جيهان عمر.. الرائي يبوح بما لا يرى

gihan omar
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الوهاب عبد الرحمن

“اجعلني كخاتم على قلبك لأن المحبة قوية كالموت”

– سفر نشيد الإنشاد –

ما إن انتهيت من قراءة ديوان الشاعرة جيهان عمر “أن تسير خلف المرآة” رأيتني أمام المرآة وخلفها أتأمل في إشكالية التوحد في داخل الزمن وخارجه في آن معاً بين وصل وفصل لتجربة بين شاهد وغائب فأنا “المُلاحِظ والمُلاحَظ أيهما فينا الحقيقي”.

والعنوان بتشبيه دريدا هو الثُريا لأنه “يعلو النص ويمنحه النور اللازم لتتبعه” والعنوان هنا امتلك قدرته على التغاير والتحول المستمر مما بدا وكأنه أحجية لا تنبئ بحل أو هو نوع من العزاء اقترحته الشاعرة لنفسها وقرائها، وفي ملمح اشارى يدعو إلى كره الحياة حبا بالموت لأننا وجود مهدد بالفناء نعاني شقاء الوعي ونحن أمام مفترق طرق فاقدين لإرادة الإختيار ونحن نواجه مصائرنا .. وللمرآة في المعجم الصوفي دلالات تشير إلى ما وراء المرئيات بما يفوق مدركاتنا الحسية بإتجاه مثيرات مبهمة لا وجود لها في الواقع واختيار الشاعرة لمكان ” خلف المرآة” لا يعني إلغاء ما هو “أمام المرآة ” بل هو إلتباس شعري أرادت أن تحقق فعل ” الأنزياح عن المألوف والذي يُعد خاصية شعرية وبمقدار ما يكون الإنحراف في النص تكون شعريته ” على رأي كوهين، ولكن ما سعت إليه الشاعرة جيهان عمر هو أبعد من هذا التصور الشعري المجرد بكثير، وهو أن تضعنا معها في مكانين لا يلتقيان إطلاقاً فهي تنتزع من المستحيل ممكنات نصية تتجاوز المحسوس الذي يتحدد بإنعكاساته اللحظية التي يستهلكها الوعي حال وقوعها، أما الجرح الذي خلفته الصدفة العمياء والذي أخرجها من دائرة الذات إلى منحنى أفقدها الأثر الكوني لتعيش دوار وحدتها القاسية تسفح دماء روحها على الورق وكأنها تنبأت بحدس الشعر احتمال الفقد قبل وقوعه حتى استحال قلبها إلى مرآة تتراءى فيها أشباح الواقعية بشواردها (غرائبها ونوادرها) قبل أن تغادر صمت الصدمة لتحرق أوراق ذاكرتها بكل ما هو حاضر مؤثر بغيابه.

وبكل ما هو “يشير وما يمحو في الوقت نفسه” هذا التضاد هو ما أبقى عليها تعلقها بالآخر الفقيد وهي تحرره من واقعيته بالمتخيل الذي يلتقي بالحلم في حالة تجريد جعلت منه الشاعرة مركباً قدمته قربانا للشعر بالحلول أو التوحد بكل ما هو مقدس فالبعث الروحي هو ما أرادت تجسيده شِعراً بعد فناء الجسد، ولذلك جاءت أغلب مقاطع نصوصها ملتبسة متغيرة بما يتواءم مع تقلباتها الإنفعالية مشحونة بتجربتها الذاتية لترى أبعد مما تسمح لها الرؤية متماهية مع زمنه الذي لا تريد مغادرته إلى زمنها وهي تغرق في اللامحدود تصور انعكاسات لدواخل لا متناهية لا تظهر في المرآة، فهي الشاهد الوحيد التي ترى ما لا يراه غيرها وهي تسير خلف المرآة، لأنه الآن لا يُدرك إلا كأثر، وهي بشاعريتها الآخاذة تختزل المرئى أمام المرآة باللامرئي خلفها، هذا الفبض القلبي الذي تتجلى فيه وعنه غيرية التعبير بحثاً عن ظلال صورة كانت متحققة في المرآة وحين كُسرت اختفت الصورة، تلاشت بظاهرها وأبقت ما هو جوهري يستقر في جسد آخر ليقدح نوره من جديد في بصيرة من أُحب، والمحبوب يتجلى في صورة من يحب:

“كنت أبتعدُ

 إن أردتَ المشهد كاملاً

 مع البيوت التي تملأ الخلفية

اقتربُ .. ابتعدُ

حتى اتقنت المسافات

بيني وبينك

أما الآن فتقاعدتُ عن العمل

واتسعت المسافة

التي ثبتها طويلا

صرنا بين عالمين

والمسافة

حقل ممتد

من يرتعش ضوؤها

قبل الفجر بقليل.”

في النص تراوح مقلق بين إحساس تتجاذبه مسافات تتلاعب بين أمكنة فقدت أثرها المألوف ودفعت إلى إغتراب حاد شكّل أسبابا لدوافع لا شعورية ترمي بأصدائها في فضاءها الأثير، تبثُ فيه لواعجها فالمرئي السري الذي لا يبوح إلا بما لا يراه، لأنها تعيش تجربة (إحلال) ينعدم فيها الكشف في وجود تراه هو اﻵخر فضاء سري مغلق (أنا هو) ولكنها فقدت هذا الكيان حين داهمتها موجة صمت مريع اتسعت فيه المسافة و”صرنا بين عالمين ” لم تعد نفسها التي كانت بل صورة فقدت ملامحها وحلت في أعماقها حلول القدر الذي أرغمها على النطق والصمت في آن معاً.

وفي نص ” براويز ” إدراك لفكرة الخلود ولكن بإحساس مغاير لمعنى أن تفنى الأشياء باستدراك شعري يترك آثاره في النفس وقد يبعث على السأم:

“كأنك كنتَ تجرب فكرة الخلود

المثير للسأم

من كثرة ما صورتَ وجهي

وحبسته في البراويز

التي تحتضن وجهي

في برود

أم كنت تخطط أن تعود لغرفة التحميض

المظلمة

حينما أكون أنا خارج البيت؟”.

وبصرف النظر أن تكون ” فكرة الخلود ” له أم لها فهى “المثيرةللسأم” ﻷنها تعنى الفقد ﻷحدهما أما الصورة والبرواز فهى الوجود المختزل حضوره الصورى بالغياب “التى تحتضن وجهى / فى برود” النص شديد التكثيف كتب بأسلوب “اﻻبيغراما” كما فى أغلب نصوصها- بدافع التوتر الدلالى بين الكل والجزء وجمع التضاد. هذا التبتل الشعرى ﻻ يتأتى إﻻ لمن غيّبته صدمة الوجد ليصحو فجأة من سكرة الغيبة “ينطلق من الذات ويتعداها إلى الغير التى تشمل اﻵخر أو اﻵخرين كما تشمل الزمان والمكان” ويبقى اﻷسلوب الغنائى يحفّ بأكثر نصوصها حتى وإن أمتزج فيه (الذاتى والغيرى) وفى هذا النص يتجل اﻵخر فى الذات فى حالة تماهٍ تدعوا للوقوف مكان اﻵخر -على إستحالتها- فاقدا مكانك- فالحاجز يزول:

“تحت لوحة مقلدة “لميرو”

وعلى أريكة جلدية صفراء

حيث ركنك المفضل

 

يلمسك الزمن برقة

مثل ريشة

ويعبر بك إلى هناك”

ليس مثل الشعر تلتبس فيه المواقف والدﻻﻻت ففيه تتجاور الأماكن وتتقاطع الأزمان منطلقة دائما من محور الدلالة ” البؤرة التي تتشكل داخلها ” الأنا ” الذي يخاطب الآخر الذي يستمع ” بتعبير (لاكان) وفي هذا المقطع نلمس الفرق بوضوح بين روح التعبير ودلالة التجسيد:

” يلمسك الزمن برقة

مثل ريشة

ويعبر بك إلى هناك ..”

وهي تشعر بهوة الفراغ تستدرك (الهنا) الذي كانا فيه معا، والهناك ” خلف المرآة “:

” هكذا ودون أية مقدمات

خطواتك على الأرض خفت

غيرتَ صنف التبغ

هجرت المقهى

بات شرشفك الأبيض محكما حول جسدك

مثل الكفن”

فالشاعرة تتمثل المجهول ولا تتخيله لأنها تستدرك رموزه و أشياءه بوجود يتكون لحظياً بعيدا عن أي انعكاس واقعي فهي محاصرة بصورة وأخيلة تجمع فيها الما قبل بالما بعد، حتى أن مسافات الصمت اتسعت بما تثيره من أسئلة يحاول هو إثارة حوار صامت وكأنه يدرك أن الصمت صار هاجس الفراق:

كثرت أسئلتك

عن معنى الصمت في كفى

تشوشتَ أيضاً

تلك القضايا التي تمنيتَ حسمها

وتأرجحت كدمى مشنوقة”.

والفراق تحقق:

” هكذا ودون أية مقدمات

كنتَ قد غادرت

 قبل ستة أسابيع.”

وهكذا تستغرقها هواجس ” العود الأبدي ” الذي اجترحه الفيلسوف نيتشه الذي احتل عنوان إحدى قصائدها في الديوان ” عزيزي نيتشه ” تعاتب في نصها من لا يثقون به:

” إنهم لا يثقون بك

يرمونني بكرات الشفقة المؤلمة

أسقط مجدداً

كلما حاولت الوقوف

عزيزي نيتشه

لماذا لا يفتتحون صالة كبيرة

لألعاب ” البولينج “

ويتسلون في الليل

باللعب والغناء؟”

الشاعرة وقد ورثت مصابا ثقيلا جعلها وهي في عزلة أحزانها تتمثل أشياءً تفيض بنورها على مشهد مأساتها سموا وكبرياء أبت معها نفسها أن تُرمى ” بكرات الشفقة المؤلمة ” من قبل مَن ” يتسلون في الليل باللعب وبالغناء؟ ” وهي بين وصل روحي وانقطاع مادي أسلمها إلى توقف ” لتكرار اللحظة بكل ثباتها وصيروتها ” بحسب عزيزها نيتشه لتقول ما يقول ” فلتكرري نفسك إلى الأبد ” فاقدة الإحساس بالبداية والنهاية وتُمنّى نفسها الثكلى باﻻستمرار والتواصل في تجليات الشعر، عزاؤها الوحيد، تتفقد فيه ” سمها وترياقها ” برأي دريدا وفي لحظات تحتدم فيها المشاعر لا تستطيع إلا أن تستعيد تجربة وجودها معه باستحضار ما يعوض تجربة الفقد المريرة وبعض الأثر ما يشير وما يمحو في لحظة استحضاره، وهي في زحمة التذكر تفقد الأشياء دلالاتها وسط فيض من الوجود يتفجر في تلك اللحظة كلمات ولا كالكلمات، إنها أشياء تأتي من وراء الحياة مشحونة ” بالوعي الفردي بوجوده الآني ” بتعبير هايدجر، فلا حقائق بل آثار كانت قد تركت اصداءها البعيدة في أعماق نفسها:

زجاجة عطرك

التي استهلكتَ نصفها

تقف أمامي قي تحد غامض

أن نظرتُ إلى نصفها الفارغ

أكون متفائلة

حيث لامستك ذراتها

 

أن نظرت إلى نصفها الممتلئ

انقبض

إذ أنها لن تمسسك أبدا.”

وتبقى الشاعرة جيهان عمر بين الذاتي والغيري، تدور لتستأنف زمناً مقطوعاً إلا أنه مثار تفاعل حواري بين صور حسية تنقل لنا حالة يومية معيشية، تكسبها الشاعرة دلالة شعرية تفيض عذوبة وألماً و (عطراً).

فهي تقف بين مكانين، في مفترق طرق تبث حيرتها عبر المقصد الذاتي (منها وإليها) ساعية إلى التحول من ” وجود مغلق وصامت إلى حالة ناطقة ” كما يرى رولان بارت وثمة ما يحول دون تحقيق ذلك لغياب الآخر وتشظي وجوده في أشياء تدل عليه، ترصدها الشاعرة بدقة فائقة لتضعها أيقونات على صدر نصوصها بزخم شعري يسبغ عليها روحاً انسانية تضعف أمام ” تحد غامض ” زجاجة عطر ” اُستهلِكت نصفها ” تتنازعها دلالة النصفين الممتلئ والفارغ يفصل بينهما جرح يقلب المعادلة القديمة فالفارغ يحمل تفاؤلاً يشي بما كان حاضراً عكس النصف الممتلئ الذي يبعث على الإنقباض ” إذ انها لن تمسسك أبدا. “

وفي نص ” فرق توقيت ” تراوغ الزمن الذي تجمد أثره بفقدان دلالة معناه، ولكنها تبحث عن دلالة وجوده، معكوسة في علامات عابرة، هي ذات الصور ولكن يتم ترحيلها على نسق مغاير لمألوف المكان، فهي أبداً بين مفترق أزمان وأماكن وأصوات لأنها في غير مكانها وزمانها وأمواج الأصوات وكل ما يمكن أن تستدل به على ملمح يشي بحضوره:

” فنجان

هاتف

منشفة واحدة ..

والمعطفان المتلاصقان

داخل الخزانة

مازالا يحلمان بقدوم الشتاء

 

دعني أبحث في هذا الجيب القديم

ربما نسيتَ هناك أصابعك..”

ورعشة الشعر التي غالبا ما تختفى وراء ترميز يتعمده الشاعر أو يتكلفه، الا أن شاعرتنا مثل متلقي شعرها تُفاجأ بها كومضة قوية تغشي البصر قبل أن يتلاشى تأثيرها.

ولنتأمل ثانية في المقطع الأخير من النص:

” دعني أبحث في هذا الجيب القديم

ربما نسيتَ هناك أصابعك ..”

كأنها في حلم يسكب فيضا من ضوء يفتقد ظلاله.

غالباً ما أجدني وأنا أطالع نصوصها، أفتقد الحرية التي تمتلكها في اختيار اللون الذي تريد طالما هو أسود، فهو سيد الألوان في ازدواجية ما يثيره من انفعالات قد تجانب حقيقتها (الإنفعالات )، وهي تمتلك قوة الاحالات السلبية رافضة المرائين، فلا قصدية لغوية تقف قبل أو بعد القصيدة الشعرية، لرصد كل ما هو مخفي متوارٍ:

” أرتدي السواد

ألتصق في مقعدي

أنتظرهم..

أستقبلهم.. أودعهم

بوجه مهيأ لتلتقي قبلات المواساة

رغم نَمَلٍ خفيف يستوطن نصفه الأيسر”

هذا الإختلاج في نصف وجهها الأيسر حين يستقبل قبلات المعزين يتضاعف أثره ودلالته الآلية في: ” تلك الترمومترات التي جاءت لتقيس درجة الحزن “

ولا تزال الشاعرة في حالة بحث عن غرائب في ” اتجاه الليل “، رغم احساسها ” بحضوره في كل ما حولها ” ولكنها تبقى أبداً مسكونة بهاجس البحث مغمورة بالوحدة تتوهم أنها التوحد معه، هي ” خارج منطق الحواس المعاشة ” بالتعبير الصوفي، ترتد إلى اللاوعي تفزع إلى خفاياه بحثاً عن أصداء بعيدة تنبض مع ألمها تواسي جرحها وهي تراقب تفاصيل مشهد لا يراه غيرها:

“ملتصقة بفراش لزج

أراقب كدمات زرقاء

تبدو كسحب

تتحرك ببطء

في اتجاه الليل

أراقب

بينما يشيعون الآن جثمانك

ملفوفا بكتان خفيف.”

وفي التفاتة أريبة تضعنا:

” في مشهد نهار خارجي

قبل أن تنتقل الكاميرا ببطء

إلى المستشفى

وتقتحم غرفتي”

لا بد من متلقٍ مفترض للمشهد الذي قد لا يعرض الا على شاشة (مرآتها )، هذا الترميز لحالات يومية عابرة، ارتقت به الشاعرة إلى عوالم ذاتية بمتخيل استعار ميكانزمات السينما، فالكاميرا تتفاعل مع حركة انتقالات المشهد ظاهرياً بأيجاز وكثافة تعبيرية، ولكنها عاجزة عن النفاذ إلى الأعماق و”اختراق المسامات وتصوير العتمة ” تلك الأسرار التي لا تكشفها عدسات الكاميرا عمياء.

وفي نصها ” طابع بريد شفاف ” تريد الدخول في حوار معه تشعر بأنها غير ذاتها، الإنتقال من حقيقة الحواس إلى وهم الحواس فعل يتماهي بين وجود يفنى وعدم يتحقق:

” لم يفُتك الكثير

حدثتُ نفسي وأنا أبحث عن ورقة تليق برسالة أولى..

ربما نسيتُ أن أحكي لك عن جارتي الأمية التي دعتني

ذات يوم لأكتب خطابا لأمها المقيمة في ريف بعيد

سررت كطفلة لأن مهمات صغيرة تسند إلي

وضعت لي كوباً من عصير الفاكهة وجلست صامتة

(…)

قلتُ مرتبكةً:

لكن ..ما الذي تودين قوله؟

قالت: تحدثي عن الشوق وعن الفقد

علمت حينها أن الآلام واحدة

علمت الآن كم كانت مخطئة.”

تتذكر الشاعرة عبر تجربة تعزي بها نفسها ” أن الآلام واحدة ” هل هي تجربة شعور جماعي تصل به الذات بالكينونة.

أم هو مجرد “فريم” من شريط طويل، اشراقة أمل أضاءت بها طقس تأبين ترثي به حالها في إعادة تكوين لما بعد الصدمة / الحدث:

” رحلت انجيلا بعد ثلاثة أيام فقط من رحيلك، لبيت نداءك كصديقة مخلصة، أما أنا فخذلتك بإمتباز .. اخترت البقاء لأنني لا أحب ترك الأمور معلقة، أنسيتَ ملابسك الملقاة في الحجرة ونباتات الظل التي لم أسقها منذ أيام؟”

هل هي بصدد (عرض حال) اختارت له نوعاً من هذيان شاحب استعارت له أسباباً تمهد بها لطقس موازٍ أقامته لنفسها بعد ما سألته عن أسباب بقاءها بعد: ” هل تراها أسباباً واهية؟ “

وهي قد اختارت حسماً لكل أنواع الأسئلة، وهي إن أرجأته فلأنها اختارت لنفسها قدراً غير قدره، وتقدم له وصفاً طوباوياً لا يتأتى الا لمن هو مثلها، حالماً .. متأملاً راوياً لما لا يراه من عوالم فردية لا تصدر إلا عن إرهاص شاعر. متلبساً منطقة متفاعلاً متجاوزاً ” فالشعرضرورة وآه لو أعلم لماذا ” بتعبير جان كوكتو ..

” الحقيقة أنني اخترت لموتي قصة عادية، في يوم سأرتب المنزل ثم أذهب للنوم مبللة قليلا من أثر حمام دافئ، حيث سأرى حلماً جميلاً يحتوي مثلاً على بحر أزرق ومركب صغير على الشاطئ، أو ورود وجبال ورمال ناعمة، حينها سأخبر روحي برغبتي بالبقاء في هذا الحلم إلى الأبد. ببساط سيكتشف أحدهم الأمر في الصباح، وأنت تعلم بقية التفاصيل.”

ما هي الا أحد الوديان التي هامت بها الشاعرة وهي تستجدي منه اتفاقاً:

” دعنا نتفق الىن على اشياء اهم، كأن تتحول انت إلى يد ضخمة تحميني من الحوادث البسيطة على الاقل، فبل أن أسقط مثلاً من فراش ٍ صار كبيراً جداً مثل الصحراء وانا سراب يتضاءل كلما تقدمتُ في وحدتي، تستطيع ايضاً أن تقبل جبين أمي، تطمئنها بأن أثر الجرح سيختفي تحث إطار النظارة المربعة”

النص حوار بيني، تلويح للآخر من اعماق تخفي حالة استنفاد روحي، لأنها في فقده أقل مما هي عليه حضوراً، في عين المآساة، تراوغ العزلة والوحدة :

” أنا سراب يتضاءل كلما تقدمت في وحدتي ”

          لغتها محاولة لتجريد الألم بما يماثله ولكن أخف ثقلاً، تشوبه مرارة حادة نكاد نسمعها شهقات من أفواه كلماتها. يذكرنا بوصف لسيزا قاسم عن ” اللفائف المطوية التي إذا فتحت تتطايرت كلماتها في الهواء وكأنها لم تكن. ” مخلفة أثراً في النفس لا يزول. هو بعض من خطرات قلب مفعم بشجون ذكرى تتسع لأزمان لا قبل لها ولا بعد.

          رحلت انجيلا بعد رحيلك، وها هو ” بافاروتي ” يموت ليقطع الامل والرجاء:

” بجسده الضخم

 يتحرك بافاروتي بين الأثاث

حتى يصل إلى فراشك

ولأنه الوحيد القادر على ايقاظك

ولأنه الوحيد القادر على إيقاظك

مات

بعدك

بأيام”

قدره وفر عليه جهد أيقاظك ” مات بعدك بأيام ” لتهنأ أنت بنوم أبدي.

وفي المشفى الذي وجدته مسرحاً يحتفي بعرض تراجيديا الواقعة في فضاء لم يتم اكتشافه يطوي أوراق الأحداث ويستعيض عنها بأسئلة تتخلى عن اجابتها:

” من فعلها

من بدل الديكور خلفي؟

يتُ ممثلة

في سيناريو لم أقرأه من قبل

من استبدل ستائري الملونة

يلمبات النيون القبيحة

التي تركت وجهي قناعاً منعكساً

في مياه راكدة؟

 

لا أدري أي دور أُسند إلي

وسط جمهور لا يجيد التصفيق.”

مشهد تجاوز دراميا ما حدث والشخصية فيه تعيش إرهاصاً لما سيحدث وقد لا يحدث فهي لا تزال في غيبوبة التمني وفي لحظة تحول درامي أعقبت الذروة بإنتظار الإنفراج، الذي لن يأتي وأنا ” لا ادري أي دور أُسند إلي “.وتبقى نصوصها نوع من تراسل الحواس، موجات تبدأ بث أثيرها بومضة تشبه صدى لصوت قديم:

” انظر إلى الخاتم

الذي يحمل اسمك

افتقد شبيهه

الذي يحمل اسمي

من خلعه من بنصرك

وأنت في طريقك لثلاجة الموتى؟

ما يزال اسمك في إصبعي

بينما بنصهر الآن اسمي”

وفي عطفة سريعة في نص ” هروب ” ينتقل ذات الاسم في مفارقة مريرة من نقش على وجه خاتم مسروق إلى صوت يتعثر في صداه يبحث عن حروفه/ماهيته، هي ما تبقي من وجوده في تلافيف ذاكرة مجروحة تصارع النسيان:

” أدرب صوتي

على نطق اسمك

كي لا يبقى عالقاً بحبالي الصوتية

كقطعة غسيل متروكة في الشرفة

كقطعة غسيل تفكر بالهروب مع الهواء”

وفي مقاطع من نصوص متفرقة تدعو إلى التأمل كأن يكون” مقعداً بلاستيكياً عالقاً فوق شجرة” أو صورة تبحث عن ملامحها في زمن صنائع:

” الساعة القديمة المعلقة

تكتسي بطبقة ضبابية

ولكنني ألمح الوقت المختبئ خلفها

الساعة الواحدة وثلاث دقائق

توقف الزمن هناك..

رغم أنه لم يتجاوز الثامنة “

وكأني بها تشتغل على مسافات انفعالية يتعذر التحكم بها قربا وبعدا ولكنها بمهارة من اللاعب بتراكيب الكلمات وهي تتقارب بدلالاتها بألوانها بكل ما تشتمل عليه من شوارد وغرائب:

” الزيتون يسير على المائدة

وعروس البحر تجلس بغنج فوق المائدة المقابلة

تلهو بذيلها الذهبي

إلى اليمين قليلاً.. إلى اليسار قليلاً

عروس البحر

تلك التي أغوته

بأن الطعام هناك ألذ.”

تذكرنا بأوديسة هومبروس وعرائس البحر (السيرينات) وهن يجذبن البحارة بأصواتهن الساحرة التي لا يمكن مقاومة جاذبيتها.. والشاعرة أبداً في مفترق أزمان وأماكن وأصوات والأهم مفترق أوهام .. تحشد نصوصها الكثير من ديناميات اللغة في اتجاهاتها المختلفة وهي تتنكر لدلالاتها الساكنة في مواضعات لا تتناسب والجو المأزوم لأنها ” تدور حول نفسها دون أن تتسع له، [ الدلالة ] تحفر في مركز الدائرة، تنغرس في لحم المتلقي، تثقب وعيه بالحياة دون أن تقيم تصوراً معقولاً يعيه” بحسب د/صلاح فضل

        ودوننا هذا النص ” رغبات أخيرة “:

” العربة السوداء

تابوت يهرول متنكراً

Please

أغلقوا التكييف

العالم بارد.. بارد

أغلقوا المذياع..

أريد ان أنام

……

نامي..

نامي ملء جفنيك انجيلا

فليس لصوت فيروز

أن يزعجك بعد الآن.”

هكذا ترى الشاعرة أن العالم كله يعلن عن عدمه، أسود تتساوى فيه الأشياء، يرى ما لا نراه، ويحول دون أي تلاقي والعالم معه بارد .. بارد

انجيلا تريدان تنام … فلا صباح يعقب ليلها ولم يعد هناك صوت فيروز الذي يوقظ الأحياء وحسب .. تحيله الشاعرة إلى ترنيمة لموتى ينامون ملئ جفونهم..

وفي نص ” خطوات بطعم الفستق ” غرابة العنوان تفضي إلى صور دلالية تتشكل رؤاها بظلال تبعث على يأس يصور عزلتها وهي بأصعب مراحل تكوينها حتى تراها تماثل في غرابتها حالة (كلب ):

” ألعق وحدتي

مثل كلب

يتذوق

للمرة الأولى

طعم الآيس كريم.”

ثم تضعه في حالة أخرى تعدل حالتها، وهي تفقد توازنها تبحث عن تكوين يعكس ألم الفراق والشوق الذي يبرحها، والإنتظار والملل والسأم في دوامة:

” دورات

يدورها حول نفسه

ليلحق بذيله الملتوي

تنقل في سأم

من مكان لآخر تاركاً آثار أقدامه

بلون الأخضر الخفيف

الوحدة

أن تجف القطرات المتساقطة

بينما تتظاهر

أن بقاءها من اختيارك

الوحدة ..

أن لا تسمع صوت النباح”

بعض النصوص تحتفظ بأسرارها، تنغلق على نفسها في تماه مع الذات وهي تبحث عن ألفة تصلها بأي شئ يُشعرها بوجودها وهي في تقلبات انفعالية تعطي نصوصها ملامح أسلوبية تمتزج بين التجريد المغلق على دلالته والتعبرية التي تضع الشاعر خارج نفسه في اغتراب حاد يشوه كل ما يراه وصولاً إلى (التشيؤ) الذي لم يُعرف بعد، وكان بودلير بتحليل سارتر لشخصيته بأنه ” لا ينسى نفسه أبداً، فهو يتأمل نفسه عندما يتأمل الأشياء .. وهو ينظر إلى نفسه ليرى نفسه ينظر.” وهكذا هو الشعر الذي يرتد إلى اللاشعور لأنه تفعيل ذاتي للشاعر ” الإنسان الذي لا يدرك واقعه الا من خلال لغة شعرية ” بتعبير رولان بارت .. وقد نستدل من هذا النص ” على جانبي الطريق ” قدرة الشاعرة جيهان عمر على إقامة حوار تأملي مع الآخر عبر الذات يعكس رؤيا.

فهي لا يعنيها أن تؤرخ لتجربة حقيقية وقعت بقدر ما هي تتمثل آثارها في أسئلة وجودية تحيل إجابتها إلى نصوص تحتشد بكل ما يشير إلى غير دلالته ” فالنصوص [ الشعرية ] تشير إلى نصوص أخرى ” وبالتالي تُملي على المتلقي أنماطاً مختلفة من القراءة:

” حتى لو أدميتُ كفي

وأنا أصارع الأغصان المتشابكة

على جانبي الطريق

إلى عقلي

لن أرى أبداً نظرة لائمة

فقط

أمد يدي أمامك

فتقبلها

ماذا أفعل الآن؟                 

انا التي يساء فهمها دائماً.”

يحار القارئ وهو يجد نفسه يدور وسط مشاعر بهذا الاحتدام وهي تطفو بانسياب غنائي يتشكل بتكوين دال يُؤثر الشعر بتهويماته الموحية بما يثير من إنفعال يفوق الوعي كما تفعل الموسيقى بالروح .. ويحضرني وصف ل (ستيفنسن) للشعر بأنه ” شئ رفيع مكون من هواء “. هكذا نجد تجربتها تكتسب بعداً كونياً، فالشعر يجرد الأشياء من زيفها، يغربها، بمنحها خصوصية التأثير وحياً لا فهماً، تحقيقا لتجليات لحظوية تنثال قطرات من ” سراب اللغة ” فالشاعرة تفارق ذاكرتها لتدخل في جدلية يتسع مداها وترتاد عوالم الصمت لاستنطاق المجهول / الجرح:

” كأن “هم” موتى قبل الموت!

صرخت وسط الموتى :

من ” هم ” الناجون من الموت؟

فكان الصمت، عوض الموت، ما أجابني.”

المقطع للشاعر زووي كاريلي، ولكن صمت شاعرتنا يختلف لأنه مشحون ب ” جرح صائت” صداه في القلب شعر، ودوننا هذا المقطع من نص ” تلقين “:

” قل له ان المشهد الختامي

لم يكن تصوراً وكلاسيكياً

لنهاية تراجيدية

بل ان صرخات زوجتك

_بالنسبة لجسدك الأثيري_

لم تكن سوى ذبذبات

معلقة في الفراغ.”

وفي نصها ” أشياء لن تحدث ” تبدو وكانها روح تتقمص وجوده في أعماقها، فلا تريده ان يفنى بدونها فهي معه في حركة تناص مضمر يصعب كشفه، يتناوب بين ظهور واختفاء غيابه المفاجئ يتنافذ مع روح نصوصها محتلاً ” مركز الثقل الدلالي والشعوري فيها ” بتعبير الدكتور صلاح فضل، ولنتأمل في دلالة هذا النص هذا التجلي:

” لن تشيخ عظامنا معاً

لن ترتعش يداك المعروقتان

وانت تصور نقطة

لطائر يشرب من النهر في لمح البصر

لن تتوقف عن التدخين

لن تذهب إلى بيروت ..

لن نستعد للموت معاً.”

كأننا بها تعاني هاجس الموت في غياهب الحياة أو قد استقر في وجدانها ان لا شئ يحدث بعد الموت بعد أن حدث قبله .. فالروائي ساراماجو يدعونا في روايته (انقطاعات الموت) إلى محبة الموت بعد أن وصفت روايته بأنه ” ملحمة في مديح الموت “.

وفي مقطع من النص ذاته تتفاعل مع إرهاص درامي:

” كأن تعلن المضيفة

عن قرب سقوط الطائرة

فنتبادل اعترافات بلهاء

كأننا في فيلم رومانسي ردئ

أو تفضل الموت بسر كبير

يعرفه المشاهدون كلهم

إلا البطلة التي تجلس بجوارك.”

في خاتمة أغلب نصوصها تعرف الشاعرة كيف ومتى تقف في انعطافة حرجه فاتحة أفق التوقع لمتلقي شعرها. الذي يخدع ببساطته وعيناً، ويضنّ علينا بالكثير من أسراره التي تبدو هي أيضاً جلية مكشوفة ..

في نص (رافي) يلغي الزمن نفسه على غير إرادته ولكن يترسب في النفس شئُ منه لأنه يصدر عن اعماق عراف ماهر في لوي عنقه:

” نعم

رأيتَ شيخوختك

بنفسك

الهندي

الذي تجاوز الثمانين

امسك بيديك قائلاً :” عزيزي انت لا تشبهني فقط

بل أنتَ أنا “

ارتكبتَ وقتها

وداريتَ خوفك بابتسامة

لاتخف

بفرشاة صغيرة

سيأتي النور

ليرسم عينيك من جديد.”

بين الممكن والمستحيل تضع الشاعرة قارئها الذي هو ” مصدر الدلالة ” برأي رولان بارت ليرشح الممكن من المستحيل او العكس .. (لقد رأى شيخوخيته بنفسه) أما الشاعرة وهي هنا في مفترق زمنين ووجودين وكأنها تواجه السؤال بذات الصمت الصائت (أن تكون لوحدك أو نكون معاً) أصبحت في حالة نزوع إلى التكامل الروحي بين ابتعاد والتقاء في فضاء مجهول يحتشد بتجليات كاشفة لمعنى الصفاء والضوء وهو ” أن ترى بعين غير معتمة كل الظلمات ” بتعبير كازنتزاكي … وفي نصها التالي اشارات ” كذرات ملح ” :

” وإذ تفوح رائحة التحلل

لن أخاف ستزول قريبا

ما ان تهدا تدريجياً

حركة الدود في داخلي

سأشعر بسكون أحشائي

الملتفة حول نفسها

ثم يسود الظلام

ظلام طويل

وصمت

ها أنا أجذب السماء نحوي

فتقترب النجوم

تقترب

كذرات ملح على شال أسود

كلما أحكمتُه

حول كتفي

 ذاب الملح في جسدي.”

تطالعنا الشاعرة بصورة صادمة مريعة، تتماهي مع كوابيس ما بعد الموت وقبل الغرق في العتمة والصمت ورائحة التحلل و ” حركة الدود في داخلي ” وما تبقى من حلاوة الروح، تجذب السماء نحوها فتقترب النجوم ” كذرات ملح ” تعكس يلوراته الضوء على صفحة سماء ليلية سوداء بلون الشال الذي ” كلما أحكمتُه حول كتفي

ذاب الملح

في جسدي. ”

هل قصدت بالملح خلاف العَذب؟ بدلالة اللغة ام بدلالة البوح السري الذي يكمن في تضاعيف أكثر نصوصها عبر لعبة التصادي بين واقع حدث ووهم يضاعف أثره بمرارة استعادتة لتجد نفسها مسكونة في ” بؤرة مزدوجة ” توهم بأنها خارج الحدث وفي ذات الوقت ضحيته ” ذاب الملح في جسدي “.

وقد تلتحف الشاعرة تجربتها مع ذاتها وهي في لحظة تحول تتحرر عندها رؤى تتشكل من أوهام تتحاور معها بصوت الآخر الغائب:

” في أي منطقة

لونت الدماء

قميصك القطني

القميص

الذي انتقيتهُ

في الصباح

ليصلح رداء للموت

في أي منطقة

من الصحراء وضعوني جانباً.”

تحيل ” المنطقة ” إلى مكان اثيري يبث موجات المشهد وهو يتسع لكليهما وهي تحت سطوة هاجس الفقد تقاوم وجع الفراق وقسوة الوحدة وهي تشهد أصداءها في صورة انشطار تتفلت من ذاكرتها ” أجنحة تحلق فوقي ” ولنتأمل ملامح هذا المركب الذي يتعاكس مع مرموزات تتخطى أثرها اللحظي إلى كونية تتحكم في بنية نصوصها وهي تقتفي أثر هذه اللحظة التي تشظى بها كيانها وفقد وحدته وتكامله وداخله غموض وإبهام جعلها تنحو إلى التجريد بكل ما يكتنفه من إشارات صوفية تملأ فضاء نصوصها بظلال وجدانية تتلبس روح المتلقي وهو يرتقي معها إعلاءً وسمواً في منفى حزن ترتفع به إلى منزلة القداسة، يذكرنا بحزن (بينلوب) وهي تحرص على إدامته ومحاورته مع خيوط بساطها وهي تغزل وتنقض ما تغزل، وشاعرتنا في غيبوبة الصدمة ترى :

” شبكة عنكبوت رقيقة على وجهي

تراقب أجنحة تحلق فوقي ..

بينما أركض وحيدة

إنه أنت

تحلق متحرراً

من تلك الصحراء.”

ولكنها لن تغادر المكان، تأبى إلا أن تعيد غزل ملامحه الغابرة، تتقصى أشياؤه وما تبقى من آثارها في (رمال متحركة) :

” بعد أشهر

أرجع إلى المكان نفسه

ربما أراك

منحنيا

تبحث في الرمال

عن عدسات ضائعة

لكن الرمال متحركة

تبتلع العلامات

وأفدامي ..

ليس سوى يافطة صغيرة

تؤكد أن القاهرة تقترب

بعد كيلو مترات قليلة

كم كان البيت قريباً

بنصف ساعة فقط .. كم كانت تكفي

سآتي بعد سنوات

بصحبة أركيولوجي

لتعثر على ضفيرة واحدة محكمة ومرنة

ربما يخبرني

لماذا يبقى الشعر وحده

طويلاً

مقاوماً الفناء؟”

اليأس هو من يدفعها إلى التحليق عبر موجات هوائية، وهو القدر تلتمس منه ” العود الأبدي ” في أحلام (نيتشه) كما أسلفنا وتهيأ للعودة نذوراً شعرية بلا زمان أو مكان أو أثر حبيسة عتمة اللحظة حتى ولو امتد بها زمن التأبين :

” ثلاثة أيام

سبعة أيام

أربعون يوماً

ثلاثة أشهر

ستة أشهر

سنة كاملة

 

الحداد

 أن لا أضع طلاء للشفاه.”

هذا هو التقليد تعرض فيه مشاعرها في زمن حزنها ومسلسل حفلات التأبين عرض للغرباء، حداد يحظر فيه ” أن لا أضع طلاء للشفاه “، لتعود بنا في مقطع آخر استحالت الأعراف إلى أوراق أرشيفية في مكتب قديم :

” الأوراق تصنع

كومة

كومتين

الأوراق تحجب الهواء

أطرافها المبرومة

تثير الريبة

الأوراق تتكاثر وتعلو من حولي

كناطحات سحاب

تغوص أظفاري

تعود ملوثة بالغبار.”

روحه الهائمة، تطوف في الأماكن أوراقاً ملوثة بالغبار، ذاكرة في صندوق الأرشيف، هو الآن غير نفسه وهي وحدها القادرة على تمثل وجود له يكون لها أو بها أو هي تكون له أو به فهو الغائب وهي الشاهد. 

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم