أفين حمو
تجلس إلى مائدتك، تشعر بفراغ غير مرئي، وتهزّ الكأس التي أمامك قليلاً، كما لو أن السكون هو الجواب الوحيد الذي تعوّدت عليه. في مكانٍ ما، يتناثر الملح على الزجاج، وتمر اللحظات بحذر، وكأنك في انتظار شيء ما ليس له ملامح واضحة. هل هو الزمن؟ أم هي الذاكرة التي تعيد ترتيب صورها؟ أم هو القلب الذي يهيم بين أسئلة لا تنتهي؟
في هذا الكتاب، ملح على المائدة، لا يقدم لنا سمير الفيل قصصًا تختتم بتفاصيل منمقة أو نهايات مرتبة. بل يُعيد لنا طعم الحياة كما هي: مرٌّ، حلوٌ، ولذيذٌ في ذات الوقت. نحن أمام مجموعة قصصية تضم تقريبًا 56 قصة قصيرة، ملح على المائدة تأخذك عبر 160 صفحة من الغموض والبحث العميق، حيث تتداخل الأسئلة الفلسفية مع التفاصيل اليومية التي يمكن أن يتجاهلها البعض، لكنها في جوهرها جزء لا يتجزأ من تجربة الإنسان الحقيقية.
العنوان نفسه ليس بريئًا. هو في عمقه يحمل طابعًا من القسوة، مثل الملح الذي لا يجمّل بل يكشف ما تحت السطح. الحياة، كما يكتب سمير الفيل، لا تهدّئها الرقة، بل تحترق في جوفها الأيام المرهقة، وفي قلب كل حكاية يقف السؤال الذي لا ينفك: هل يمكن للحياة أن تكون هكذا؟ بسيطة، ولكن بعذاباتها العميقة التي تظل خالدة؟
في القصة الأولى بعنوان عن الحب والملح نجد أنفسنا أمام رجل يواجه الحب الذي لم يذبل بعد، لكنه ضائع في متاهات الزمن وتأجيل المواعيد. الهمسات التي يحملها النص تتجاوز الكلمات نفسها، والملح هنا ليس مجرد بهار، بل هو الرمز، الحامل لكل الفقد، لكل الخيبة، لكل ضعف الإنسان أمام قدره. يبدأ الكاتب قائلاً: “كثير من الملح يفسد الطعام، القليل منه يصلحه”، ولكن سمير الفيل لا يكتب عن الطعام، بل عن الذاكرة المأساوية، التي قد تكون جرحًا مفتوحًا في قلب الحياة. القصة لا تفرط في العاطفة، بل تترك لنا مساحة واسعة للتأمل، والبطلة “مونة” هنا، تظل غائبة في جسد الرواية ولكنها حاضرة بكل ذلك الحضور الغامض في الحب، فهي لا تُرى، لكنها في كل لحظة في داخلنا. تذكّرنا القفلة بأن الحب في هذه القصص ليس نقيًا أو بريئًا، بل هو ذلك الجرح الذي لا تبرأ منه الأرواح.
وفي قصة “السيارة”, حيث يصطدم الواقع بالسخرية السوداء، نرى الموت كحدث عابر، يدخل في إطار الحياة اليومية. رجل يُدهس في الشارع، ولكن تفاصيل الجريمة تأتي عبر الجرائد، التي تخلط دماءه بأخبارٍ عن البورصة وكأس العالم، وكأن الحياة لا شيء فيها سوى الأرقام التي تختلط مع الحزن. هنا، ينسج الكاتب بمهارة بين الواقع والرمزية، ليصبح الحدث ليس مجرد مأساة فردية، بل انعكاسًا لواقع عابر، لا يعبأ بالموت أو الحياة، بل يظل كل شيء فيه قابلًا للنسيان. القفلة، بتلك اللمسة السوداء، تتركنا مع غصة: “في الطريق، أمسك المسعف بورق الجرائد، كشط الدم المتجلط، وقرأ فيها برج الحوت: ‘مكاسب قادمة في الطريق، وعمر طويل. لا تهتم بكلام الناس’.” هذه السخرية اللامبالية تذكّرنا بأمر واقعنا البائس الذي لا يرحم.
ثم تأتي القصة التي تحمل عنوان المجموعة “ملح على المائدة”. تلك التي تكاد تكون تجسيدًا رمزيًا لفكرة الكتاب بأسره. جلس البطل أمام مائدته، وقد شعر بنقصان، كأن شيءً ما مفقودًا. فما الذي يجعل الملح مهمًا؟ ولماذا هو دائمًا حاضر في كل حكاية؟ فحتى في مائدة الحياة لا يمكن الاستغناء عن هذا العنصر البسيط والمقدس. حين يبدأ البطل برش الملح على طعامه، يبدأ بالتساؤل عن تلك الأشياء البسيطة التي هي جوهر الحياة نفسها، تلك التي نأخذها مسلمات، دون أن نتوقف عندها، من دون أن نتساءل: ما الذي يجعلها جزءًا من كل شيء؟ الملح هنا ليس مجرد بهار، بل هو حياتنا كلها: علاقاتنا، ذكرياتنا، وأوجاعنا. في النهاية، يقول الكاتب: “في حياتنا يوجد أناس لا يمكن الاستغناء عنهم، حتى لو كانوا ملحًا خالصًا.” في هذا التلميح، يُرسل الكاتب رسالته العميقة عن أولئك الذين يعملون في الظل، أولئك الذين يقيمون الحياة كما يقيم الملح الطعام: دونهم، يصبح كل شيء فارغًا، غير كامل.
وفي القصة الأخيرة “قسم وأرزاق”, تظهر لنا التوترات النفسية الاجتماعية في أسمى صورها. الرجل الذي يتخبط بين شعور العزلة والإحباط، بين الزواج المضطرب والمشاكل الاقتصادية، وفي النهاية ينتهي هاربا إلى عالم الكوابيس، التي تُمثّل صراعًا داخليًا لا نهاية له. يظل في رحلة مستمرة في محكمة الأسرة، حيث الحياة ليست سوى سلسلة من التضحيات التي لا تجلب نتيجة. هنا، يمر الكاتب عبر تساؤلات فلسفية حول الحياة والموت، الظلم والعدالة. يضيف إلى النص لمسة من السخرية الحادة، ويتركنا مع صورة مريرة عن محاكماتنا الداخلية، حيث كل شيء يبدو مكررًا وعقيمًا. القفلة، التي تتحدث عن مرزوق العتقي وعشرون عامًا من الانتظار، تتركنا في حالة من الذهول، وكأن الحياة ليست إلا تمهيدًا لخيبة أمل لا تنتهي.
تسير القصص كلها على نفس الإيقاع الساخر الذي يدمج بين الحزن والشفافية، حيث لا يُغري القارئ بالكلمات الجميلة، بل باللحظات التي يتركها الزمن تكشف عن عمق الألم. يتنقل الكاتب بين التراكمات الصغيرة في السرد، ويصنع حكايات تتشابك فيها الذكريات والأحداث وكأنها فسيفساء من العواطف المخبأة.
القصص في “ملح على المائدة” ليست مجرد أحداث، بل هي رحلة تتبع عبرها الإنسان في حزنٍ متواصل وابتساماتٍ غامضة، لا تجد إجابات سهلة. تكشف لنا عن التحديات الحقيقية التي نواجهها في الحياة اليومية، وتحثنا على أن نتمعّن في ما هو مخفي وراء الكلمات.
إن هذه المجموعة، بفضل لغتها البسيطة والمكثفة، تفتح أبوابًا من التأمل الفلسفي. الكاتب سمير الفيل لا يقدم إجابات، بل يزرع في القارئ الكثير من الأسئلة التي تظل تدور في ذهنه، لعل الإجابة تكون في السطور التي خلف السطور، في الفقد الذي لم يُذكر، في الذاكرة التي لا تنتهي.
ملح على المائدة هي تجربة تقرأها بكل حواسك، تجربة في الحياة اليومية التي تفيض بالتعقيدات والمشاعر غير المعلنة، ولكنها رغم كل شيء، تتركك في حالة من الشغف المستمر. وهي رحلة عبر الذاكرة، عبر الحب الذي يتسلل إلى كل زاوية، عبر الوحدة التي تشتد وتذوب في صمت الكلمات. سمير الفيل لا يقدم لنا دروسًا أو نصائح، بل يتركنا مع الأسئلة التي لا تنتهي: هل نحن في الحياة فعلاً؟أم نحن فقط في أحلامنا المبعثرة؟!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناقدة سورية، المجموعة صادرة عن دار الأدهم 2025