رجُلٌ داخل آلة الغسيل

عبد القادر وساط
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 عبد القادر وساط

1-
ذات ليلة، نامَ (س) في شقته، بجانب زوجته، وحين استيقظ في الصباح، وجدَ نفسَه في شقة أخرى، في سرير امرأة أخرى. امرأة غريبة، لم يسبق له أن رآها.

2-
نظر (س) باندهاش إلى تلك المرأة، وهي بجانبه في السرير. نائمة لا تزال. سمراء، فاتنة، شعرها المشعّث، بفعل النوم، يضفي عليها سحراً خاصّاً. كانت مثله في الثلاثين من العمر، أو دونها بقليل. وحين فتحَت عينيها ووجدَتْهُ في سريرها، لم تَرْتَعْ ولم تصرخ، ولم تسأله من هو ولا كيف دخل شقّتَها. كانت تنظر إليه بحنو، كما ينظر الإنسان إلى شخص يألفه. كأنها تعرفه منذ زمن طويل.
تثاءبت بعفوية ثم تمَطَّت، فهيّجَته وأراد أن يحتضنها، لكنها تخلصت منه بدلال، وهي تردد “ليس الآن، ليس الآن، ينبغي أن أذهب إلى العمل” ثم غادرت السرير شبه عارية، وبقي هو غارقاً في أفكاره وتساؤلاته.
لم يدرِ كم مر من الوقت حين رآها قادمةً بصينية الفطور وهي تبتسم. كانت قد ارتدت ثيابها وتزينت واستعدت للخروج. قالت له بصوتها الحاني:
-ستفطر وحدك هذا الصباح، لا ينبغي أن أتأخر عن موعد العمل.
وحين سمعها تغلق باب الشقة خلفها، أدركَ فداحةَ وحدته. انتابه الخوف، وشرع يتساءل عن سر وجوده في ذلك المكان، وعمّن تكون تلك المرأة، وحاصرَته الشكوك، واقتنع في قرارة نفسه أنّ الحل الأمثل هو مغادرة تلك الشقة الغامضة في الحين.
وعندما صفق البابَ خلفه، وهبط سلالم العمارة بأقصى سرعة، كان قلبه يخفق في أذنيه.

3-
قضى أياماً وهو مشغول البال بما حدث له في تلك الصبيحة العصية على النسيان. صار مسكوناً بتلك الفاتنة السمراء، التي تجلّت له في شقتها شبه عارية، وتعاملَت معه بلطف لم يألفه. داخَلَه ندم شديد على مغادرة شقتها بتلك الكيفية. لقد كانت لطيفةً حقّاً، ومتحمسة للعيش معه، فكيف أوجسَ منها؟ وكيف هرب من شقتها، كما يهرب الجبناء؟

4-
بقيَ يغالب شوقَه بضعة أيام، ولمّا غلبَه الشوق ولم يعد يستطيع صبراً عن الفاتنة السمراء، مضى لمقابلتها في الشقة المعلومة.
كان قد احتفظ بذكرى مبهمة عن العمارة التي غادرها راكضاً، وعن الشارع الذي توجد فيه العمارة، والذي تصطفّ في وسطه أشجار الكالبتوس الضخمة، لكنّه لم يجد الشارع ولا الكالبتوس ولا العمارة. شرع يسأل العابرين بإلحاح، فلم يسعفه أحد منهم.
وعندما أوى إلى سريره في الليل، كان الأمل الوحيد المتبقي لديه، هو أن يتكرر الحدث الخارق، وأن يستيقظ مرة أخرى، في سرير المرأة السمراء.

5-
حين صَحَا، في صباح اليوم التالي، وجد نفسه من جديد في شقة أخرى، في سرير امرأة أخرى، لكنها لم تكن هي الفاتنة السمراء. كانت امرأة شقراء، مكتنزة، بيضاء البشرة، رائعة الجمال، في الثلاثين أو دونها بقليل، وكانت هي أيضاً في منتهى اللطف والهدوء. لم تستغرب لوجوده بالقرب منها، ولم تسأله عمن يكون ولا كيف دخل شقتها واقتحم سريرها، ولم تتضايق من كونها عاريةً تماماً بجانبه. وكان قد عزمَ على احتضانها، حين تناهى إليه صراخُ طفل صغير، في الغرفة المجاورة، فانتفض خائفاً وسألها:
-هل تسمعين ما أسمع؟
عقدت الشقراء حاجبيها، ثم قالت له باستغراب واضح:
-ما بك؟ هل نسيتَ أنّ الصغير ينام في غرفته؟
كانت تتحدث عن الطفل بعفوية، كأنه طفلهما معاً، فانتابته المخاوف، ورآها تغادر السرير غير آبهة بعريها، ثم ترتدي فستاناً شفّافاً، وتمضي إلى غرفة الطفل، وشعر بانجذاب لا يوصف إلى جسدها المياس، لكنه كان يدرك جيداً أنّ والدَ الطفل قد يأتي في أية لحظة، فاقتنع بضرورة الهروب من تلك الشقة دون إبطاء.

6-
تلاحقَت الأحداث الغريبة، الخارقة، في حياة (س)، خلال الأسابيع التالية. صار يجد نفسه، كل صباح، في مكان مختلف. ينام الليلَ في شقته، بجانب زوجته، وحين يصحو، يكتشف أنه في مكان آخر، لا عهد له به. لكنه لم يعد يستيقظ في سرير امرأة غريبة، كما حدث في المرتين الأوليين.
فأحياناً، يجد نفسه وحيداً في غرفة كئيبة، بأحد الفنادق، وأحياناً أخرى يكتشف أنه في مكتب أحد المحامين، من أجل قضية مبهمة، أو داخل سيارة من سيارات الشرطة، أو في مختبر للتحاليل الطبية، أو في صف طويل للحصول على فيزا شنغن، مع أنه لم يفكر قط في السفر إلى الخارج.

7-
في إحدى المرّات، استيقظ (س) في الصباح، فوجد نفسَه راقداً في المستشفى العمومي، بجناح القلب والشرايين.
أخبرته الممرضة رحاب أنه أصيب بنوبة قلبية، خلال الليل، وأنه نجا من الموت بأعجوبة، ولكنه لم يصدق شيئا مما قالته تلك الممرضة الحسناء. لقد قضى ليلةً هادئةً في شقته، ولم يفهم كيف جيء به إلى هذا المستشفى. وحين لاحظت الممرضة اضطرابه، قالت له:
-لا تشغل نفسك بهذه التفاصيل، سترهق قلبك بلا طائل.
قال (س) بأدبه المعهود:
-سيدتي، أنا لا أعاني من أي مرض. لقد قضيت الليل نائماً في بيتي، بجانب زوجتي، أنا أعي جيداً ما أقول، وحتى الحلم المزعج الذي رأيته في نومي، في تلك الليلة، لا يزال واضحاً في ذهني. فقد رأيتُ أنّ جسدي تضاءل، وأنّ زوجتي وضعَتني داخل آلة الغسيل، مع باقي الملابس، ثم قامت بتشغيل الآلة، وتركَتني أدور بداخلها والألم يهصرني هصراً، دون أن تكترث لمصيري!

8-
ضحكَت الممرضة رحاب طويلاً، حين حكى لها (س) حلمَ آلة الغسيل. قالت إنها تحب الأحلام الغريبة، وتحب طريقتَه في الحكي، ووعدته أنها ستعود إلى غرفته، حين تجد فسحة من الوقت، كي يحكي لها حلماً آخرَ. وهو كان مسروراً بذلك، رغم التعاسة التي كان يشعر بها، بسبب إدخاله القسري إلى ذلك المستشفى.

9-
حين عادت رحاب لغرفته، حكى لها حلمَ الحانة، التي ارتفعت بزبائنها إلى السماء، في عز الليل.
لقد كان السكارى، وهو من بينهم، في غاية السعادة. كانوا يطلون من نوافذ الحانة ويرون أضواء المدينة تنأى، بينما الحانة ترتفع بهم شيئا فشيئاً في الفضاء، وهم يشربون ويغنون بلا انقطاع.
كانت في ذهنه أحلام أخرى كثيرة، لكن رحاب لم تكن تملك الوقت الكافي لسماعها.
هو أيضاً كان يشعر، في حقيقة الأمر، بشيء من التعب، مع ألم غامض في الصدر، جهة القلب. كان ألَماً يشبه الوخز المتواصل، لكنه قرر أن يكتم ذلك عن الممرضة وعن الأطباء.

10-
بعد ثلاثة أيام بالمستشفى، عاد (س) إلى بيته مسروراً بحريته المستعادة، رغم الألم في الجهة اليسرى من الصدر. كان مقتنعاً بأنه ألم نفسي، ناجم عن إقامته القسرية بمصلحة القلب والشرايين.
عند عودته، لم تسأله زوجتُه عن سبب اختفائه. وهو لم يكن ينتظر منها ذلك، على أية حال. كان مشغولاً فقط بالممرضة رحاب، تلك المرأة الجميلة، التي تحسن الاستماع إلى حكاياته وأحلامه.

11-
في اليوم التالي، قرر أن يمضي وحده إلى المستشفى للقاء الممرضة، غير أنه أحس بعياء غير مألوف، ووجد نفسه عاجزاً عن الخروج.
تسارعت نبضاتُ قلبه، بكيفية مفاجئة. تفصّدَ من جبهته عرق بارد، ثم بدأت أطرافه تختلج بعنف شديد، وبعد ذلك همد جسمه تماماً وكفّ عن كل حركة.
وحين جاء الطبيب، بعد اتصال هاتفي من الزوجة، ارتسمت على وجهه ملامحُ الأسى. كان (س) قد مات.

12-
مباشرة بعد انصراف الطبيب، فتح (س) عينيه وأخذ ينظر حوله بفضول. لكن الزوجة، من فرط كراهيتها له، لم تخبره بأنه ميت. لم تكن تريد له أن يعرف للراحة طعماً.
أما (س) فقد كان مقتنعاً تماماً بأنه استعاد عافيته، بعد تلك الوعكة العابرة.
بقيت الزوجة تراقبه في صمت، وهو يرتدي ملابسه ويستعد للخروج.
هي لم تكن تعلم أنه ذاهب لرؤية الممرضة رحاب.
وهو لم يكن يدري أنه ميت.

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

كفّارة

reda saleh
تراب الحكايات
د. رضا صالح

عجيبة