قراءة نقدية في “لعبة القفز من النافذة” للكاتبة هدى الشماشي

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد الطايع

لعبة القفز من النافذة، للكاتبة هدى الشماشي، هو عنوان الكتاب الذي نود أن نتحدث عنه بموضوعية فنشير بداية أن كلمة، قِصص أو قَصص، والتي كتبت تحت العنوان، لتحديد جنس الكتاب وهويته الثقافية، تمهيدا للصلة المحتملة بينه وبين القارئ، إنما أريد بها تمييزه عن نوع الكتب التي تدرج تحت مسمى مجموعة قصص، أو مجموعة قصصية، أو قصص قصيرة، تلك التصنيفات تناسب كتابا يضم نصوصا لا رابط بينها سوى اسم مؤلفها، حتى أنها قد تجمع قصصا لكتاب مختلفين مع أشكال وتقنيات سردية مختلفة. أما بالنسبة لهذا المؤلف، لعبة القفز من النافذة، فإن الدقة تقتضي أن نقول: إنه كتاب قصصي، وذاك أن النصوص التي يضمها، تبدو في الظاهر نصوصا سردية قصيرة متفرقة ومستقلة عن بعضها. يحمل كل نص منها عنوانه الخاص، وهذا ما قد يوهمك به التصفح الأولي للكتاب، لكن بعد أو عند القراءة، سوف تكتشف أنها نصوص من أهم ميزاتها الترابط الفني والموضوعي والشكلي والفلسفي، كما لو يتعلق الأمر برواية متعددة الشخوص وزوايا النظر.
ولكي أسهل هذا الأمر، أرسم صورة تقريبية عن علاقة هذه النصوص ببعضها فأقول: الثيمات السردية، الأحداث والشخصيات واللغة في هذا الكتاب، تتضافر لتنجز نوعا من التشكيل السردي، الذي سيجعلك تتصور نفسك، أشبه بمسافر يتنقل بين مدن صغيرة موزعة على خارطة وطن واحد، منفتح على العالم، تربط بين هذه المدن طرق سردية رئيسية وفرعية، بعضها ظاهر وبعضها خفي، وأقصد بالخفي تلك الطرق التي لا تكتشف إلا مع فعل القراءة والتأويل. هذه المدن في تمثلي، بعضها يؤدي إلى بعض، لهذا وجب الانتباه منذ البداية، أن الكثير من الشخوص الذين سنلتقي بهم مرة، من المحتمل والوارد جدا أن نلتقيهم مرتين وثلاثة. لكن مع ضرورة التسليم أن ما ينطبق عليهم، ينطبق على البشر الحقيقين، وذاك أن من شأن الحياة أن ترغمهم على تغيير أسمائهم، أو حتى تداولها مثل بطاقات تعريف. إشارة أن بعض أسماء تتكرر خلال هذه النصوص، أو تغيب حيث نتوقع أن يحملوها، مما يؤكد أن الحياة داخل سرديات الكاتبة هدى الشماشي تنمو وتتطور، والمصائر فيها بقدر ما تختلف تتشابه، أو تتقاطع على مستوى الفكرة أو المكان أو الزمان أو الحدث، وقد تشكل الوقائع الحاضرة امتدادا لأخرى تخص زمنا سابقا، يحدث كل هذا بسبب تغيير وتنويع الأبعاد والأشكال السردية. فإن لم تجد هذا الشبيه كاملا حيث تتوقع ذلك، سوف تجدَ جزءا منه، أو تلتقطَ صداه أو تتبينَ أثرَه، أو تعاينَ مصيرَهُ الذي كان مؤجلا حيث لم تتوقع تحقق ذلك. وقد تطَّلع في الأخير على تأويل ما تم عرضه في البداية. مع بعض الاستثناءات النادرة، والتي تمتلك بدورها، هي أيضا شرعية التواجد ضمن نصوص كتاب، لعبة القفز من النافذة. وذلك ما سأحاول تأكيده من خلال نص هذه المقالة.
من تقنيات الكتابة السردية المتبعة على صفحات هذا الكتاب، سوف نلحظ تلك الجمل القصيرة الحاسمة، تتلاحم مع جمل أخرى مراوغة، والتي تعرف تجنيسا باسم الحوار، بيد أن الحوار في نصوص هدى الشماشي، يقوم مقام السرد وتكملة المعنى، وإن لم تكن هذه سابقة في أدبها، فسوف تبدو ذات دلالة وعمق أكبر، وذلك لأنه حوار يتسم بالاقتضاب الشديد، حتى أن ما لا يحسم فيه سردا يحسم فيه عبر الحوار، وهو حوار مختلف عن المألوف، وذاك أنه يأتي على شكل سؤال وجواب في كل نص تقريبا، وقلما يتعداه لجملة ثالثة. سوف نقرأ جملا بصيغة سؤال، وتحتها جملٌ بصيغة جواب، السؤال قد يطرح استفزازا أو سخرية أو إنكارا كقول حسن مخاطبا صديقه عيسى ( هل أنتَ امرأة؟ ) أو استفسارا كما جرى على لسان امرأة تتفقد الأطفال: ( هل الكل بالداخل؟ )، أو التماسا ( هل تسمح لي بالدخول؟ ) ثم ينوب الجواب عن السرد ( لقد دخلت فعلا ). وقد لا تأتي جملة الحوار الأولى بصيغة سؤال، فتكون أمرا، أو تنبيها ( أنت مستعجلة ) أو استعطافا ( أعطنا ما عندَكِ ) بينما يتخذ الجواب شكل الرد العادي مرة ومرارا يأتي صادما، في حال تذكير أو انكار مقابل انكار، أو يكون الرد صدًى أو إقرارا، وقد بلغ الحوار ذروته وحقق نصيبه من الذكاء في قصة ( لعبة القفز ) عندما التقت الزوجة عشيقةَ زوجها. ثم أشير أن هذه الصيغ البليغة العجيبة تمارس فعلا سلطويا شقيا جادا على مخيلة القارئ، حتى لا يذهب بعيدا عن الخط السردي، ولا يستلذ عادة التوقع السيئة، هكذا تأتي تلك الجمل دقيقة لا تخطئ هدفها، حاسمة كما في هذا المثال: – في هذا الوقت؟ في هذا الوقت / في هذا الخوف؟ في هذا الخوف. وقد تأتي مفردة في حال تلخيص أو استنتاج ( إنني أصبح حالمة مثله ) وقد تغوص في ثنايا السرد، تختفي ثم تظهر فجأة لتضع حدا، أو تحدث انقلابا أو تتم معنى، أوتربط بين فكرتين، وفي الغالب وهي تتوارى وتظهر بين الجمل، تنوب عن جمل سردية أطول، لولاها لسقطت النصوص في دائرة الملل، هذه التقنية تشبه دعائم زرعتها الكاتبة ضمن المتن السردي لتمنحه القوة والاتزان، ثم تنبسط تلك الجمل الحوارية فتجسد صوت متكلمة ترشد مخاطبة، في قصة ( الصيد ).
وأنا إن كنت اخترت أن أشيرَ لمثل هذا، فلن أزعم الإحاطة بما تتضمن نصوص كتاب ( لعبة القفز من النافذة ) لأنه وبكل بساطة أمر غير ممكن. نظرا إلى ما للكم الكبير من أساليب التجديد والتنويع، التي يحتويها الكتاب.
من خلال العديد من النصوص، تخبرنا الكاتبة، أنها تحكي لنا قصة، ثم تحدد نوع هذه القصة، مشيرة مثلا أنها قصة عن الثوار. ومن المعلوم أن تكسير الجدار الرابع في السرد، ليس عملية اعتباطية الغاية منها التسلية، بل هي قيمة فنية مضافة تغدو ضرروية بمجرد أن يرى الكاتب أنها ضرورية. فمن سحر وموضوعية هذه المباشرة، أن تخبرنا الكاتبة بعدها مثلا: أن الأحاديثَ الوجدانية ليست سوى أحاديثَ جانبية، ما دمنا نقرأ قصة عن رجال أشداء، وأن الاهتمام بمشاعر النساء مسألة ثانوية حين يتعلق الأمر بقصة عن الثوار، ثم تتحدث بطلاقة كأن شخص الناقد فيها هو الممسك بالقلم، فتقول في قصة ( حكاية الفأر الأبيض ) إن هذه قصة محترمة عن أشخاص محترمين، ولذلك فلنتجنب الكلمات المسيئة . في قصة أخرى تعتذر الساردة عن كمية الحزن والوجع والألم في قصة واحدة، ومثل هذه المباشرة السردية، لا ينبغي فهمها كما لو أنها صادرة عن شخص يخاف قبح عالمه أو يتنكر له، إنما هي ضرب من استدعاء نباهة القارئ، ليراجع معتقداته الجاهزة، وتأويلاته السطحية لمسرودات عالمه. وذلك أننا في نهاية المطاف، سوف نندهش ونحن نرى أن هذه الأحاديث الجانبية هي ما أعطى مصداقية وعمقا لهؤلاء الشخوص وتلك الوقائع. فلا نملك إلا أن نتبسم حين ننتبه أن الساردة تستدرجنا وكأننا داخل لعبة، من حيلها، التغرير بنا وتوهيمنا أننا نتواجد معها بكامل وعينا في منطقة التوافق بشأن المتفق عليه، ثم نجد أنفسنا مرغمين على أهمية مساءلة ما لم نتفق عليه، مع أنه قلب الحقيقة وجوهرها.

يتضمن هذا المؤلف تسعا وعشرين نصا قصصيا، من مميزات الأسلوب السردي المعتمد لنسجها: التدفق دون تعثر، الوضوح العميق، التماسك النسقي، الإيجاز الذكي، التعدد دون تبعثر، التلميح بعيدا عن الغموض المفرط، والتكلف والاقحام، والتقريرية أوالنمطية السردية، وهذا هو الأهم.
الثيمات الأساسية، الموضوعات والأفكار في كتاب، لعبة القفز من النافذة، تهتم بما هو انساني، وذلك عبر الغوص في سير وملابسات وقائع معاشة وتعاش، ليس ضمنها ما هو مائع أخلاقيا، أو مُغرض سياسيا، أو خاضع لإيديولوجيات مسبقة، إذ يخلو الكتاب تماما، من الشخوص النمطيين، مثلما يتجنب الخوض في البديهيات، ويترفع عن الاحتاك بالنظريات والوقائع المستهلكة، أو استعراض المعارف وتضخيم المفاهيم، متفاديا مغبة الدخول في مناطق الصراعات الثقافية المتعصبة والساخنة، والأجمل أنه يتعفف عن اللجوء للمواضيع ذات الغايات الاستهلاكية، التي تنقر على مفاتيح الغرائز قصد ايقاظها. فمما نراه ونلمسه ضمن هذه النصوص، هموم المرأة المغربية باعتبارها إنسانا بالمقام الأول، تلك المرأة التي لها ما لها وعليها ما عليها، هكذا كما نعرفها دون مزايدات، وفي منأى احترافي خلاق، عن لعبة تركيب التصادمات المفتعلة، والتي من شأنها خدمة مصالح، تُدفع أفكارها قسرا نحو الأمام بغاية التطبيل أو التضليل. فلا شيء هنا مفتعل، لا تدليس، لا انحياز إلا للقيم الجمالية الفنية ذات الطرح الفكري الحر. الكاتبة هدى الشماشي تكتب من منطلق حريتها كإنسانة، ومن منطلق قناعاتها الشخصية، وما تعلمته وعلمتها إياه الحياة. لذلك كان تفاعلها مع الواقع تفاعلا رصينا، أقول عنه: أنه نادر وموثوق. وذلك بسبب نفورها الجلي من الشراسة النمطية في الخطاب، كأن يصلب الرجل عمدا للجلد انطلاقا من خلفيات ذات مبادئ تصادمية، هنا وعلى العكس، سوف ترى الكاتبة هدى الشماشي، تنظر إلى شقيقها الرجل، نظرة إنصاف تبلغ أحيانا حد التعاطف السوي. خاصة حين يكون الذكر والأنثى معا ضحايا ظروف قاهرة، تاريخية واجتماعية وسياسية. وهذا ما أعطى هذه النصوص صفة المصداقية. والتي تغيب كثيرا في المشهد الثقافي، إما بسبب الغلو الفكري أو الانحياز العاطفي المتهور، أو بفعل الإسقاط العمد، أو ضعف الموهبة.
دون أدنى مبالغة، أعتقد جازما أن التحدث حول هذا الكتاب الرائع، من خلال مقالة واحدة، هو إجحاف في حقه، وذاك أن اختزاله يشبه رغبتنا أن نضغط العالم في زجاجة.
من وجهة نظر الكاتبة هدى الشماشي، وهي نتيجة استخلصتها من قصصها، المكتوبة ضمن مجموعتها، لعبة القفز من النافذة، وليس من خلال حواراتها أو مقالاتها الصحفية أو تدويناتها. أن الحياة تكرر شخوصها عبر العصور، فتبدو كما لو أن غايتها أن تخضعهم لتجارب معيشية مختلفة نسبيا زمانا ومكانا. فيكون أول ما نلاحظه اتصاف هؤلاء الشخوص بالعناد الإيجابي. وهو عناد تتصف به الكاتبة نفسها، وقد لاحظت هذا، من خلال نصوصها السردية فقط، وليس من خلال أي مصدر آخر.
بالنسبة إلي وجود الكاتب الفعلي، يبدأ مع أول حرف أقرأه له، وهو وجود رائع وملهم، وذاك أنه يبتدأ لكي لا ينتهي. لأن من طبيعته أن يمتد ويمتد خارج النص، وهذا وسام لا يناله إلا الكاتب الذي يحقق فضيلة الأثر الما بعدي للقراءة، وأن يحدث هذا فليس لذلك غير تفسير واحد، أن الكاتب متمكن من عمله. أقول هذا لأبرر وصفي الطريف للكاتبة هدى الشماشي بالعناد الإيجابي، لأني لمست عنادها، في كثير من النصوص والجمل المتفرقة، أكبر تمظهر لهذه الصفة تجلى في قصتها، الرجل الذي يحمل مصباحا في جيبه، والتي تحكي معاناة كاتب مع الكتابة، وكيف يمكن لرغبة الكتابة أن تتخذ شكل التحدي المستميت، إذ يبدو بطل النص أشبه بشخص يحاول خلق حياة من العدم، دون أن يفكر في التنازل عن حقه في تحقيق رغبته، ذلك العناد الغريب والمتوحش والصبور أيضا، هو القاسم النفسي المشترك بين عدد كبير من المبدعين الذين لا يهادنون البياض، حتى يفكوا لغزه وينطقونه. هذا النص تحديدا يمكن أن يُقرأ على أكثر من مستوى، وذاك أنه قد تضمن إضافة للحبكة الظاهرة، بعدا نقديا للتصورات المسبقة للسرد الإبداعي، مشيرا أن الكلمة السردية، يمكن أن تكون فخا، فيصاد صياد القصص عوض أن يَصيد. نفس هذا العناد نجده في قصص أخرى بنسب متفاوتة.

أما صفة العناد كفلسفة وحكمة ووجهة نظر، فهي تتجلى في العديد من النصوص والجمل، أختار منها هذه الجملة الحاسمة التي وردت ضمن قصة حلم نساء خائفات ( إنهم يريدون أن يهزموا كبرياءنا ولكنهم واهمون)، الصفحة 43، وأخرى أقتطفها من نص بعنوان: إنهم ينبحون في رأسي، ( في لحظةٍ ما فهِمَ أن الانتصار هو ألا يستسلم مهما طالت المعركة ) الصفحة 23. لكن هذا العنادَ يستهويه تصاعد الخط الدرامي في حياة تشبه السرد، فيجنح نحو اللين والتسامح، بدءا من التصالح مع النفس من أجل إزاحة ما تحمل على كاهلها من أثقال، وأهمها أثقال الشعور بالذنب، وتأنيب الضمير. وهذه حالة نفسية، متربصة بالشخوص في جل نصوص كتاب لعبة القفز من النافذة.

وما دمنا هنا نحاول التعريف بالقيم الجمالية والفكرية لهذا الكتاب، أود التحدث عن الشعور بالذنب، فأتساءل هل يمكن التخلص منه بالصابون والماء؟ هل يغسل الوضوء مثلا ذنوب المصلي؟ هكذا ببساطة دون أن تحدث عملية التطهر من الداخل؟ إن بطلة قصة لعبة القفز، وليس، لعبة القفز من النافذة، أكسبها الشعور بالذنب والعار أحيانا عادة حك جسدها بالليفة والصابون حتى تكاد تقشره، هي التي تكاد تتقيأ بسبب مَنِّ حبيبها عليها، في محاولة منه لتبخيس قيمة عطائها مقابل عطائه، تزامنا مع عقدة الذنب التي تلازمها تجاه شقيقها المريض الذي أنكرته، على عكس الفتاة في قصة، تحت الشمس، والتي تخبر حبيبها الدركي أنها ( لا تنكر أخاها )، مما يعمق شعوره بالذنب، ذلك الشعور التي تحول إلى بقع دم يحاول التخلص منها، وهي تظهر على أرضية وجدران منزله، مصارعة هذا الشعور القاسي في هذا الكتاب القصصي، تبدو قدرا أشبه بجسر لا بد لكل إنسان من أن يعبره، إنه امتحان شاق، من ينجو منه يضمن سلامته النفسية، ومن يعلق فيه يندثر أو يتبخر كما حدث مع بعض شخوص هذه القصص.

من خطورة الشعور بالذنب أنه يشبه لعنة متوارثة عند البعض، وتهمة يلقيها أناس على أناس، كي يتخلصوا من وزرها، وهي لا تستثني أحدا ولا تتعفف عن علاقة، حتى العلاقات التي تتسم بالبساطة وبالمحبة أوالثقة، مثل علاقة بطلة قصة، إنه يغني، حيث تخبر الساردة أباها أن طليقها يعيرها بامتهان والدها الغناء، فكان جواب الأب حاسما أمام كلام يمس جوهر وجوده: ( أعلي أن أحس بالذنب؟ ) هذا الشعور المقيت يلاحق بطل قصة، إنهم ينبحون في رأسي، وهو يسائل مَساره الشبيه بسيرة (جوليان ) بطل رواية الأحمر والأسود للروائي الفرنسي ستاندال، ثم يأتي الشعور بالذنب، بشكل مرعب ليحاكم بطلة قصة، حكاية الفأر الأبيض، التي كان عليها أن تقتل نفسها من غير ذنب، مع أن الحياة نعمة، ليس من العدل أن نُخَير بينها وبين الشرف، فأي جواب تملك للعالم بطلة قصة، البكاء وسط أشجار اللوز، تلك العجوز التي لم تتعمد أيام صباها إفساد حياة أحد، وذلك أن قلبها لم يتعلق بغير أبيها الغائب، وهي تعبر عن ذلك الشوق بالغناء، وهل يفترض في بطلة قصة، أحلام الدمى المكسورة، أن تشعر بالذنب لأن أمها متسولة؟

إن أخطر ما نعيشه، معاقبة بعض البشر من غير ذنب، وإلصاق التهم بهم، بينما المحظوظون هم الذين سيعقدون هدنة مع عقدة الذنب، التي لا يكاد ينجو من شرها جل البشر بمن فيهم الأنبياء.

خلال بعض لحظات تأملي لوقائع هذا الكتاب، بحثا عن جواب نحسه ويحرجنا، أينا المذنب؟ وأينا يستحق العقاب؟ لم أجد غير جواب واحد، ألهمتني إياه الكاتبة، علينا أن نتعلم كيف نغفر لأنفسنا قبل أن نزعم أننا مأهلون لكي نغفر للآخرين.

وللمزيد من رصد ملامح الرؤية السردية، في تجربة الكاتبة هدى الشماشي أقول: إنها لا تخاطب قارئا مستعجِلا، كما لا تستعجل القارئ، وهنا تكمن براعتها كساردة، فتعلم أنها كاتبة قرأت العالم قبل أن تنتقل للكتابة. إشارة إلى أن شكل الكتابة لا يفصل عن مضمونها، فالشكل السردي هو الوعاء والظرف الابداعي، هو المحقق لذلك الانسجام بين الفكرة والشعور، الحكاية والرسالة. وهو الملحَق بنسبه للكاتب، فيقال إن لهذا المبدع بصمة متفردة تحميه من خطر التشابه مع غيره. ولأن هذه التقاليد الإبداعية أضحت بمثابة قوانين وقواعد، كان الاهتمام بها من أرقى الأولويات. ومن خصوصيات تجربة الكاتبة هدى الشماشي، أنها رغم التزامها بشروط القصة القصيرة خلال النص الواحد، مثل التكثيف والتركيز، لا تخنق أفق التلقي ولا مسافات التواصل ببنها وبين القارئ، لا تتخلى عنه في منتصف الفهم، ولا تمنحه سر نصوصها كاملا، خطة سردها وسطية معتدلة، وهي تنجز هذه الخطة على أكمل وجه، حيث تلجأ لتقنية إخفاء الخبر السردي، إذا كان ظهوره سيفسد جمالية النسق أو يُسطح الفكرة، لكن ولأن إخفاءه يمكن أن يحدث لبسا يشتت ذهن المتلقي، وغموضا بشأن نتائج الأفعال وهوية الفاعل، تعود ثم تفك اللبس بجملة واضحة فيما بعد. هذه التقنية التي قد يظن البعض أنها تخص الجمل السردية فقط، سوف نكتشف بعد الاطلاع على النصوص كاملة، أنها تشكل أساسا هاما في اختيار تتابع النصوص داخل الكتاب، ومن شأن الانتباه إليها أن يعطي الدليل أن النصوص لم تترداف بشكل عشوائي، بل كان التسلسل نفسه إبداعا منح الكتاب مسحة روائية.
هذه العملية تتم هكذا:
تنتهي قصة، المرأة التي تحولت إلى دخان، عند مشهد غرائبي، يشبه ما يحدث في نصوص أدب الواقعية السحرية، حيث يتوارى الواقع خلف الخرافة، كما فعل عميد هذا النوع الابداعي، ( غابريال غارسيا ماركيز )، مع شخصية ( ريميديوس ) الجميلة، التي ارتفعت إلى السماء في رواية مائة عام من العزلة، لكن هدى الشماشي، لن تتوقف عند هذا الحد، فهي قد حققت بقصة، المرأة التي تحولت إلى دخان، بعدا جماليا استثنائيا، يذكرنا أن من أجل مثل هذا، نعشق القصص، لكنها عادت وقدمت من خلال بطلتي قصة، أحلام نساء خائفات، مريم وفاطمة، بعدما وضعتهما في نفس السياق التاريخي السابق، لكي تشير بوضوح، إلى الخلفية الاجتماعية القاسية، مع همينة الفكر الذكوري المتعصب، والتي فرضت على المرأة زمن الحرب، أن تتحمل وزر العالم الذي وجدت فيه، ونحن نرى رجلا يوصي زوجته أن تقتل نفسها حماية للشرف، هذه الوصية سوف تبقى عالقة كشوكة في حلق القارئ، حتى تأتي قصة، حكاية الفأر الأبيض، لتسقط الأقنعة، وترفع الستائر، فنعلم كيف تبتدئ الخرافة وكيف تهمين على العقول. ثم نتأكد أن بعض الكشف يعرضنا للعنف، حتى يكاد يتمنى من يعاني رهاب الواقع لو أننا اكتفينا من القصص بجانبها العجائبي مثل الأطفال.

بهذا تكون هدى الشماشي قد تجاوزت أدب الواقعية السحرية، وأعطت الدليل أن تقاطعها معها لم يكن بقصد التزيين فقط، تسأل فاطمة زوجة أخيها مريم، التي ستحكي للصغار حكاية، إن كانت تنوي فعل ذلك في هذا الخوف؟ فتجيبها بما يفيد نعم: ( في هذا الخوف )، في هذا الخوف عنادا وإصرارا، لأن الخوف نفسه يمسي ضروريا، كطقس مثالي للسرد والتأثر، كشأن العروض السينمائية التفاعلية المتطورة، التي تخضع المشاهد لتأثيرات خاصة تجعله يشعر أنه جزء من العرض. وذاك أن الخوف ثيمة حاضرة في المشاهد والجمل السردية وأنفس شخوص قصص كتاب، لعبة القفز من النافذة، شأنه شأن الحلم، والأمل والفقد. حتى قلوب الرجال لم تسلم من الخوف. الخوف خلفية ضرورية لتحفيز ذلك الشعور باللاطمأنينة الذي نحتاجه كقراء لكي نتفاعل مع القصص. غالبا ما سوف نتعاطى هذه المسرودات ونحن نعلم أن ثمة في الخارج ليل ومطر ونباح كلاب. ذلك المشهد الخارجي، سوف يهجم على المشهد الداخلي في جل النصوص، ويبعث في أجوائها القلق، مما يرغم المتواجدين في الأماكن الداخلية على الخروج، ولأن الخوف متربص بهم في الخارج، وقد يقتحم أبوابهم على شكل جنود محتلين غاصبين، أو أخ يتربص بأخته كي يثأر لشرف العائلة، أو زوجة رجل لا يكتفي بامرأة واحدة، تريد أن تتعرف كل اللواتي يخونها معهن، ثم تتظاهر أنها متصالحة مع هذا الواقع، في مشهد نادر يكون فيه جمال المرأة شبيها بتهمة جاهزة على مقاس تملق باطل، حيث تسمى المرأة حبيبة، ثم تسقط عنها صفة الحبيبة لتكون عشيقة أو زوجة أو مطلقة، وأنها قد تقبل بالكثير من التنازل خضوعا وتحايلا على فقرها وعلى الرجل الذي ينفق عليها، ليتصدر الفقر الواجهة بشكل سافر مهين، مؤكدا أن ما يهم بطلة القصة هو الخبز، الخبز نفسه سوف يعلو واجهة نص قصصي آخر فيكون عنوانا له، الفقر سوف يحول رجلا كادحا مقهورا إلى مجنون تطارده الأرانب، ثم لا يجد بدا في عز تصادمه مع السلطة غير الإحتجاج بشكل صادم غير متوقع، الفقر سوف يضع مدرسة تعشق الكتابة في جو عدائي رهيب يضطرها للخروج لمواجهة مخاوفها كما أنها تحولت رجلا، الفقر يضطر مُدَرسة أخرى على اختيار نوع حذر جدا من السقوط، ويرغم أم شاب مقعد على السقوط أمام عجلات السيارات، في تداخل بين ما يمكن أن يسمى عملا، فتزعم المتسولة أنها تذهب للعمل، العمل في جل حالاته قد يبدو تسولا، حتى حين يتعلق الأمر بموظفة مرنة تحلم بالألفة، أو نادلة أو مهربة سلع أو شرطي، الفقر سيتخذ هيأة الحرمان فيُلجأ امرأة تشعر بالوحدة إلى نصب شباك ناعمة لصيد رجل ما، بينما تنتظر أخرى هذا الحب عمرا وقد لا يأتي.

لا يبدو أن هدى الشماشي تميل للرفق بشخوصها، أو تخليصهم من سوء مصائرهم، عبر اختلاق حبكات مفتعلة، تشبه حبكات الأفلام، وذاك أنها ليست كاتبة مخادعة، فمن أسمى غايات إبداعها الصدقَ، الذي يُشعر القارئ أنه بين يدي كاتبة لا تملك حلولا لهذه الوقائع الصعبة الشبيه مصائر أبطالها ببعض شخوص ( عبد الرحمن مجيد الربيعي وبول أوستر وغابو وستاندال ) الذين يندثرون أو يتبخرون، يتبخر أحدهم في، حكايات الغابات والنسور، أحدهم يشبه ( كازيمودو ) أوالمسيح، مسكينا يظهر في قصة، الموز، مثل صفعة على قلب من يعارض المشيئة الإلهية، رفضا للإناث، في عالم يتعنف رجاله على زوجاتهم، فيحاول أهوج أن يستولد عاقرا بالقوة، وينتهك آخر عروسه عنفا، وساذجة تصرخ في وجه معاقبها على ذنبه، – هل ستخدع الله أيضا؟ وأخرى تأخذ كامل زينتها قبل أن تهوي من أعلى، وثالثة تستقبل لعنتها الموروثة خارج الإدراك بالضحكات. لكن ولأننا نقرأ لكاتبة عبقرية، فإنها لم تغفل عن طرح الحلول بشكل ناضج متزامن مع الواقع. إن لم تجد الحل ذات ختام كما فهمته بطلة، لعبة القفز، فمعنى ذلك أنك لم تنتبه لما سبق، لأننا قد نمر أمام بعض الحلول ولا نتتبه، كأن نحذر فلا نورط قلوبنا منذ البداية، فإذا انتبهت ولم تجد، فتش أغوار نص آخر، لكن إياك أن تغفل أهمية العنوان، لعبة القفز من النافذة. حيث يتصارع ماهو داخلي مع كل ما هو خارجي. تخيل نفسك محاصرا في الداخل، واقفز من النافذة ما دام الباب مزدحما بالخطر، ثم تخيل أنك في الخارج وأن ما تحتاجه فعلا هو العودة إلى نفسك وأعماقك، ولأن الباب مراقب، اقفز مرة أخرى من نافذة السرد والقراءة والحكمة، وعلم نفسك مكاشفة الذات. فقد يكون الحل بداخلك، أما إذا كنت من الذين يريدون حلا للعالم كله، اقرأ قصة سيرة الأمير الأبرص، لتتأكد أنك تقرأ لكتابة عبقرية، عايشت عصورا شتى وكشفت مكمن الداء في حياة البشر، فثمة عطب وجودي، وكيف يسجن المبتلى به داخل صندوق، لكن الذي يقفز خارج الصندوق، سوف يغدو أقوى من عطب أُمَّة، ثم يفوز بشرف تغيير مصيرها.

ترى الكاتبة هدى الشماشي، أن العالم في أصله مؤلف من وقائع تتسم بالتضاد، وأن السرد هو ما يجمع بينها، مما يؤكد قيمته نسجا لخيوط صوفية أو حريرية، توفر دفء الحكايا، وتحقق الألفة والتآلف، عبر فعل التوليف والتأليف، فنعلم بهذا أنها مبدعة، تتواصل مع العالم من خلال القراءة والكتابة، وأنها سوف تخبرك برأيها في الحياة، في الوجود، في التاريخ، في الحب، في الزواج، في السياسة، في الثقافة، في الموت من خلال الكتابة.

ليس ضمن مهمتها تزيين الواقع، بل تزيين طريقة تحويله لحكاية، وأنها لن تنقد أبطالها، لكنها سوف تتقمصهم وهذا خيار أصعب، فتتماهى مع التي تحولت دخانا، وتحاور الذي لم يكن بشريا، وتحاجح كلبا يعبث برؤوس السجناء، وهو يقفز إلى مخيلاتهم. ولسوف يؤكد السرد العنيد المؤمن أن الانتصار هو ألا نستسلم مهما طالت المعركة، أن الرجل الذي يمارس القسوة على امرأته، هو بالمقابل يقسو على نفسه وينفي وجوده خارج دائرة التقدير، والمرأة التي أكرهت على الموت أو الدعارة أو العودة إلى بيت أبويها، كانت في الأصل محبوبة، وأن الحب الذي يقتل الناس يحييهم مرة تلو مرة تلو مرة في ذاكرة جماعية، تمارس رغما عنها فضيلة رد اعتبار المظلومين والمهمشين، حتى أن امرأة عادية سوف تتمنى لو أمكنها الموت من أجل الحب، لتنال شرف التواجد في قلب حكاية.

سوف تعرف من خلال هذا الكتاب، أن المحنة والخطر الخارجي الذي داهم نساء الزمن القديم وهن في قلب منازلهن، سوف يعود بأشكال مختلفة لكي يخرج نساء العصر الحاضر من قلب أحلامهن، وذاك أن الحلم يمكن أن يكون ملاذا، ويمكن أن يكون جحيما كما هو حال القصص، ثم تتأكد أن أكثر الطرق مرونة لبلوغ هذا المستوى الرفيع من التعايش، هو أن نمارس لعبة السرد وتبادل الأدوار والمواقع، مع مواصلة القفز لإثبات الحضور بكل ما أوتينا من معرفة وجُرأة جوارح.
…………………..
*هدى الشماشي، لعبة القفز من النافذة، قصص، الآن ناشرون وموزعون، عمان/ الأردن، 2025.

مقالات من نفس القسم