُ لأذكّرك… أنّك لم تبدأ بعد.

(تضع بين يديه ورقة، بيضاء، لا يُقرأ فيها شيء، لكن تُسمع همسات، كأن الكلمات موجودة فقط إذا أغلق عينيه)

بيافرا: في هذه الورقة… البداية. لا تحتاج دار نشر. ولا حتى قارئ.

بسمين: ولِمَ أكتب إذًا؟

بيافرا (تبتسم، ثم تختفي كما ظهرت): لأنك لا تعرف الحياة إلا على الورق.

والورق… هو الشيء الوحيد الذي لا يخونك.

بسمين يُمسك الورقة. يغمض عينيه. همسات تتحول إلى جُمل.

والجُمل تتحول إلى دفاتر وهمية تتراكم حوله.

ثم… صوت دقّة خفيفة على النافذة. خارجها… شيء غامض يلمع في الظلام.

ربما طرود؟

ربما شخصيات أخرى؟

ربما لا شيء. لكن بسمين… ينهض. ويبدأ في الكتابة.

  5  

  غوصٌ في بحرِ لا يُقرأ

صمت طويل.

ثم…

  بسمين: كان يمكن للأشياء أن تصل. ظرفٌ بُنّي عليه آثار أصابع… رائحة ورقٍ طُبع في قارة أخرى، وربما شيء من أثر الحبر… لكن لا شيء وصل. لا أحد يعرف كيف تُخطئ الكتبُ طريقها إلى صاحبها. وكيف يُصبح المؤلف آخرَ من يرى ما كتب. يسير نحو صندوق بريد صغير على طرف. يفتحه، ينظر، يضحك ساخراً. قالوا لي: الكتب تأخذك بعيدًا. لكنها تركتني على الرصيف، واقفًا بلا ظل ولا غلاف.

(صوت هاتف محمول قديم. يرنّ مرارًا. يفتح بسمين الخط.)

فائز (صوت خارجي، متعب، نصف مازح): لا شيءَ وصل، يا صديقي. ولا حتى المخطوطة الثالثة. دار “العاصمة” رفضتها لأن… لأنها تُحرجهم أدبيًا!

(ضحكة باهتة) تخيّل، يقول خبير الفحص إن فيها “نبرة غير مناسبة للنشر الرسمي”! كأننا نكتب للنشرات العسكرية!

بسمين يضحك، ثم يحدّق في فراغ.

بسمين: نحن غواصان، يا فائز. نغوص في سردٍ بلا قاع، بلا قارئ، بلا شاطئ.

أحيانًا نجد شعرة بيافرا، أو صوت أديفا، أو حذاء الصعلوك خشخاش… لكننا لا نخرج بشيء.

تتغير الإضاءة. خلفية زرقاء داكنة كأنها قاع بحر. على الجدار يُعرض طيف امرأة — بيافرا / أديفا — تظهر وتختفي مع الإضاءة.

بسمين (يهمس): هل جئتِ من روايتي المفقودة؟ أنتِ التي كانت تغني وسط الخراب… أليس كذلك؟

بيافرا بصوت داخلي غنائي: لم تفقدني يا بسمين. فقط لم تطبعني بعد. أنا هنا، أنت الذي تبعثرت.

(تتكدس أوراق بيضاء حول بسمين. يحمل ورقة فارغة، يتأملها.)

بسمين: الرواية الثالثة؟ ربما لم أكتبها. وربما كتبت نفسها دوني. قالوا: “لن تُنشر”.

وأنا فكّرت…

“هل يُشترط النشر لكي نكتب؟

ألا يكفي أن نظل نحيا عبر الورق؟

أن نذوب مع السطر، ونظهر في سهوات القارئ؟”

(إضاءة قوية مفاجئة. صوت تصفيق، إعلان جائزة…)

صوت مذيع/غير مرئي: الجائزة تذهب إلى… بسمين، عن رواية لم تُطبع بعد.

(بسمين يقف، يحمل شهادة وهمية. ثم تختفي الأضواء. يقف في العتمة.)

بسمين:

لم أكتب شيئًا.

لم أستلم شيئًا.

لم أنشر شيئًا.

لكنني وصلتُ إلى قاعٍ آخر… حيث لا يوجد قارئ، ولا ورق… فقط… الأثر.

(غرفة صغيرة، الضوء خافت. بسمين وحده. يعود من حلم طويل، يمسح وجهه.)

(صوت فائز من بعيد):

فائز: هل نحن نكتب لنُنشر؟ أم لنظل نبحث عن كلمات تنقذنا؟

بسمين (بهدوء، وهو يكتب على الهواء): ربما الكتاب الحقيقي… هو الذي لا يصل أبدًا. هو الغواص فينا وهو الغرق.

(تُسمع من بعيد همسات بيافرا، صوت أمواج، ثم غناء شفيف لا يُفهم تمامًا)

إظلام تدريجي.

الإضاءة هادئة في البداية، ثم تتغير تدريجياً إلى زرقة البحر. الجدران تلمع مثل سطح الماء. صوت قطرات، ثم موجة. ثم… هدير.

(بسمين يجلس إلى مكتبه. يكتب بخفة. الكلمة الأخيرة التي يخطها: “ربما تصل”. فجأة، يرنّ إشعار غريب من الحاسوب أمامه.)

الصوت الآلي (محايد بشكل مخيف): تنبيه من شركة “نقل غائم” المرجو عدم الرد على هذه الرسالة. الشحنة الخاصة بروايتيك: إما ضاعت. أو عادت. أو تلاشت في الجو الأدبي العام. مع خالص الاحترام، لا تتصل بنا!

(صمت. بسمين يحدّق في الشاشة. فجأة، تهب ريح خفيفة من إحدى زوايا الغرفة. يرتجف ستار خفيف. ورقة تطير… ثم أخرى… ثم العشرات. تسقط أوراق بيضاء من أعلى، مبلّلة. ثم تبدأ الجدران بالتلألؤ… ويدخل صوت البحر.)

بسمين (يتمتم): البحر؟ هنا؟ أليس من المفترض أن أُبحر في المعنى، لا أن يُبحر فيّ؟

(الماء يبدأ بالتسرب من تحت الباب. أصوات طيور بحر، صدى ناي بعيد. الأوراق تتحول إلى ما يشبه السمك الورقي، تتلوى ثم تختفي.)

بسمين (ينهض، يصرخ كمن يستغيث أو يغني): أيتها النسخة التي لم تصل…

أيتها الحكاية التي لم تُغلف بعد… أيتها الكلمة الموجة… هأنذا… أغرق!

(الضوء يضطرب. الغرفة تتحول كليًا إلى ما يشبه قاع بحر. بسمين يقف وحده وسط الظلال، الأوراق تطير، رسائل شركة “نقل غائم” تومض وتطفأ على الجدران: “عذرًا، غير متوفّر” — “تم حذف الحاوية” — “لا تتصل بنا”).

الصوت الداخلي (نغمة بيافرا خفيفة تغني عبر فقاعات): لا تبحث عن الكتاب،

الكتاب هو من يبحث عنك… في غفلةٍ منك، يكتبك.

(بسمين يبتسم، رغم كل شيء. يجلس وسط الماء، يفتح صفحة جديدة. يبدأ بالكتابة بإصبعه على سطح مبلّل كأنه دفتر مائي.)

بسمين: فصلٌ جديد… يبدأ في الغرق.

بسمين (بصوت منخفض، كأنّه يهمس داخل فراغ هائل): لم تصل الكتب.

والنُقّاد صمتوا من فرط العادة، والقارئ الذي كنتُ أكتبه… صار ظلًا يتبعني ولا يقرأني. لكنني كتبت. كتبت حين كانت الطباعة شكًا، والقراءة طقسًا بائدًا، والكتابة مهنة لا راتب لها. (ينظر كأنه يرى شخصًا يعرفه.) كتبت لأن الكتابة لا تنتظر التصفيق، ولا الجوائز، ولا مراجعات النجوم الخمس. كتبت لأتذكّر من أكون… حين ينساني الجميع. (ضوء خفيف يسقط على كتفه.)  نعم، العالم مليء بالشر، الكتب تُشحن ولا تصل، الأفكار تُرفض لأنها صادقة. لكنّ الصفحة، الصفحة البيضاء،

لا تكذب. تنتظرني كل مساء كما لو أنني الناجي الأخير في سفينة لا أحد فيها… سواها. (صمت. يمدّ يده، يكتب سطرًا وهميًا في الهواء.) لن أنجو بالشهرة. لن أنجو بالوصول. سأعيش… بالسطر الذي لم يُقرأ، بالجملة التي لم تُنشر، بالصوت الذي بقي في داخلي… وسمعته أنا فقط. (يهمس.) وربما هذا… هو معنى الكتابة.

   6

    أغنية لمركبة فضائية تشق ظلام المجرة

  ذات مساء، تلقى بسمين مكالمة. الصوت على الطرف الآخر كان ناعماً كزيت مقلية محترقة:

– «ألو؟ معك الأستاذ وعدون، المدير التنفيذي لـ دار “بعيدون للنشر والتبخير”. نود تهنئتك على عدم استلام أي نسخة من كتبك!»

لم يتح لبسمين وقتاً للرد، حتى واصل الصوت بثقة مطلقة:

– «نؤمن في دارنا بأن الكاتب الحقيقي هو من لا يرى عمله مطبوعًا، بل يشعر به يضيع في الهواء… هذا هو النشر ما بعد الحداثة.»

ثم تلقى إشعارًا من شركة الشحن المزعومة “نقل غائم”، يفيد بأن الشحنة:

“ربما تم تسليمها، ربما لم يتم. وربما عادت إلى المرسل، الذي لا نعرف من هو. الرجاء عدم الاتصال بنا. نحن شركة تأملية.”!

انتهت الرسالة برمز تعبيري لسلحفاة تبتسم.

  جلس بسمين يتأمل الحياة… وتوصيل الكتب… ثم بدأ يشك أن الروايتين اللتين كتبَهما كانتا مجرد إشاعة أطلقها هو ذات مساء.

رنّ الهاتف فجأة، كأن أحدهم كبس على زر “خذني من هذه الحياة الآن”.

رفع بسمين السماعة ببطء، وهو يقشّر تفاحة، جلس على حافة الكرسي وكأنه ينتظر صفعة! الصوت من الطرف الآخر، مشبّع بعطر علاقات عامة رخيص: – “أهلاً أهلاً بالأستاذ الكبير، قاهر الجمل الإنشائية، وصانع المعاني من بخار الذاكرة! معك وعدون، مدير دار بعيدون للنشر والتبرير…”

بسمين: – “من؟”

– “وعدون! وعدون! الناشر الذي أرسل لك ذات مرة بريداً إلكترونياً عليه صورة طاووس وسطر يقول: أنت أعظم مما كتبت؟”

بسمين: – “آه… طبعًا. الناشر الذي لم يرسل لي نسخ روايتي الأولى، ثم كرر نفس الحركة في الثانية، لكنه أرسل لي مقالة عن الشحن الدولي كـ «عزاء رمزي».”

– “صدقًا، نحن نعيش في فوضى بريدية عالمية. حتى نسختي من كتابك لم تصل! أقسم أنني قرأته بصيغة PDF، على موبايل أختي.”

بسمين (بنصف ضحكة): – “جميل أنك تعتبر قراءة كتبي على شاشة مكسورة منجزاً أدبياً مشتركاً.”

– “لا تكن قاسيًا… في الحقيقة، اتصلت اليوم لأنني أرى فيك مشروعًا ثالثًا… أعني، مشروع رواية ثالثة. سمعت أنك تكتب شيئًا جديدًا… بعنوان كلب بلا ظل، صحيح؟”

بسمين سخراً: – “هذا العنوان مؤقت. لم أكتب منه إلا ملاحظتين وقصاصة فيها كلمة (نباح).”

– “وهذا يكفي! صدقني، في السوق اليوم، العناوين القوية تبيع، أما المحتوى… فدعنا نؤجله للطبعة الثانية.”

بسمين: – “هل تتحدث عن عقد جديد دون أن تكون الرواية مكتوبة؟”

– “بالعكس! هذا هو الابتكار! نوقّع العقد أولاً، ثم… ثم تأتيك الرواية، كما تأتي النسخ… لاحقًا، في حلم جميل.”

بسمين: – “وهل العقد يشمل هذه المرة بندًا يقول: الكاتب لا يستلم شيئًا، حفاظًا على نقائه الإبداعي؟”

– “في الحقيقة… لدينا بند تحفيزي جديد! إن لم تستلم نسختك، سنرسل لك طابع بريد من القرن الماضي، مؤطّر بخط يدّك.”

بسمين: – “جميل. وماذا عن الأجر؟”

– “الأجر… الأجر ليس مالاً، بل تجربة روحية. في كل مرة تُطبع فيها روايتك، تكتسب روحك نقاط تؤهلك للدخول إلى نادي (الكتّاب غير المرئيين).”

بسمين: – “هل يُرسل النادي بطاقته أيضاً على هيئة PDF؟”

– “هاها، لا… هذه تُطبع وتُرسل بالبريد… لكن، على طريقة بعيدون: لن تصل أبداً!”

(صمت طويل. بسمين يضع التفاحة جانباً. يبتسم كمن تذكّر نكتة حزينة.)

بسمين: – “حسناً، أرسلوا العقد. لكن هذه المرة، أريد شيئًا ملموسًا.”

– “بالطبع! سنرسل لك عقدًا مطبوعًا على ورق شفاف، بالحبر السري، مع توقيع غير مرئي… إنه المستقبل يا أستاذ!”

بسمين: – “المستقبل؟”

– “نعم… المستقبل حيث الكتب تُطبع بلا ورق، وتُقرأ بلا مؤلف، وتُنسى بلا أثر.”

بسمين (بصوت خافت): – “جميل… تمامًا كما يحدث الآن.”

  يتحدث وعدون، كأن العالم كله معرض كتب متجول، وأنا كيس قماش مجعد. لا يعرف أني أكتب لأبقى حيًا، لا لأشارك في سحوبات الجوائز.

العقد الجديد؟ يا سلام! كأنه يقول: نَشرٌ لك، وربحٌ لي، ونسخٌ لا تصل. أنا الكاتب الذي يدفع ليُنشر، ثم يدفع لِيستلم، ثم لا يستلم، ثم يُطلب منه أن يدفع ليحلم!

تكاليف الطباعة؟ عليّ.

الشحن؟ عليّ.

الدعاء أن تصل الرواية إلى قارئ؟ عليّ.

ثم… الجوائز؟ بالمناصفة! أي عبقرية تسويقية هذه؟ هو يأخذ نصف الجوائز وأنا آخذ كل الخيبة. وأنا لا أملك حقوق النشر، بل حقوق الصمت. حقوق التفرّج على كتبي وهي تغادر مطابع بعيدة، ثم تدخل حياة قرّاء لا أعرفهم، من دون أن تمرّ بي ولو لمسة غلاف. أنا مجرد فكرة في دفتر محاسبته. كاتب يُنشر بلا أثر، بلا ورق، بلا طمأنينة. هل يُعقل أن أُحَاسب على أحلامي؟ أن أُقسّط نبوءاتي؟ أن أُغرّم إن تأملت فوق الحد المسموح به؟

(صوت وعدون يضحك في الطرف الآخر، يقول شيئًا عن ترجمة الرواية الثالثة إلى “اللغة الفرفورية القديمة” من باب الانتشار العالمي.)

يا إله الخيال… ما هذه الهرطقة المحترفة؟

أفكر الآن… لو كتبت رواية بعنوان “المؤلف الذي دفن نفسه مع نسخته الوحيدة”، هل سيطلب وعدون أن يقتسم حقوق القبر أيضًا؟

[لا يزال وعدون يهذي في السماعة:]

– “… وتخيّل يا أستاذ بسمين، إن تُرشّح روايتك الثالثة لجائزة “رحيق الكتابة المعاصرة”، سنتقاسم قيمتها كما ينقسم الحرف إلى شطرين: نصف لك، ونصف لي، وما تبقّى للفن!”

[صمت مفاجئ من بسمين. أنفاسه هادئة، باردة. ثم فجأة، صوته ينفجر كجدار يُهدم:]

بسمين: – “وعدون… اسمعني جيدًا. هذه ليست شراكة، هذا نوع متطور من السرقة بمذاق أدبي! أنا الكاتب الذي يشتري عزلته، ويدفع ضرائب حلمه. هل تعلم أنني صرت أفكر في شحن الرواية القادمة على ظهر طائر مهاجر؟ على الأقل الطائر لن يطلب مني اقتسام الجائزة!”

[في هذه اللحظة، يصدح صوت ناعم، لا يأتي من الهاتف، بل من ركن الغرفة. شخصية خيالية تتسلل من ظلال الرواية الأولى، بثوبها الأسود، تغني من بعيد بصوت أشبه بالذكريات.] (بخفة ساخرة): – “قل له، يا بسمين، أن يضع العقد في زجاجة ويرميها في البحر. أنت لا تحتاج ناشرًا، بل قارب نجاة.”

بِسمين (نصف مبتسم): – “ماذا تفعلين هنا؟”

– “أنا لا أغيب. كلما اقترب وعدون، أطلّ من شقوق عقلك كي أذكّرك: لست للبيع، ولا للإيجار. أنت تكتب كي تظل موجودًا… لا لتقتسم الجوائز مع مهرّج.”

[وعدون، لا يسمع شيئًا، لا يرى، يتابع حماسته الغبية:]

– “… وسنضيف إلى العقد بندًا يتيح تحويل الرواية إلى مسلسل كرتوني تفاعلي للأطفال، شرط أن تحذف منه أي ذكر للحزن أو الفقر أو الغربة!”

بسمين (يضغط زر إنهاء المكالمة ببطء، وكأنه يطوي فصلاً طويلاً):

بسمين: – “إلى الجحيم يا وعدون”……

……

[هاتف بسمين يرن مجددًا. الرقم… وعدون.

بسمين يحدق في الهاتف لحظة، ثم يضغط الرد. الصوت يأتي متأنقًا من الطرف الآخر، مشبعًا بالمحسنات اللغوية والدهون التجارية.]

وعدون (بلهجة ناعمة لزجة): – “أستاذ بسمين! نجم الكلمة الحرة! أمل الرواية المستقبلية! أيها العابر فوق حدود الشكل والمضمون… أخيرًا، نحن نعود إلى بعضنا البعض كما تعود الكلمات إلى الصفحة!”

بسمين (باردًا، متعبًا): – “قلتَ إنك مشغول جدًا لدرجة أنك لم تحضر جناح داركم في المعرض الخيالي للكتاب… تذكّر؟ الروايتان كانتا هناك.”

وعدون (متنهّدًا، كمن يحمل العالم على كتفيه): – “آه، المعرض… يا للأسف، أُصبتُ فجأة بحساسية نادرة تجاه الورق المطبوع، تصيب فقط الناشرين الحساسين. لكن ثق تمامًا، صورتك كانت على البروشورات، وتحتها عبارة: بسمين… يكتب بالغياب. عبقرية، أليس كذلك؟”

بسمين (بصوت منخفض): – “لم تصلني نسخة واحدة. لا من الرواية الأولى، ولا الثانية. لا صورة، لا بريد، لا حتى زلة لسان.”

وعدون (متجاهلًا، يغير النغمة): – “لكن الآن… الآن نفتح فصلاً جديدًا. الرواية الثالثة؟ ستكون الانطلاقة الكبرى! لدينا خطة ترويج استثنائية: قراءات مباشرة في ثلاث مدن، عرض حيّ بعنوان بسمين يرتجل الحزن، وحتى طبق خاص مستوحى من أسلوبك… نخترع طعامًا، تخيّل: حساء الغيمة الثالثة! لن ينساه الجمهور!” …

بسمين (متكئًا على صمته): – “طبق؟”

وعدون (بحماس خيالي): – “نعم! حساء رمادي، يُقدّم في وعاء شفاف، بلا ملعقة. الناس ستأكل كما تكتب أنت: بالتخمين. إنه مفاجأة مهرجان الرواية المتألمة!”.

بسمين (يقاطعه بحدة هادئة): – “وعدون…”

وعدون (يتوقف، متوجسًا): – “نعم؟”

بسمين: – “هل تعرف ما الذي أفكر فيه هذه الأيام؟ أفكر أن العقود التي بيني وبينك لا تُعاش، لا تُقرأ، ولا حتى تُطبع.”

وعدون (بصوت خافت، مرتبك): – “ماذا… تعني؟”

بسمين (بكلمات صلبة): – “أعني أن العلاقة بيننا تشبه رواية ممزقة قبل أن تُخيط، وأنك طبعتني مرّتين دون أن تراني مرّة. وأن كل حرف كتبته، صار بالنسبة لك مجرّد سلعة لتطعّم بها حساء الغيمة الثالثة”.

[صمت.. وعدون لا يرد. فقط يُسمع صوت تنفّسه المتلعثم. ثم يعود صوته مكسور الود، يحاول الالتفاف مجددًا:]

وعدون: – “أستاذ بسمين… كل شيء يمكن إصلاحه… تعال عندنا، نزور المدينة القديمة، نأخذ صورة أمام واجهة المكتبة الكبرى… نوقّع نسخاً…”

بسمين (يهمس): – “أي نسخ؟”

[ينهي المكالمة بهدوء، ثم يدير وجهه نحو أحد رفوف الكتب. يسحب مجلدًا أبيض فارغًا. يفتح الصفحة الأولى، ويكتب:]

“هذه روايتي الثالثة. لم أطبعها. لم أبعها. لم أرسلها إلى وعدون. كتبتها فقط لأتذكّر كيف كنت أكتب قبل أن يصير الكاتب طُعماً لوليمة”.

 7 

  مكالمة لم تحدث

  يريد بسمين أن يطلب هاتفياً من وعدون إرسال شحنة جديدة من روايتيه، لكنه مع نفسه يقرر أن يتخيل ما يحصل فهو قد عرف اساليب وعدون جيدا، لذلك سيعتمد على نفسه في خلق خيالي لما سيطلبه من وعدون وكيف سيتهرب وعدون من قصة إرسال شحنة جديدة من نسخ الروايتين..

 في الركن الأيمن من الغرفة، قرب مدفأة، جلس بسمين على الكرسي الخشبي، وضع هاتفه على الطاولة، لكنه لم يتصل. فقط حدق فيه طويلًا، ثم تمتم:

– “دعنا نجرّب شيئًا آخر يا بسمين… لنفترض أنك اتصلت. هيا، تَخيّل.”

أغمض عينيه، ضغط على زرٍ وهمي، وبدأ العرض… داخل رأسه.

صوت داخلي – بسمين: – يرن الهاتف… مرة، مرتين، يرد وعدون بعد أن ترك الموسيقى الكلاسيكية تنبعث لخمس ثوانٍ بلا سبب.

وعدون (بصوت مبلل بالعسل المغشوش): – “آه يا صديقي! أستاذ بسمين! يا لجمال هذا الصباح الذي أشرق باسمك! هل قلت لك إننا وضعنا اقتباسًا من روايتك على بوستر المعرض الخيالي؟”

  بسمين (ساخرًا داخليًا، لكنه يرد بنبرة دبلوماسية مزيّفة): – “جميل. جميل… كنت فقط أود أن أسأل عن الشحنة الجديدة من الروايتين. هل يمكن… أن تصلني هذه المرة؟ تعرف، كاتب بلا نسخة يظل عاريًا في حضرة اللغة.”

وعدون (بضحكة أقرب لغرغرة): – “آه، آه، الشحنة! طبعًا طبعًا. لكن… هناك أمور لوجستية خارجة عن الإرادة، الميناء مزدحم، والشحنات الورقية تخضع الآن لمراقبة بيئية صارمة، هل تعلم؟ الورق يشكل خطرًا في بعض الدول!”

بسمين (يرفع حاجبه في خياله): – “لكن الروايات شُحنت إلكترونيًا في البداية، وتمت طباعتها هناك… أليس كذلك؟”

وعدون (ينقلب إلى الهجوم الودي): – “يا لك من دقيق يا بسمين! هذا ما نحب فيك. انظر، هناك اقتراح: لماذا لا تأتي بنفسك لاستلام النسخ؟ وسنقيم لك حفل توقيع كبير في مقهى اسمه “الصفحة البيضاء”. وسنأكل أكلة تقليدية تُدعى “لسان الراوي” … مدهشة، تُطهى في قدر من المجازات.”

بسمين (يفرك جبهته في الخيال): – “وماذا عن النسخ؟”

وعدون (متنهدًا بحزن مصطنع): – “بسمين، أنت أكبر من النسخ! إنك فكرة، لست منتَجًا ماديًا. لا تنشغل بالتفاصيل الورقية. دعنا نركّز على المستقبل: هل أنهيت روايتك الجديدة؟ لأننا نحتاج توقيع العقد قبل طباعتها طبعًا…”

بسمين (يضحك فجأة، بمرارة لذيذة): – “عزيزي وعدون، هذه الرواية، إن كُتبت، ستُنشر على الهواء، حرفًا حرفًا، بصوت شخص ما وهو يغني في الأزقة. ولن أحتاج عقدًا.”

 

[يفتح بسمين عينيه، يلتقط الهاتف فعليًا… ثم يضعه جانبًا.]

 

بسمين (همسًا): – “لم تعد المكالمات تليق بهذه الحكاية….”

 

….. هذه كانت رواية بسمين الثالثة..

 

                

 

 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم

عبد الرحمن أقريش
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

ألم

محمد فيض خالد
تراب الحكايات
محمد فيض خالد

كشف هيئة